الإمام الشيرازي ..الانطلاقة والفكر
لم يكن الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (1347هـ 1422هـ) الذي افتقدته الأمة الإسلامية مطلع هذا الشهر (2 شوال) مجرد مرجع ديني، وإن كان من أبرز مراجع الدين في هذا العصر.
ولم يكن مجرد شخصية دينية سياسية. وإن كان في طليعة القيادات الدينية المعاصرة ذات الاهتمام والتأثير السياسي ، ولم يكن مجرد مفكر إسلامي ومؤلف موسوعي، وإن كان قد ضرب الرقم القياسي في عالم التأليف، حيث تجاوز إنتاجه الألف كتاب في مختلف مجالات المعرفة .
بل إن ميزته الأهم تكمن فيما يطرحه ويشكله من مشروع متكامل لنهضة الأمة، وبناء قوتها الحضارية .
وحتى نفهم حياة هذا الرجل لا بد وأن نتحدث شيئاً يسيراً عن الظروف التي عاش فيها وانطلق بحركته منها .
لقد انحدر من عائلة كريمة كان أفرادها يتحملون مسؤولياتهم تجاه الدين والأمة ، وما كانوا مجرد علماء وفقهاء ـ وإن كانت هذه الصفة مهمة ومتوفرة فيهم ـ لكنهم إلى جانب ذلك كانوا يحملون راية الجهاد والدفاع عن الدين والأمة، كالميرزا محمد تقي الشيرازي والذي قاد ثورة العراق الكبرى عام 1920م ضد الاستعمار البريطاني، واستنقذ العراق من هيمنته واحتلاله .
والمجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي ( 1230ـ 1312هـ ) الذي واجه محاولات الإنجليز للسيطرة على اقتصاد إيران وصولاً إلى الهيمنة السياسية، عبر احتكار امتياز تسويق التبغ الإيراني ، فأصدر فتواه الشهيرة بتحريم التنباك ، مما عبأ الشعب الإيراني لتحدي الهيمنة الأجنبية، وأسقط تلك المحاولات، فيما عرف بثورة التنباك. والميرزا عبدالهادي الشيرازي و الميرزا مهدي الشيرازي واللذان كان لهما دور في مواجهة المد الشيوعي في العراق، وغيرهم من رجالات أسرته الذين حملوا راية الجهاد والدفاع عن الدين والأمة.
هذا الرجل نشأ في أحضان هذه العائلة ولذلك كان يتحسس مسؤوليته تجاه واقع الأمة والدين.
كانت الحضارة الغربية المادية تواصل زحفها على العالم الإسلامي، عسكرياً واقتصادياً والأهم من ذلك فكرياً وثقافياً، كانت هيمنة الغرب على الحياة العامة عبر تقدمهم التكنلوجي والصناعي والاقتصادي هيمنة مطبقة، والأهم من ذلك ما صاحب هذه الهيمنة المادية من هيمنة نفسية وفكرية، أصابت جماهير الأمة بالهزيمة والانكسار، ففقدوا الثقة في دينهم، وفقدوا الثقة في أنفسهم، وانبهروا بالحضارة الغربية المادية، ونشأت الأحزاب المختلفة الغربية والشرقية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في بلاد المسلمين، وخاصة البلاد التي تشكل مراكز دينية كالعرق وإيران، وانخرط فيها أبناء المسلمين حتى من البيوتات الدينية والبيوتات العلمية، بيوت و عوائل لعلماء كبار لكن بعضاً من أبنائهم وشبابهم استوعبوا وخدعوا واستدرجوا من قبل تلك التيارات
كانت الأمة تعيش تخلفاً عاماً في مختلف المجالات .. التخلف السياسي .. الاقتصادي .. العلمي .. الصناعي .. هذا التخلف كان يدفع بجماهير الأمة وأبناء الأمة ومثقفيها إلى الانبهار بالحضارة الغربية، والارتماء في أحضانها وتياراتها، ومن ناحية ثالثة كانت الحالة الدينية راكدة جامدة في الغالب، لم يكن هناك وعي بهذا التحدي ، ولم يكن هناك نشاط على مستوى هذا التحدي، هذا السيد الجليل (الإمام الشيرازي) أدرك مسؤوليته و واجبه، كان وعيه يدفعه إلى تحمل المسؤولية، إضافة إلى الأجواء التي عاشها في عائلته، والتي كانت تحفزّه لتحمل مسؤوليته في الدفاع عن الدين والأمة، فقد كان يسمع من والده ووالدته وسائر أقربائه قصصاً ومشاهد وذكريات، عن نضالات وجهاد أعلام الأسرة، وتضحياتهم في سبيل الدفاع عن الدين وإنقاذ الأمة . ولذلك انطلق للعمل والجهاد، ولم يكن هو الوحيد في ساحة الإصلاح والجهاد والعمل الديني في هذا العصر، كان هناك في نفس الفترة ،وفي نفس المرحلة،علماء وفقهاء آخرون، في إيران والعراق، امتلكوا هذا الوعي الرسالي، وأحسوا بواجبهم ومسؤوليتهم، لكنهم بالطبع كانوا قلة قياساً إلى العدد الكبير من العلماء، ومن جموع الحالة الدينية بشكل عام .
