الإمام الشيرازي.. قراءة في الشخصية
تحتل الصفات النفسية، والعادات السلوكية، لأي قائد من القادة، دوراً هاماً، ومكانة أساسية، في تشكيل شخصيته القيادية، وتجربته العلمية. فهي التي تحدد حجم تأثيره، ومساحة فاعليته، وهي التي توجه طريقة تعاطيه وتعامله مع الظروف والتحديات. كما ترسم صورته في أذهان معاصريه وذاكرة التاريخ.
ويمكن القول أن الصفات النفسية أكثر تأثيراً في حياة الإنسان من الكفاءات العلمية والعملية، لأنها هي التي تدفعه أو تقعد به عن نيل تلك الكفاءات واكتسابها، فإذا امتلك صفات نفسية جيدة، فستحفزه وتؤهله لتنمية ذاته وتطوير قدراته، أما إذا سيطرت عليه صفات سيئة، فستهوي به إلى حضيض التخلف والهوان.
وبالصفات النفسية الإيجابية يستطيع الإنسان استثمار كفاءاته وتوظيفها بالشكل الأفضل، بينما قد تصبح كفاءاته مهدورة ضائعة أو وبالاً عليه حين تحكم نفسه وسلوكه عادات مشينة.
وفي حديث القرآن عن مؤهلات الإمامة والقيادة يبدأ بذكر ما يرتبط بالملكات النفسية، يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (سورة السجدة آية24). فقد استحقوا موقع القيادة والإمامة حين تجسدت فهيم صفة الصبر بكل أبعادها ومعانيها ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾ ثم أعلى درجات الإيمان وهي اليقين ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.
كما أننا نجد تركيز النصوص والأحاديث الدينية على محورية الأخلاق والتي تعني السجايا النفسية والعادات السلوكية، وأنها هي التي ترفع مقام الإنسان عند الله وعند الناس بحسنها، وتضعه بسوئها. روي عن أمير المؤمنين علي
أنه قال: «رب عزيز أذله خلقه، وذليل أعزه خلقه» [1] أي أن من يمتلك مقومات العز والرفعة قد لا يتمتع بها، لوجود انحراف في صفاته النفسية والسلوكية، تمنعه من الاستفادة من تلك المقومات وتوظيفها بالشكل الصحيح. بينما قد يتقدم ويتفوق إنسان كان في موقع ذل وضعف، لتحليه بصفات طيبة دفعته نحو الرقي والعز.
الإمام الشيرازي علمه وجهاده:
قد نقرأ الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) في البعد العلمي من شخصيته،فنجد فيه ذلك العالم المتبحر، الواسع الإطلاع على علوم الشريعة، ومعارف الحضارة، والذي مارس الدرس والتدريس، والمطالعة والكتابة، والبحث والتفكير، منذ حداثة سنه حتى اليوم الأخير من حياته. ونجد فيما طرحه من آراء وأفكار، موارد كثيرة من الابتكار والإبداع، والتطوير والتجديد، في ميدان الفقه والفكر الإسلامي.
كما نلحظ غزارة ووفرة هائلة في إنتاجه العلمي والمعرفي حيث حقق رقماً قياسياً لم يبلغه أي مؤلف في مجال الكتابة والتأليف.
وقد ندرس البعد الجهادي في حياته ، فنراه ذلك العالم المجاهد، الذي يتدفق غيرة على الدين، وحماسة في الدفاع عنه، والذي حمل آلام الأمة وهمومها بين جنبيه منذ بواكير وعيه وإدراكه، وحتى الساعات الأخيرة من عمره، لم يتوان ولم يهدأ ولم يتراجع، رغم اختلاف الظروف التي مر بها، والأوضاع التي عايشها، ورغم اشتداد الضغوط عليه من هذه الجهة أو تلك.
لقد بدأ نضاله السياسي وهو دون العشرين من عمره، حين كان العراق في العهد الملكي، ولما سقط الحكم الملكي سنة 1958م كان في الثلاثين من عمره،واستمر في العهد الجمهوري حكم الشيوعيين والقوميين والبعثيين في العراق وهو يحمل لواء الجهاد ضد الانحراف عن منهج الإسلام، ومصادرة الحقوق والحريات.
ولم يكن جهاده السياسي منحصراً في القضية العراقية، بل كان له دور طليعي في تأييد الثورة الإسلامية في إيران منذ انطلاقتها سنة 1963م وحتى انتصارها عام 1979م حيث انتقل من الكويت إلى «قم» ليسهم بآرائه و أطروحاته ومواقفه في دعم مسيرة التجربة الإسلامية الوليدة وترشيدها، ولم يمنعه التيار العام والحماس العارم، من إبداء ملاحظاته الناقدة، وطرح آرائه الجريئة، حرصاً منه على مصلحة الإسلام، وإخلاصاً لمستقبل الأمة.
