علي (ع) والتربية النبوية
تبليغ الرسالة الإلهية، وإنقاذ البشرية من الجاهلية والشرك وإخراجهم من الظلمات إلى النور، مهمة شاقة، ومسئولية ضخمة، وذلك لصعوبة تغيير التوجهات والعادات الموروثة المتجذرة في نفوس الناس وسلوكهم، خاصة حينما تأخذ صفة القداسة والالتزام الديني.
كما أن كل واقع اجتماعي عادة ما تحكمه مراكز قوى، تجد نفسها معنية بحمايته، والحفاظ عليه، تجاه أي محاولة للتغيير أو التطوير، قد تضر بسيطرتها وهيمنتها، أتؤثر على مصالحها.
هكذا يجد الانبياء انفسهم في مواجهة الواقع السائد المألوف، يقول تعالى:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (المائدة 104). وفي مواجهة الزعامات الاجتماعية المتشبثة بمواقعها، يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ (سورة سبأ ايه34).
ومع أن الله سبحانه وتعالى يختار لمهام النبوه والرسالة الأجدر والأكفأ ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾(سورة الانعام ايه124). إلا أن شدة المواجهة وعنفها كثيراً ما يعرقل مسيرة الدعوة، ويحدّ من إمكانية نجاحها.
وكلما كان التخلف والشرك أكثر تجذراً في المجتمع، ومراكز القوى أعمق نفوذاً، ااصبحت مهمة النبي اكثر مشقة وصعوبة. واستلزمت جهوداً أكبر، وتضحيات أوسع.
وجد النبي موسى نفسه حينما بعثه الله تعالى بالنبوة أمام مهمة عظيمة صعبة، حيث يواجه حاكماً مستبداً ادعى الألوهية لنفسه، وتمركزت في يديه اسباب القوة والغلبة، هو فرعون، من ناحية أخرى فإن مجتمع بني اسرائيل الذي ينتمي اليه موسى، والذي يطمح لانقاذه وتخليصه من الاستضعاف والاضطهاد، قد نخر فيه التخلف، وتكاثرت في وسطه السلبيات ونقاط الضعف، فلم يعد سهل الانقياد.
لذلك اتجه النبي موسى إلى الله تعالى طالباً منه دعمه ورفده بوزير مساعد، يعينه على تحمل هذه المسؤولية الخطيرة الجسيمة ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ (سورة طه ايه29-32) قال الشوكاني: أي يارب أحكم به قوتي، واجعله شريكي في أمر الرسالة. والأزر القوة، يقال : آزره: أي قواه.[1]
وواضح بأن تحديد اختيار الوزير من أهله، لما في ذلك من استثمار لعلاقة النسب والقرابة في توثيق الإخلاص والتعاون، كما أن معرفته بتوفر المواصفات القيادية في شخصية أخيه هارون، دفعته لترشيحه لهذا الدور الرسالي.
واستجاب الله تعالى لطلب نبيه موسى : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا﴾ (سورة الفرقان ايه 35 ).
إن من يقرأ تاريخ العرب قبل الإسلام، وماكانوا يعيشونه من جاهلية وضياع، حيث التعصب القبلي، والصراعات والحروب الداخلية، وسيادة عبادة الأصنام والأوثان، وخشونة الطبع، ومن يتأمل أوضاع مجتمع مكة، وغطرسة قريش واعتزازهم بانتمائهم وذواتهم، وكذلك تجذّر القوى اليهودية في أطراف المدينة، واحتكارهم للنفوذ الاقتصادي. إن من يقرأ ذلك يدرك ضخامة المسؤولية التي تحّمل أعباءها النبي محمد حينما بعثه الله تعالى بالرسالة. وبيّن له خطورة مهمته منذ البداية:﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ (سورة المزمل اية 5).
لذلك من الطبيعي أن يحتاج رسول الله إلى وزير ينصره ويساعده على القيام بمهام الدعوة، وأعباء الرسالة.
ورغم أنه قد حفت برسول الله مجموعة من الصحابة الأخيار، الذين سبقوا إلى الإسلام، وتفانوا في خدمته والدفاع عنه، إلا أن ضخامة المسؤولية كانت تستلزم وجود معين كفوء، قريب من نفس رسول الله ، يتعاطى معه بثقة مطلقة، وانفتاح تام.
