الأمة الإسلامية ومواجهة الإرهاب
تحاول الإدارة الأمريكية أن تعوِّض ما فقدته من كبريائها وهيبتها، خلال أحداث الحادي عشر من أيلول الماضي، في الهجوم الانتحاري على مركز التجارة العالمي، ومبنى وزارة الدفاع، في نيويورك وواشنطن. لتؤكد أمام شعبها والعالم احتفاظها بموقع الزعامة والهيمنة، واستعادتها زمام المبادرة تجاه التحديات العنيفة.
لقد كانت الخسارة الأكبر على أمريكا إضافة إلى فقد الآلاف من مواطنيها، وعشرات البلايين من الدولارات من اقتصادها وثرواتها، تتمثل في الجرح العميق الذي أصاب كبرياءها، والصفعة القاسية التي نالت من هيبتها، وهي القوة الأعظم المتفردة بالهيمنة والسيطرة على العالم.
ويكفي أن نعلم ـ كشاهد على مدى عمق التأثير الهائل الذي تركه الحدث في معنويات الإدارة الأمريكية ـ ما انتاب الرئيس الأمريكي نفسه من هول الصدمة، فقد ظل -كما تشير التقارير- عشر ساعات كاملة (من العاشرة صباحاً حتى الثامنة مساءً) بعيداً عن مكتبه، ومركز قيادته، راكباً طائرة هائمة في الأجواء، متردداً بين المطارات المدنية والعسكرية، عاجزاً عن حزم أمره ولم تبق أحواله هذه الساعات الحرجة سراً، لأن طائرته التي كان يستقلها من فلوريدا كان عليها مجموعة من الصحفيين، ورواياتهم الآن متداولة بالتفصيل، داخل قاعات التحرير في فضائيات وصحف نيويورك بالذات، وبين الروايات أن الرئيس بوش تلقى ما سمع، وانتابته حالة من عدم التصديق، تعثر معها لسانه، وشحب وجهه، بينما هو وسط جمع من أطفال مدرسة كان يزورها في فلوريدا.
وضاعف من اضطراب الرئيس أنه في تلك اللحظة تلقى أنباءً تقول إنه شخصياً مطلوب ومهدد، وإن إحدى الطائرات «القذائف » تبحث عنه. وتحوّل الرجل الذي يملك وحده مفتاح القوة النووية الأمريكية، في ثانية من رئيس للعالم إلى أسير في عهدة حرسه الخاص، فقد صمم الحرس ألا يعود الرئيس إلى واشنطن إلا بعد أن ينجلي الموقف، وتنطفئ آخر إشارة حمراء فوق العاصمة.
واتصل به كثيرون من أركان حكمه، وقادة حزبه منزعجين من تأخيره وهو يتعلل بالخطر والحرس، حتى كلمته والدته «بربارا بوش» مصرة عليه أن يعود إلى مكتبه لتطمين الأمريكيين.. وهكذا عاد من غيبته الجوية إلى مقر قيادته في البيت الأبيض. وخلال الأربع والعشرين ساعة التالية نزلت دموعه أمام كل الناس وعلى شاشات التلفزيون،خمس مرات»[1] .
هذه الهزّة والصدمة المعنوية التي أصابت الهيبة والقوة الأمريكية، إضافة إلى الخسائر البشرية والمادية الفادحة، هي التي تضغط على الإدارة الأمريكية الآن، للقيام بعمل ضخم كبير، تستعيد من خلاله هيبتها المخدوشة، وتؤكد قدرتها وهيمنتها، أمام شعبها والعالم.
تريد أمريكا لرد فعلها على أحداث 11 أيلول الماضي أن يتصف بسمتين رئيسيتين: التحشيد واستعراض القوة. فرغم أنها هي التي استهدفت، وأنه سبق وأن حصلت حوادث وهجمات إرهابية في بلدان عديدة من العالم، وكانت كل دولة تتصرف بمفردها وبالتعاون الثنائي مع حلفائها، إلا أن أمريكا حينما تصاب فيجب أن يهب العالم كله للتضامن معها، والدفاع عنها،لذلك تسعى لتحشيد العالم كله خلفها، لبناء تحالف عالمي بقيادتها، تحت عنوان مواجهة الإرهاب، والمسألة الأساس هو إعادة التأكيد على قيادة أمريكا وزعامتها، وأن العالم كله يصطف خلفها، وأن لا أحد يجرأ على التردد في الخضوع والاستجابة، لأن الرئيس الأمريكي وضع الجميع أمام خيارين: إما مع أمريكا أو مع الإرهاب، كما صرح بذلك. وبالتالي فإن من لا ينضم للتحالف الذي تقوده أمريكا، يضع نفسه في الخندق المعادي، ويعرض نفسه لمختلف الإجراءات الانتقامية.