كما أن مواقفه في نصرة القضية الفلسطينية، ومساندة جهاد الشعب الأفغاني، وسائر قضايا المسلمين والمستضعفين، واضحة ومشهودة، من خلال كتاباته وبياناته وخطاباته ولقاءاته وتحركاته.
إنه دائم التَّحفز لإنهاض الأمة من أجل نيل استقلالها وحريتها، وتحقيق وحدتها وكرامتها، ولمواجهة محاولات الهيمنة الاستعمارية الاستكبارية، عبر نشر الوعي التحرري،وثقافة المسؤولية، وعبر تعبئة الطاقات، وشحذ الهمم، وتربية القيادات الرسالية، وتشجيع الحركات والمنظمات والمؤسسات العاملة، وإعلان الدعم والتأييد لكل القضايا العادلة.
الشخصية القيادية:
هناك بعدٌ آخر له أهميته القصوى في شخصية الإمام الشيرازي وسيرته، وهو البعد الأخلاقي، ونقصد به السمات الشخصية التي اتصف بها، وانطلق منها في حركته الرسالية، والتي مكنته من تحقيق هذه الإنجازات الضخمة في الميادين المختلفة، وصنعت له مكانته المميزة المرموقة، وتأثيره الفعّال.
ودراسة هذا البعد في شخصيته يقدّم للعاملين تجربة غنية ثرية، تنفعهم في بناء ذواتهم، وتكميل شخصياتهم، وتعينهم على تحمّل مسؤولياتهم الرسالية الاجتماعية.
ونسلط الأضواء هنا على بعض تلك السمات الهامة في شخصية الإمام الشيرازي (رحمه الله)
الزهد توجه للهدف
حينما يدرك الإنسان وظيفته ومهمته في الحياة، وحينما يعي دوره ومسؤوليته، فإن عليه أن يجعل ذلك أولوية في حياته، ومحوراً لجهوده واهتماماته.
ولأن الاسترسال مع متع الحياة وملذاتها، والانسياق خلف إغراءات الراحة والرفاه، يستهلك بطبيعته الاستدراجية القسط الأكبر من اهتمام الإنسان ووقته وجهده، فإن الأولياء العارفين، والرساليين المخلصين، يجاهدون في أنفسهم هذه التوجهات، ليوفروا أكبر قدر من وقتهم وطاقتهم، صوب هدفهم الأساس، وغايتهم السامية. يقول الإمام علي
: «فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات»[2] .هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن كونهم في موقع النموذج والقدوة، يستلزم منهم أن يكونوا مصداقاً للقيم والمثل التي يبشِّرون بها. يقول الإمام علي
: « أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟»[3] .والإمام الشيرازي باقتفائه لسيرة أجداده من الأئمة الطاهرين
وبتتلمذه في مدرستهم الإلهية كان يلتزم بالزهد، التزاماً صادقاً، لا تكلّف فيه، إنه يؤمن بضرورة البساطة في العيش، ويدعو إلى ذلك في كتاباته ومحاضراته، ويرى أن التفنن في أساليب الرفاه، أدى إلى تعقيد شؤون الحياة. ويؤكد في توصياته لعلماء الدين والعاملين في الحركة الإسلامية على أهمية هذه الصفة.يقول (رحمه الله):
(الواجب على القائمين بالحركة أن يتزهدوا في الدنيا، فإن الزهد يوجب أولاً كثرة العمل، وثانياً التفاف الناس.. لنفرض أن قائداً كان دخله السنوي ألف دينار، فإذا كان زاهداً في ملبسه وسائر شؤونه، صرف من هذا الألف مئة، وأبقى التسعمائة لأجل الحركة، بينما إذا كان إنسان راغباً صرف كل الألف لنفسه)[4] .
فزهده نابع من رؤيته وقناعته، ولأنه منشغل بقضايا الدين والأمة، فهو يوفر وقته وإمكاناته لخدمة أهدافه الرسالية.
عاش في الكويت ثمانية أعوام (1391-1399هـ) والتف حوله الأثرياء ورجال الأعمال إضافة إلى الشباب وعامة الناس، وواضح أن مستوى المعيشة هناك متقدم، ووسائل الرفاه متوفرة، لكنه رفض أن يمتلك في الكويت داراً أو عقاراً، وحينما قدمت له دار واسعة لتكون سكناً له ولعائلته، أوقفها مدرسة دينية، وسكن في شقة صغيرة بنيت ملحقاً للمسجد الذي يصلي فيه على أن تكون وقفاً يسكنها إمام الجماعة في المسجد.