عندما انطلق للعمل واجه ـ كبقية المصلحين ـ عقبات ومشاكل ومشاق من ابرزها: مخططات الاستعمار وعملائه.
حيث كانت الحكومة العراقية خاضعة للهيمنة والتوجيه الاستعماري، وكان الاستعمار يرصد حركة المجاهدين ويدرس شخصياتهم، فسفاراتهم تضم الأجهزة المتخصصة حيث كانوا يدرسون العلماء والمراجع والخطباء والفعاليات ، وكانت استخباراتهم نافذة في كل مكان، فإذا رأوا أن شخصاً يفهمهم، ويريد أن يعمل لمواجهتهم، ورأوا أن لديه قدرات وطاقات لا يتركونه يعمل في الساحة ، فالاستعمار عندما يرى مجاهداً لا يدعه وشأنه ..
ومن طبيعة الاستعمار أنه يعمل في الظلام ـ كاللص ـ فإذا ما كشفه شخص وأثار الناس عليه، فإنه يقاومه و يحاول أن يقضي عليه .
الاستعمار يحاول أن يسرق نفوسنا وأفكارنا وثرواتنا، ولكن ذلك يحدث في حالة استغفالنا وجهلنا وتخلفنا، فإذا كانت هناك حركة واعية،وأشخاص مدركون لمخططات الاستعمار، فإنهم يحبطون هذه المخططات ، من ناحيته يقوم الاستعمار بمحاولة تعويق حركتهم، وتحطيم شخصياتهم، وتشويه صورتهم، ومنعهم من أن يقوموا بدورهم في الساحة،وهذا ما واجهه كل المصلحين و المجاهدين، والسيد الراحل عاش مثل هذه الحالة وعانى الضغوط بأساليبها المختلفة من قبل الاستعمار وعملائه الحاكمين و النافذين.
لم تكن الحالة الدينية السائدة تقبل بانطلاق حركة تجديدية تغييرية في المجتمع، ولذلك واجه المصلحون ضمن نفس الدائرة الدينية وفي مختلف البلدان، معارضة من بعض المتدينيين، وإنك حين تقرأ مذكرات المصلحين في تلك الفترة تجد ذلك جلياً.
فقد كتب الإمام الخميني (رحمه الله) عن معاناته مع من سماهم بالمتقدسين وذكرهم في العديد من خطاباته، وحين تقرأ حياة الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) تجد المعاناة واضحة جلية، وكذلك هو الوضع بالنسبة للإمام الراحل السيد محمد الشيرازي، من ناحية أخرى كان التخلف العام الذي يعيشه المجتمع يصنع العقبات أمام طريقه، لكنه انطلق بهمة قعساء، وعزم عظيم،وتصميم ثابت، وشق طريقه وعمل وجاهد في مختلف البقاع والمناطق.
البعض قد يناضل في منطقة معينة، وحينما ينتقل إلى أخرى يجد نفسه معفياً من مهمة النضال، أو قد يعمل في ظرف معين، فإذا ما تغير الظرف برر لنفسه عدم إمكانية العمل في الظرف الجديد، لكن الفقيد الراحل في أية منطقة حلَّ، وفي أي ظرف كان يعيش، ومنذ مقتبل عمره وحياته بدأ العمل الرسالي .. بدأ التحرك الجهادي، واستمر عليه إلى آخر لحظة من لحظات حياته .