ولإرواء غليل الأمريكيين في الانتقام وأخذ الثار، لابد من عمل عسكري تستخدم فيه قوة تدمير ضخمة، وتسبقه وترافقه إجراءات قاسية، على مختلف الأصعدة، الأمنية والاقتصادية والسياسية والإعلامية.
يمارس الأمريكيون ضغوطا هائلةً على الدول العربية والإسلامية لكي ينضموا تحت لواء الحملة الأمريكية، خاصة وأن أصابع الاتهام بالهجوم على نيويورك وواشنطن قد وجهت إلى جهة إسلامية، بالطبع دون تقديم أدلة واضحة، و إنما بالاستناد إلى أدلة ظرفية، كما صرحت بذلك جهات اطلعت عليها، فقد قال وزير الداخلية الباكستاني لجريدة الحياة: إن الأدلة الأمريكية ظرفية لا ملموسة [2] .وكذلك تناولت الصحف البريطانية ضعف الأدلة التي قدمها رئيس الوزراء طوني بلير إلى مجلس العموم البريطاني، وكتبت صحيفة الغارديان في عمود رئيسي تحت عنوان: « لايزال الدليل القاطع غير موجود» إن الأدلة التي تضمنتها الوثيقة المقدمة من بلير لن تكفي، من وجهة النظر القانونية، إن معظم ماتضمنته كان ذا طابع ظرفي تماماً.[3]
هذا الاتهام لجهة من المسلمين وما رافقه من حملة إعلامية ثقافية، للتهجم على الإسلام والمسلمين، وإثارة الكراهية ضدهم، مما سبب حصول مئات الاعتداءات في أمريكا وأوربا واستراليا على مؤسسات وأفراد من المسلمين، كل ذلك أوقع المسلمين تحت ضغط معنوي، تريد أمريكا استثماره بدفعهم إلى الانضمام للتحالف العالمي الذي تقوده باسم مواجهة الإرهاب.
كما تستخدم نفوذها السياسي وهيمنتها على المؤسسات الدولية العالمية، حيث تستصدر من مجلس الأمن ما تريد من قرارات، وكذلك نفوذها الاقتصادي، بالتلويح بالدعم والمساعدات، والتهديد بالحصار ومنع التسهيلات، من أجل أن تحشد كل الدول والحكومات والجهات الإسلامية، حلف قيادتها وتحت لوائها، باتجاه معركة أو معارك هي تقرر مكانها وزمانها وضحاياها.
ليس هناك شرع أو عقل يُقّر الإرهاب أو يقبل به، والإسلام كدين أنزله الله تعالى رحمة للعالمين، جعل السلم والسلام شعاراً له، وعنواناً لرسالته، فالتحية التي يلقيها المسلم على من يلقاه هي: «السلام عليكم » والقرآن يدعو جميع المؤمنين به إلى الالتزام بالسلم والسلام يقول تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ (سورة البقرة 208).
إن مقياس الإيمان – حسب النصوص الإسلامية- هو احترام حقوق الناس المادية والمعنوية، كما روي عن النبي أنه قال: «المؤمن من أمنه الناس على أموالهم و أنفسهم»[4] .
وفي حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق : «المسلم من سلم الناس من يده ولسانه» [5]
ويعتبر الإسلام أن الاعتداء على شخص بريء بمثابة إعلان حرب على الإنسانية كلها،يقول تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (سورة المائدة 32)
وحتى في حالة الحرب والجهاد والذي شرعه الإسلام للدفاع وردع المعتدي يقول تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(سورة البقرة 190) فالجهاد للدفاع، ولا يصح مقاتلة مسالمين لم يقوموا بأي عدوان.