ولم يكن ذلك الشخص غير علي بن أبي طالب، فهو الأقرب إلى رسول الله نسباً من بين الصحابة السابقين إلى الإسلام، والأكثر به التصاقاً وعلاقة.
فمن المعروف أن رسول الله نشأ في كنف عمه أبي طالب منذ الثامنة من عمره، بعد وفاة جده عبد المطلب، فتحمل أبو طالب وزوجته فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رعاية رسول الله.
ولما ولد علي كان لرسول الله من العمر ثلاثون سنة، وقد تزوج خديجة بنت خويلد، وتشير المصادر التاريخية إلى أن الرسول أخذ علياً إلى داره ليقوم برعايته وتربيته.
يروي الطبري في تاريخه عن سلمة، عن أبي إسحاق، قال: كان أول ذكر آمن برسول الله، وصلى معه، وصدقه بما جاءه من عند الله، علي بن أبي طالب، وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب، أنه كان في حجر رسول الله قبل الإسلام. وعن مجاهد بن جبر أبي الحجاج قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، وما صنع الله له، و أراده به من الخير: أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله للعباس عمه، وكان من أيسر بني هاشم: «يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى، من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ من بنيه رجلا، فنكفيهما عنه». قال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا:« إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ماهم فيه».
فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما.
فأخذ رسول الله علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول اللهحتى بعثه الله نبياً، فاتبعه علي، فآمن به وصدقه.[2]
وقد تحدث الإمام علي في إحدى خطبه عن نشأته في كنف الرسول قائلاً: «وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنرلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلي صدره، ويكنُفُني في فراشه، ويُمسُني جسده، ويُشُّمني عَرفَه، وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه»[3] .
ولا يمكن إنكار ما لهذه التربية من أثر في صياغة شخصية علي، واقترابها من شخصية رسول الله، وبالتالي تهيئتها لدور الرديف والوزير المعتمد، في مهمات الرسالة الإلهية.
يقول المفكر المصري عبدالكريم الخطيب:
«والحق أن علياً كان أوفر الناس حظاً، وأطولهم صحبة لرسول الله، فمنذ ولد علي، وهو بين يدي محمد، قبل النبوة وبعدها، لم يفترق عنه، في سلم او حرب، وفي حلّ أسفر، بل كان بين يدي النبي، وتحت سمعه وبصره، إلى أن لحق الرسول بالرفيق الأعلى، وهو على صدر علي، حيث سكب آخر أنفاسه في الحياة.
وأنت إذا ذهبت تستعرض جميع الذين كانوا في كنف النبي، من زوج وولد، لم تجد أحدا منهم قد كان له من طول صحبة النبي، ومن مخالطته، ماكان لعلي، فقد صحب علي النبي صحبة متصلة أكثر من ثلاثين عاماً، وتلك مدة لم يظفر بها أحد من المسلمين»[4]
كما طلب النبي موسى من الله تعالى ان يسعفه بوزير من أهله، يشاركه في القيام بأمر الرسالة،ورشحّ أخاه هارون لهذا المقام إدراكا منه لخطورة ظروف تبليغها، فقد ورد في المصادر الإسلامية أن النبي محمداً قدم نفس الطلب لله تعالى، ورشح علياً لوزارته.
ينقل السيد الآلوسي البغدادي في تفسيره مايلي: «وجاء أن النبي دعا بمثل هذا الدعاء إلا أنه أقام عليأ كرم الله تعالى وجهه، مقام هارون ، فقد اخرج ابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر، عن أسماء بنت عميس قالت: «رأيت رسول الله بإزاء ثبير، وهو يقول: أشرق ثبير، أشرق ثبير، اللهم إني أسألك مما سألك أخي موسى: أن تشرح لي صدري، وأن تيسّر لي أمري، وأن تحل عقدة من لساني يفقه قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أخي، أشدد به أتزري، وأشركه في امري، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا».[5]
وقد روت مصادر الحديث المعتمدة عند السنة والشيعة مايعرف بحديث المنزلة، حيث اعتبر النبي علياً منه بمنزلة هارون من موسى.