في شهر رمضان المبارك المنصرم كما أخبرني القريبون منه كان من أكثر الأشهر حيوية ونشاطاً، وكأنه ينظر بعين الله، ففي العشر الأواخر من شهر رمضان طلب من جهازه أن يهيئوا له لقاءً مع المسؤولين الأفغان الموجودين في إيران، من علماء وقيادات وفعاليات، وأصرَّ على أن يتم هذا اللقاء بأسرع وقت، وبالفعل فقد تم اللقاء واجتمع بهم إلى وقت متأخر من الليل وتحدث لهم حول الوضع الجديد في أفغانستان، وقدّم لهم آراءه ونصائحه وتوجيهاته بهذا الخصوص، وفي ليلة أخرى طلب أن يجتمع بعدد من الشخصيات القيادية العراقية، وقدم آراءه لهم حول القضية العراقية،والتطورات التي تمر بها، والتوقعات المحتملة، وفي ليلة ثالثة طلب بعض رؤساء الهيئات واللجان الدينية والاجتماعية الموجودة في إيران ، واجتمع بهم اجتماعاً مفصلاً ، وفي ليلة أخرى طلب الاجتماع مع الفعاليات النسائية، والهيئات واللجان العاملة في الحقل النسوي، وجلس معهن ،وقدم لهن توصياته وكان ذلك في آخر ليلة من ليالي شهر رمضان وهي ليلة العيد، وبعد اجتماعه بهن بفترة وجيزة أصيب بنزيف في الدماغ، ونقل إلى المستشفى، ودخل في غيبوبة، ومنها انتقل إلى الرفيق الأعلى .. حياته كلها حركة .. كلها جهاد، واستطاع خلال هذه الفترة أن ينجز، وأن يعمل، وأن يقدم تجربة متميزة.
ففي المجال العلمي كان لسماحة السيد المرجع عطاء علمي فكري غزير، حتى أن الرقم الذي وصلت له مؤلفاته تعتبر رقماً قياسياً ، فليس هناك مؤلف وصل إلى هذا الرقم من عدد المؤلفات والكتابات.
- وفي المجال التربوي ربى مجموعة من الكوادر والكفاءات، فقد تخرج من مدرسته مجموعة من العلماء الفقهاء، والخطباء والكتاب والمفكرين والعاملين في مختلف المجالات ، جيش من الكوادر والكفاءات تربوا على يديه ، وفي رحاب مدرسته ، وأصبح العديد منهم يقود نشاطات علمية واجتماعية كبيرة في ساحات مختلفة .
- وعلى صعيد بناء المؤسسات فقد بنى ورعى إنشاء المئات من المؤسسات والمشاريع، من حوزات ومكتبات ومنظمات ولجان وهيئات ومستوصفات طبية، وأنشطة علمية، هذه المؤسسات والمشاريع الضخمة التي رعاها، و هذا التيار الجماهيري الضخم الذي أوجده ونماه ورباه .. يحتاج الإنسان إلى وقت طويل حتى يحصي الأنشطة والمشاريع والمؤلفات والمؤسسات والتلامذة الذين أنتجهم هذا الرجل في فترة عمره وجهاده .
بانتقال السيد الشيرازي إلى عالم الآخرة يبدأ فكره مرحلة جديدة، فإذا كانت كتاباته وأفكاره في أيام حياته تتأثر بوجوده الشخصي، حيث كان البعض قد أخذ موقفاً سلبياً من أفكاره وكتاباته بسبب وجوده الشخصي، إما حسداً أو منافسة أو لشبهة وسوء فهم، فإن انتقاله إلى جوار ربه ربما يفتح الباب لمرحلة جديدة لهذا الفكر، وهذا النتاج العلمي الغزير، أتوقع أن فكره سيأخذ مداه في الساحة الإسلامية، وهو بالطبع ملك لجميع الأمة، لا تحتكره فئة معينة، أصبح الآن فكراً ومدرسة وتراثاً ورصيداً لكل العلماء، ولكل المفكرين، ولكل المثقفين، ولكل العاملين .. ينفتحون عليه بدون حواجز ، إذا كانت في حياته هناك بعض الحواجز، فبارتحاله الآن إلى الرفيق الأعلى انتهت هذه الحواجز، يدخل الإمام الشيرازي الآن مرحلة جديدة، وفكره يدخل حياة جديدة ستكون- باذن الله- أثمر وأنفع وأبقى من المرحلة الأولى التي عاشها، وكذلك ما سيجده من ثواب عظيم عند الله تعالى .
وما تضمنته بعض بيانات نعيه من قبل كبار العلماء والقيادات الدينية ، من ثناء على جهوده الفكرية والعلمية، ومن دعوة لدراسة كتبه ومعارفه، هي من مؤشرات هذه المرحلة الجديدة، في انفتاح الساحة على فكر الإمام الشيرازي.