في حالة الحرب المشروعة يضع الإسلام الحدود والضوابط، ويؤكد على الآداب والأخلاقيات الإنسانية التي تحمي الأبرياء والمدنيين العزل، يروي أنس بن مالك عن رسول الله وصيته لجيش الجهاد الإسلامي قائلاً: « انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولاتقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولاتغلُّوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين»[6]
وعن عبدالله أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله مقتولة فأنكر رسول الله قتل النساء والصبيان.[7]
وعن أبي هريرة عن النبي قال: «الإيمان قيد الفتك، لايفتك مؤمن» والفتك:أن يأتي الرجلُ وهو غارّ غافل فيشدّ عليه فيقتله[8]
واستثنى الفقهاء عشر طوائف أن يقتلوا في الحرب، بناء على نهي النصوص الدينية عن ذلك قالوا: « لايقتل في الحرب عشر طوائف: الشيخ الفاني، والمرأة، والطفل قبل البلوغ، والمقعد، والأعمى، والمريض الذي قعد به المرض، والرسول، والراهب المتبتل، والذي لا يصلح قتله لمصلحة، والمجنون بأقسامه»[9]
وقال الفقهاء أيضاً: «يكره تبييت العدو، أي الإغارة عليهم ليلاً بلا إشكال، لخبر صهيب قال سمعت أبا عبدالله جعفر الصادق يقول: «مابيّت رسول الله عدواً قط ليلاً»بالإضافة إلى الاستحسان فإن الليل معرض كثرة القتلى، وقتل النساء والأطفال، وقتل المسلمين بعضهم بعضاً، واستبشاع ذلك
عرفاً»[10]
والحديث عن الرحمة والسلم والتسامح في الإسلام، ونبذ العنف والقسوة والإرهاب، هو حديث عن جوهر الإسلام، والغاية التي يريد تحقيقها في المجتمع البشري، وهو مايحتاج إلى بحوث مفصلة واسعة.
ابتلي الإسلام والمسلمون بفئات تنتسب إليه، وتمارس باسمه الإرهاب والعنف، منطلقة من عقلية امتلاك الحقيقة المطلقة، وعدم احتمال الرأي الآخر، دينياً كان أو سياسياً، فكل من لا يقبل رأيهم ومنهجهم فهو كافر مشرك، أو مبتدع ضال، يستحلون حرمته، ويعتدون على حقوقه.
لقد عانت الأمة الكثير من الفتن الداخلية، والتمزق والاضطراب الاجتماعي، بسبب هذه التوجهات المتطرفة، وشهدنا في هذا العصر، ممارسات جماعات التكفير والعنف، في مصر والجزائر وباكستان وأفغانستان وغيرها.
وعادة ما تستفيد هذه الفئات من أجواء الانغلاق الفكري والسياسي، وتوظيف حالات التأزّم الاجتماعي، والانحراف عن منهج الدين، في تعبئة أذهان الناشئة، واستقطابهم نحو توجهاتها.
إن انتشار الوعي الصحيح بمفاهيم الدين، وفسح المجال لحرية الفكر والرأي، وإتاحة الفرصة للتعددية والحوار، ومعالجة المشاكل والضغوط التي تعاني منها المجتمعات، هو الذي يحدّ من أفكار التطرف والتشدد.
ترفع أمريكا لحملتها شعار مواجهة الإرهاب ، لكنها تمارس سياسة الانتقاء، فما كان متعارضاً عن مصالحها تصنّفه إرهاباً، وتقيم الدنيا ولاتقعدها ضده، أما الإرهاب الذي يستهدف غيرها من الدول والشعوب والقوى، فهي تغضّ الطرف عنه، وقد تدعمه وترعاه، كما هو الحال في دعمها الكامل، ومساندتها الشاملة للإرهاب الصهيوني، وماذا يمكن أن يسمى احتلال أراضي الغير بالقوة؟ وتشريد شعب كامل من وطنه؟ وقصف المناطق المدنية والسكنية؟ واغتيال القيادات السياسية بالصواريخ من الجو؟ وقتل النساء والأطفال؟ وتهديم المنازل؟ وتخريب المزارع؟ إذا لم يكن ذلك إرهاباً فماذا يعتبره الأمريكيون؟.
والمدهش حقاً أن يُدين الأمريكيون مواجهة هذا الإرهاب والبطش الصهيوني، فيعتبرون دفاع الفلسطينيين واللبنانيين عن أراضيهم و أنفسهم، نشاطاً إرهابياً، بينما يستقبلون الإرهابي السفاح شارون بالأحضان!!
ترى كيف يمكن للمسلمين أن يثقوا بمصداقية شعار الحملة والتحشيد الأمريكي ضد الإرهاب؟
إن وجود الاحتلال والإرهاب الصهيوني هو الأرضية التي تغذّي التطرف وعدم الاستقرار في المنطقة والعالم.
إن سياسات الظلم والجور على مستوى العالم هي التي تفرِّخ الإرهاب، وتنشر الكراهية والأحقاد، وتدفع نحو ردود فعل انتحارية جنونية، عند من لايجدون أنفسهم قادرين على حماية حقوقهم ومصالحهم بالطرق السلمية المشروعة.
وأهم ماينبغي التنبيه إليه في هذه الظروف الحساسة، هو أن لاتتحول المشكلة التي تواجهها أمريكا الآن إلى مشكلة داخلية بين المسلمين أنفسهم، بين مؤيد ومعارض، وأن نحذر الفتن والقلاقل، لنحافظ على أمن أوطاننا ومجتمعاتنا.