1- ففي صحيح البخاري حديث رقم (4416) عن مصعب بن سعد، عن أبيه: أن رسول الله خرج إلى تبوك، واستخلف علياً، فقال: «أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ »قال :«ال اترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه ليس نبي بعدي»[6]
2- ومثله وجاء في المستدرك على الصحيحين حديث رقم (4575) عن طريق بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعذ. جاء فيه عن طريق آخر تحت رقم(3294). [7]
3- و أورده مسلم في صحيحه حديث رقم (2404) عن ثلاثة طرق: عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد عن أبيه سعد وعن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد. وعن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد.[8]
4- وفي مسند احمد بن حنبل جاء عن طرق عديدة، كالحديث رقم 14693 عن طريق جابر بن عبد الله. وحديث رقم 3062 عن ابن عباس. وحديث رقم 1490 ورقم 1509 ورقم 1505 ورقم 1583 ورقم 1600. عن سعد بن أبي وقاص وموارد اخرى. [9]
5- واورده ابن ماجه في سننه في ( فضائل علي) عن ابن سابط وهو عبد الرحمن، عن سعد بن أبى وقاص قال: قدم معاوية في بعض حجاته، فدخل عليه سعد، فذكروا علياً فنال منه، فغضب سعد، وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه،» وسمعته يقول:« أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي». وسمعنه يقول: «لأعطين الراية اليوم رجلاً يحـــب الله ورسوله».[10]
ومن تتبع أسناد الحديث وطرق روايته، يتضح أنه قد رواه جمع من الصحابة كجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبى سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وزيد بن ارقم، وأبي أيوب الأنصاري, وأسماء بنت عميس، وأم سلمة، وآخرين.
كما أنه قدورد بعدة صيغ، وفي أكثر من مورد ومناسبة، من بينها غزوة تبوك، وهو لايقتصر عليها، بل ورد في غيرها أيضاً.
وبعيداً عن الجدل الطائفي والمذهبي، فإن الحديث صحيح السند، ثابت الرواية، متفق عليه بين المسلمين، وهو يدل على أن لعلي من رسول الله نفس مكانة هارون من موسى، باستثناء النبوة التي كانت لهارون، ولانبوة بعد رسول الله.
وإذا كان هارون يلي موسى في المكانة والفضل، وكان شريكه ووزيره ومعتمده في حمل أعباء الدعوة والرسالة، فإن هذا المقام ثابت لعلي بن ابي طالب بصريح النصوص والاحاديث.
إن الدرس الهام الذي يجب أن نستفيده مما سبق، إضافة إلى معرفة مقام علي ومكانته المميزة، هو دور التربية والإعداد في صنع الشخصية الكفوءة.
لقد شاء الله تعالى أن يتبوأ علي بن أبي طالب موقعية متقدمة، في خدمة الرسالة الإلهية، فهيأ له فرصة تربوية خاصة، حيث نشأ في كنف رسول الله منذ نعومة أظفاره، وتربى في حجره منذ سنوات عمره الأولى، وبالتالي كان بعيداً عن تأثيرات أجواء الجاهلية والشرك، فهو لم يسجد لصنم قط، لذلك خصه المسلمون دون بقية الصحابة بقول: كرم الله وجهه. كما كانت شخصية الرسول ومكارم أخلاقه، خير قدوة، وأفضل معلم، أنار لعلي طريق الحياة الرسالية الجهادية.
إننا إذ نرغب ونتمنى صلاح ذرياتنا وأبنائنا، فإن علينا أن نهيء لهم أجواء التربية الصالحة، وذلك عبر التزامنا نحن أولا بخط الصلاح والاستقامة، فالعائلة الصالحة، هي القادرة على تربية الولد الصالح.
إن تحمل الإنسان لمسؤولية أبنائه وعائلته، يجب ان يكون دافعاً له نحو الالتزام بمبادئ الدين واحكامه، وبمكارم الاخلاق والصفات، فذلك هو الذي يؤهله للقيام بوظيفته التربوية، ودوره التوجيهي، إن بعض الآباء يضعفون أمام دواعي الأهواء والشهوات، ويسمحون لأنفسهم بارتكاب بعض المحرمات والمحظورات، لكن بعيداً عن أنظار عوائلهم وأبنائهم، في الوقت الذي يوجهون فيه أبناءهم ليكونوا صالحين ملتزمين، فهل يتوقعون لكلامهم المجرد أن يترك أثرا في نفوس أبنائهم ؟
إن التوجيه الصادق، الذي يتطابق مع سلوك الاستقامة والصلاح، هو التوجيه المؤثر.
يقول الإمام علي عن تربية رسول الله له: «وقد كنت أتبعه اتباع الفصيل لأثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به».