وأذكر أني مع بعض الأصدقاء زرناه في غرفة متواضعة الأثاث، لفت نظرنا فيها سرير معلق في منتصف الجدار، فسألناه عنه فأجاب (رحمه الله): إن هذه الغرفة يأتي فيها الأطفال ويلعبون، وهي مكان بحثي وكتابتي، فعملت هذا السرير المعلّق، لأجلس عليه مع كتبي وأوراقي بعيداً عن عبث الأطفال.
وعندما أقام في مدينة «قم» اتخذ له مسكناً متواضعاً وأتذكر أنه (رحمه الله) عانى في السنوات الأولى من آلام المفاصل«الروماتيزم» بسبب رطوبة المنزل، وبرودة الطقس، فتحدث معه الكثيرون، وأنا واحد منهم حول تركيب تدفئة مركزية للمنزل، لكن المنطقة آنذاك لم تصلها تمديدات الغاز الطبيعي، ولأن التدفئة المعتمدة على «المازوت» مرتفعة التكلفة، فإنها غير متوفرة لأكثر بيوت تلك المنطقة، فرفض سماحته أن يتميّز على جيرانه من الطلبة، بتدفئة بيته مركزياً، إلى أن وصلت تمديدات الغاز لتلك المنطقة، وتوفرت التدفئة للبيوت المحيطة ببيته،حينها سمح بوجودها في منزله.
زوّج أكثر أولاده وبناته وكنا قريبين منه، وما كنا نحسّ بأي حركة في مراسيم زواجهم، لأن سماحته كان يصرّ على البساطة، وعدم القيام بأي مراسيم إلا بمقدار الاستحباب الشرعي، والذي يتحقق بدعوة مجموعة محدودة على مائدة بسيطة، ولا يكاد يعرف الكثيرون عن زواج ابن الإمام المرجع، إلا فيما بعد وكخبر عادي عن أمر قد حصل قبل أيام.
وقبل سنوات استقر اثنان من أبنائه في دمشق بجوار العقيلة زينب (عليها السلام) حيث الحوزة العلمية الزينبية، ومع أن أكثر زملائهم وتلامذتهم من العراقيين والخليجيين قد تملكوا بيوتاً لسكنهم، إلا أن أبناء المرجع لم يفعلوا ذلك، حتى حينما بنى بعض التجار الكويتيين عمارة، وخصصوا بعض شققها لسكن أبناء سماحة السيد مع عوائلهم، فإن توجيهات الإمام الشيرازي منعتهم من ذلك، وطلب منهم سماحة السيد أن يتركوها لسائر الطلبة، ويبقوا هم في بيوت مستأجرة.
كان يعيش حياة البساطة في سكنه وأثاث منزله وطعامه ولباسه وسائر شؤون حياته .. كما شاهدناه وشاهده كل من اقترب منه، وكان زهده حالة طبيعية لديه دون أي تكلف.
الطموح وعلو الهمة:
لوعيه بعمق التحديات والأخطار التي تحيط بالإسلام والأمة، ولأنه يراقب تطورات الأحداث وأوضاع الشعوب والمجتمعات بيقظة وتأمل، ولإيمانه بقدرات الإنسان وما ينطوي عليه من طاقات، ولثقته المطلقة بمبادئ الدين وتعاليمه .. لذلك كان الإمام الشيرازي محلِّقاً دائماً في طموحاته وتطلعاته .. وقد يراه البعض خيالياً مثالياً فيما يطرح من مشاريع ومقترحات .. وخطط وبرامج.
لكنه يبرهن على إمكانية تحقيق أطروحاته بالإمكان العقلي، وبالتوجيه الديني ـ الذي لا يأمر بالمحال ـ وبإنجازات الأمم والعظماء في غابر الزمان وحاضره، كما يقدم بسيرته العملية وإنجازاته الفعلية دليلاً على إمكانية تحقيق ما كان يُستبعد تحقيقه.
كان يرفض منطق: (ما يصير) و (ما يمكن) ويرى أنه منطق الكسالى والعاجزين والمنهزمين.
- في كربلاء – العراق، وقبل أربعين سنة تقريباً، حيث تواضع الإمكانات، وصعوبة الظروف، كان يؤكد ويؤكد على ضرورة طبع الكتب الدينية بأرقام كبيرة «100 ألف نسخة» مثلاً، وكان البعض يستعظمون هذا الرقم ويرونه خيالياً، لكنه كان يؤكد حتى حقق ذلك بالفعل، فطبعت بعض الكراسات والكتيبات برقم 100 ألف نسخة وأكثر.