1/ الأصالة
نعني بها ارتباطه بالمصادر الإسلامية، فآراؤه .. وأفكاره .. ونظرياته لم تتأثر بهذا التيار أو ذاك من هنا أو هناك، وليست استحسانات أو استذواقات، وإنما لديه ارتباط عميق وثيق بالينابيع الإسلامية، ولعلي لا أبالغ إذا قلت : إن سعة اطلاعه على النصوص الإسلامية ومداومته على مراجعتها لا نظير لها في عالم الفقهاء والعلماء .
ففي مجال القرآن الكريم عدا عن حفظه للقرآن، تجده يجتهد في مهمة التفسير حتى لقد فسر القرآن عدة مرات ، في كل مرة يفسر القرآن تفسيراً كاملاً ومختلفاً عن التفسير الآخر، وذلك انطلاقاً من أن القرآن الكريم ـ كما ورد في حديث الإمام علي الرضا :« هو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة »
فقد كتب تفسيراً للقرآن تحت عنوان ( تقريب القرآن إلى الأذهان ) أيام كان في كربلاء، وقد طبع في ثلاثين جزءاً، كما كتب تفسيراً موضوعياً للقرآن الكريم في عشرة مجلدات، وكتب تفسيراً مختصراً ( توضيح القرآن أو تسهيل القرآن ) وكان لديه في الكويت درس ليلي في تفسير القرآن استمر طوال فترة وجوده في الكويت ، أي حوالي تسع سنوات .
إضافة إلى مجموعة من الكتب والبحوث التي كتبها حول القرآن الكريم مثل : ( الفقه : حول القرآن الكريم ) و ( متى جمع القرآن ) و ( بيان التجويد ) وغيرها .
وفي مجال الروايات تجد له اطلاعاً واسعاً جداً على الروايات والأحاديث الواردةعن النبي وأهل بيته وذلك واضح في كتاباته وخطاباته، واستدلالاته الفقهية .
ـ وفي وقت مبكر من حياته جمع الوسائل والمستدركات في كتاب واحد يقع في أربعين جزءاً طبع منها خمسة مجلدات في القاهرة
ـ كما باحث الكثير من كتب الحديث كبحار الأنوار مع بعض الفضلاء، وهو في منهجه يقترب من منهج المحدثين ، حيث يميل إلى القبول بكل ما ورد في الكتب الأربعة، ومن النادر جداً أن يرد رواية من الروايات ، بل تجده يوجه الروايات ويؤولها ويجتهد في التوفيق بينها، وتجد ذلك واضحاً في كتبه، ككتاب الآداب والسنن ، وفي مختلف أبواب كتاب الفقه .
ـ وقد شرح نهج البلاغة في كتابين منفصلين ، أحدهما مطبوع وهو ( توضيح نهج البلاغة ) في أربعة مجلدات والآخر موسع لم يطبع.
ـ كما شرح الصحيفة السجادية شرحاً مختصراً مطبوعاً ، وشرحاً آخر موسعاً يقع في ثلاثة مجلدات لم يطبع بعد، وألف كتاباً يقع في عشرة مجلدات شرح فيه كل الأدعية والزيارات الواردة .
ولكثرة مراجعته ومتابعته للروايات والأحاديث تجد لديه حالة من الحضور الذهني لكل النصوص، وذلك واضح من كثرة استشهاداته في كتبه وخطاباته .
إنه لا يكاد يتحدث في موضوع أو يطرح فكرة إلا ويستشهد لها بنص ديني من آية أو رواية، فهو ينطلق من النصوص الشرعية في آرائه وأطروحاته .
وفي مجال السيرة والتاريخ لديه عدة كتب في السيرة النبوية، وكذلك سيرة الأنبياء و الأئمة عليهم السلام تصل إلى أكثر من ستين كتاباً بمختلف الأحجام ، وقد سمعت عدداً من الخطباء الكبار الذين أعرفهم أنهم يسمعون من سماحة السيد نوادر وقضايا ووقائع تاريخية، حول حياة الأئمة ، أو حول مصائب الأئمة فيتعجبون من أين يأتي بها ، وأتذكر حين كنت في الكويت كان السيد (رحمه الله) يخطب في مسجده في كل جمعة، وعندما تمر مناسبة من المناسبات كمناسبة عاشوراء .. كان الناس يستمعون إلى الخطباء ورواة المقتل ثم يأتون تحت منبره، فنتساءل : ما الذي سيأتي به السيد من جديد للمستمعين بعدما سمعوا رواية المقتل بتفاصيله !