- وحين بدأ الشيخ عبد الزهراء الكعبي يقرأ مقتل الإمام الحسين في يوم العاشر من محرم في صحن الإمام الحسين
بكربلاء، فتحتشد الجماهير لاستماعه، لطريقته المتميزة المؤثرة، أصر الإمام الشيرازي على ضرورة السعي والتحرك لإذاعة تسجيل المقتل من إذاعة بغداد، ليستمع له العالم العربي كله، واستبعد الكثيرون إمكانية تحقيق ذلك، لكنه استمر في التأكيد والإلحاح والتحريض حتى تحقق ما كان مستبعداً، وأذيع تسجيل المقتل صبيحة العاشر من المحرم سنة 1379هـ وأعيد بثه مساءً استجابة لطلبات آلاف الراغبين، وأصبح برنامجاً ثابتاً للإذاعة العراقية في اليوم العاشر من المحرم كل عام إلى ما قبل التطورات الأخيرة في العراق.- عندما استقر سماحته في الكويت سنة 1391هـ دعى إلى تأسيس حوزة علمية دينية، فعارض دعوته الكثيرون من أصدقائه، على أساس أن أجواء الكويت وظروفها غير مهيأة لذلك، لكنه استمر في طرح فكرته، وعمل على تحقيقها،حتى قام صرح «مدرسة الرسول الأعظم
» ، وتوافد إليها الطلاب من أماكن مختلفة، وكنت ممن انضم إليها واستفاد منها، حيث تشكلت فيها حركة علمية تربوية، خرّجت عدداً طيباً من العلماء والخطباء والمفكرين والكتاب، من بلدان مختلفة.- إنه يتحدث عن إعادة توحيد الأمة الإسلامية الممزقة سياسياً إلى خمسين دولة، وأنها يجب أن تصبح في ظل دولة واحدة، ويؤكد على ضرورة ذلك، وإمكانية تحقيقه، وألف كتاباً تحت عنوان « إلى حكومة ألف مليون مسلم» وكتاباً آخر تحت عنوان « الوصول إلى حكومة واحدة إسلامية». كما طرح هذه الفكرة والبرنامج الذي يقترحه لتنفيذها في العديد من كتبه الأخرى .. ويستشهد لذلك بتوحيد القبائل العربية على يد رسول الله
بعد أن كانت متحاربة متصارعة، وبسعة الدولة الإسلامية واستيعابها للأمة إلى نهاية حكم العثمانيين، ويستشهد بدولة الهند الواحدة، مع تنوع الأديان واللغات والقبائل فيها، وكذلك الصين، وباتجاه أوربا نحو الوحدة، فما الذي يقعد بالمسلمين عن بناء كيانهم الموحد الواحد؟- وهو يقدم برنامجاً للتنمية الثقافية، يدعو فيه إلى طبع ثلاثة مليارات من الكتب، ويقول في مقدمته: «ثلاثة مليارات من الكتب، حيلة العاجز، وأقل الإيمان، لمن يريد إنقاذ المسلمين من هذا السقوط الذي لا مثيل له في تاريخ الإسلام الطويل»[5] .
- وأذكر أني زرته يوماً وقدمت له مجلة جديدة أصدرناها، فرحبّ وأبدى إعجابه بها، ثم سألني: كم نسخة تطبعون من المجلة؟ وبكم لغة؟ قلت: نطبع منها ثلاثة آلاف نسخة باللغة العربية فقط، ونوزعها في مختلف المناطق.
فتحدث لي مطولاً عن ضرورة رفع الرقم إلى عشرة آلاف نسخة، وضرورة الإسراع بترجمتها إلى اللغات الأخرى كالفارسية والإنكليزية، واستشهد بنصوص وأحاديث وأرقام وإحصائيات لتأكيد فكرته.
- اتصلت بسماحته تلفونياً ذات مرة، وأبديت له ارتياحي وإعجابي بالموقع الذي باسم سماحته على الإنترنت، فأجابني سريعاً: اتصل بالإخوة المشرفين على الموقع وشجعهم على أن يجعلوه بأربعين لغة، فماذا نصنع بلغتين أو ثلاث فقط؟
هكذا كان (رحمه الله) دائم التحفيز والتطلع، عالي الهمة والطموح.