وقد تعجبت من خطاب سماحته، حيث ذكر وقائع من مقتل الحسين جعلت الحضور ينهمكون في البكاء لفترة طويلة، ولأول مرة نحن نسمعها !!
توجهت له مع مجموعة من الخطباء متسائلين عن مصدر هذه الروايات، فقال : راجعوها في كتاب كذا وكتاب كذا .. وذكر لنا عدة مصادر، وقد وجدنا تلك الروايات في مصادرها كما ذكر لنا سماحته .
وفي هذا السياق كان له اطلاع واسع على آراء الفقهاء في مختلف مسائل الفقه، وقد طلب مني أحد الفقهاء المعاصرين أن أوفّر له موسوعة الفقه الضخمة، و قدمتها له، وبعد فترة من الزمن سألته عن وجهة نظره حول الكتاب ، فقال : ما أدهشني هو إحاطة السيد بالآراء، ففي كل مسألة يبحثها يذكر كل الآراء الواردة في الساحة الفقهية حول المسألة، ويناقشها رأياً رأياً حتى بعض الآراء النادرة الشاذة يذكرها .
هذا الاطلاع الواسع على النصوص من آيات وروايات، وعلى آراء الفقهاء واستحضارها عند كل فكرة أو مسألة، هو مصدر وأرضية الأصالة في فكر سماحة الإمام الراحل .
2/ الانفتاح
كان لديه انفتاح عجيب على العصر، وعلى مختلف الثقافات، كان مواظباً على استماع الأخبار ومن مختلف الإذاعات، كما كان مواظباً على قراءة الصحف والمجلات والكتب المختلفة، وإنك لتتعجب من هذا النهم العجيب للمطالعة، بل وسرعة المطالعة .
كان يوصي كل من يسافر من تلامذته و أصدقائه القريبين أن يحضر له آخر ما صدر من كتب ومؤلفات، وكان يعتبر الكتاب أفضل هدية تقدم له، ولا أزال أتذكر أنه ذات مرة رأى عندي كتاب ( خريف الغضب ) وهو في أربع مئة صفحة تقريباً للكاتب المصري محمد حسنين هيكل فقال: هذا كتاب جديد. قلت: نعم ،قال: أحب أن أطلع عليه.،قلت : غداً أحضر لكم نسخة منه ،قال : أطلع عليه هذه الليلة وأرجعه لك غداً. في اليوم التالي أحضره معه ، وبعد نهاية درسه الفقهي بدأ يتحدث عن الكتاب، وأنه أحسن في هذه النقطة، واشتبه في تلك المسألة، وعرض مختلف جوانب الكتاب .. لخص الكتاب في حديثه معنا في ما يقرب من نصف الساعة .
كما كان يجيد الاستفادة من أحاديث الناس، كان لديه في الكويت برنامج زيارات بعد صلاتي المغرب والعشاء، وكنا نصحبه في بعض زياراته، فكان حين يلتقي برجل قد عاد من اليابان مثلاً يسأله كيف وجدت تلك البلاد؟ .. كيف هو وضعهم الديني؟ .. وضعهم السياسي .. الأخلاقي ..
ماذا لفت انتباهك لديهم؟ هل مررت على مكتباتهم؟ .. كنائسهم ...؟
فيأخذ معلومات بأكبر قدر ممكن، ثم يستفيد منها في خطاباته وأحاديثه ويستشهد بما سمع من معلومات عن تلك البلاد ..
يجمع مختلف المعارف، ومختلف العلوم، ويوظِّفها، ويستنتج منها، ويستثمرها لصالح الأفكار والدعوة التي يريد طرحها .
كان لديه انفتاح على مختلف جوانب الحياة .. ومتابعة للأحداث والمستجدات على الساحة الإسلامية والعالمية
ذات مرة كنا متوجهين من طهران إلى قم لزيارة سماحته ولم نكن قد استمعنا الأخبار ، وعندما التقينا به وجدناه في وضع من التحفّز والتفاعل وأخذ يسألنا متعجباً : ألم تسمعوا الأخبار ؟ !! .. لقد سقط جدار برلين !!
وهل تعلمون ماذا يعني سقوط جدار برلين ؟ .. إنه يعني انتهاء الحرب الباردة .. وانتهاء المعسكر الشرقي، وخضوع العالم لهيمنة واحدة، وبدأ يتحدث عن تاريخ جدار برلين وكيف أقيم؟ وماذا يعني سقوطه ؟ وأخذ يعطي تحليلاته حول الحدث، فاعتبره مفصلاً تاريخياً، ومنعطفاً وتحولاً في تاريخ العالم، كما حدث بالفعل، بينما لم نكن نشعر بأهمية الحدث بنفس المستوى الذي كان لديه .
3/ الاهتمام بالبرمجة
نحن في حاجة إلى أفكار ونظريات ، وإلى جانب ذلك نحتاج إلى ترجمة تلك الأفكار والنظريات إلى برامج، والكثير من الناس يقبلون الأفكار ويستحسنونها ، فمثلاً : نقول بضرورة الوحدة وعدم التفرقة في المجتمع، والجميع يقبل هذه الفكرة، لكن ما هو البرنامج لتطبيق هذه الفكرة ؟
ونطرح مثلاً أن الشباب يعيش حالة من الضياع والفراغ ولا بد من استيعابهم وهي فكرة جميلة .. لكن ما هو البرنامج لتطبيق هذه الفكرة .. وما هي الآلية ؟
في بعض الأحيان تتوفر الفكرة، وتتوفر النظرية، ولكن المشكلة الأهم هي البرمجة والآليات ..
لقد كان سماحة السيد رحمه الله متميزاً في وضع البرامج .. كان لا يأتي بفكرة إلا ويصحبها ببرنامج ومشروع عمل ، وترى ذلك واضحاً في كتبه وأحاديثه في مختلف المجالات
ـ منذ الأيام الأولى لتصديه للمرجعية ألف كتاباً اسمه ( إلى وكلائنا في البلاد ) وهو مطبوع عدة طبعات، يحتوي الكتاب على ثمانين مادة يعتبرها سماحته برنامجاً عملياً لوكيل المرجع في مختلف جوانب حياة الناس .
ـ في أيام الحرب الظالمة المفروضة على الجمهورية الإسلامية في إيران ومع القصف الذي أصاب مدينة قم انتقل سماحة السيد إلى مدينة مشهد وأخذ يتأمل أوضاعها وموقعها وما يحيط بها وأهميتها، حيث يقصدها الزائرون بالملايين فلا بد وأن يكون لمشهد دور كبير ، ونتيجة هذا التأمل وهذا التفكير ألف كتاباً حول مدينة مشهد بعنوان ( مشهد والحضارة الإسلامية ) وضع فيه مقترحات لتحويل مدينة مشهد إلى مبعث للحضارة الإسلامية .
- وحينما ذهب إلى الحج قبل أكثر من أربعين عاماً، ورأى أوضاع مكة المكرمة، والمشاعر المقدسة في موسم الحج، و كان يستمع إلى انطباعات الحجيج حول الحج ومشاكله، فخرج ببرنامج حول تطوير أوضاع الديار المقدسةومعالجة أحكام مسائل الحج بعنوان ( لكي يستوعب الحج عشرة ملايين)
- ودعى إلى تكوين الحركات والتنظيمات الإسلامية، وقدم برنامجاً عملياً في طريقة تكوين هذه التنظيمات وإدارتها .
ـ و قدم برنامجاً للجاليات التي تعيش في البلاد الأجنبية وذلك في كتاب بعنوان ( نجاة الغرب ) ويرى فيه أن الغرب أفضل أرضية للعمل الديني والإسلامي ، كما تؤكد ذلك الكثير من الوقائع ، وفي أثناء لقاءاته مع الفعاليات التي تعيش في الغرب كان يؤكد على العمل بحيث يتحول الدين الإسلامي ـ بعد خمسين سنة ـ إلى الدين الأول في تلك البلاد
ومن ضمن البرامج التي يضعها سماحته لتحقيق هذا الهدف ( برنامج الخدمات الإنسانية ) يدعو فيه الجاليات المسلمة إلى عدم الاكتفاء ببناء المساجد والحسينيات بل التوجه إلى المشاريع الخدماتية لغير المسلمين كإنشاء المستشفيات المجانية، وتكوين الجمعيات التي تهتم بتزويج العزاب، فإذا كنا نريد أن نؤثر على الغربيين فلابد من إنشاء مشاريع تقدم الخدمات لهم ، وقد كانت الإرساليات التبشيرية تستخدم هذا الأسلوب في التبشير بالمسيحية .
ودراسة فكره تحتاج إلى بحوث مطولة وجهد كبير ، وما ذكرناه هو لمحات سريعة عن فكر الإمام الشيرازي تغمده الله بواسع رحمته ، وأعلى الله مقامه ، وخلف على الأمة الإسلامية بالخلف الصالح، وإنا لله وإنا إليه راجعون .