شجاعة الرأي والموقف:
يعاني المفكرون والمصلحون في العالم الثالث، من شدة الضغوط التي تحيط بهم، فتمنعهم من إبداء آرائهم، وطرح أفكارهم، ومن اتخاذ المواقف المناسبة. فهناك ضغوط الحكومات، وضغوط التيارات السائدة في المجتمع، وضغوط مراكز القوى والتأثير، وضغط الحواشي والأتباع.
وقد عانى الإمام الشيرازي كمصلح ومفكر من وطأة هذه الضغوط، من جهاتها المختلفة، وبأشكالها العديدة، لكنه واجهها بشجاعة وثبات، وأصر على التمسك بحقه في التعبير عن رأيه، واتخاذ الموقف الذي يراه مناسباً، مستعداً لدفع باهض الأثمان، وتحمّل أقصى المضاعفات.
ونشير إلى بعض تلك المواقف الشجاعة:
- طروحاته ومواقفه الداعية إلى الالتزام بالإسلام في ظل الحكم البعثي العراقي، ومعارضته لمصادرة الحريات الدينية والسياسية، وقيادته لعدد كبير واسع من الأنشطة الإسلامية مما يعتبره النظام العراقي تحد لسلطته وسياسته.
وكان من نتائج ذلك اعتقال أخيه الشهيد السيد حسن الشيرازي،وتعديبه بقسوة ثم اعتقال مجموعة كبيرة من تلامذته وأتباعه، وتهديد حياته بالتصفية، بل وصدور حكم بإعدامه – كما ينقل -، مما اضطره إلى مغادرة العراق، وبعد خروجه من العراق كان يرعى النشاط الإسلامي، والعمل الحركي، وفي مرحلة لاحقة تبنى مواجهة النظام العراقي، وأصبحت حياته في خطر التصفية، كما اغتيل أخوه الشهيد السيد حسن في بيروت سنة 1980م.
- حينما وجد في نفسه الأهلية والكفاءة للتصدي للمرجعية، ورأى أن ذلك يساعده على القيام بمهامه الرسالية، لم يتردد في طبع رسالته العملية وإعلان مرجعيته، مع أن ذلك كان يصطدم مع الأعراف السائدة في الحوزات الدينية، لأنه لا زال في مرحلة الشباب، سنة 1390هـ، ولوجود من هم أكبر منه سناً وأكثر شهرة علمية.
وتوالت عليه الضغوط الهائلة بسبب ذلك، فلم يتأثر ولم يتراجع، بل استمر في ممارسة نشاطه ومسؤولياته، حتى اتسعت رقعة مرجعيته، وأصبح واحداً من أبرز المراجع المؤثرين في الساحة.
- وعندما استقر في إيران بعد قيام الجمهورية الإسلامية، وتشكلت لديه أراء وملاحظات، حول طريقة الحكم، وإدارة شؤون السلطة الإسلامية، وخاصة فيما يرتبط بالحريات العامة، وموقعية الفقهاء المراجع، والنشاط الحزبي السياسي، فإنه جهر بآرائه، وتحدث وكتب حولها العديد من الكتب والأبحاث، وكانت طروحاته آنذاك مخالفة للتيار العام في أوساط الحكم والثورة، والأجواء كانت مفعمة بالحماس الثوري ونصحه الكثيرون من معارفه وأصدقائه المخلصين، بأن يحتفظ بآرائه،وأن لا يجهر بها، فيتعرض للمضايقات والضغوط رسمياً وشعبياً، لكنه أصرَّ على ممارسة حقه في التعبير عن رأيه، ورأى أن وظيفته الشرعية تقتضي طرح تلك الآراء خدمة للإسلام والأمة، وتحمّل من أجل ذلك الكثير من المشاكل والضغوط الشديدة القاسية. والتي تقلصت فيما بعد، بحصول تطورات سياسية واجتماعية إيجابية في إيران، هي أقرب إلى ما كان يطرحه الإمام الشيرازي من أفكار وآراء.
- من بداية الثمانينيات، وحيث المد الثوري الإسلامي على أشده، والحركات الإسلامية الجهادية في عنفوانها، كان الإمام الشيرازي يطرح سياسة اللاعنف، ويعارض أعمال العنف من اغتيالات وتفجيرات وما أشبه، ويؤكد على المعارضة السلمية بأشكالها المختلفة، وكان رأيه آنذاك مخالفاً للتيار الثوري الجهادي العارم في الساحة، واتهم من قبل بعض الجهات بأنه بآرائه يخدم مصلحة الاستكبار والأنظمة الحاكمة، لكنه استمر في التبشير برأيه عن طريق الحوار وتقديم الأدلة والبراهين الشرعية، والاستشهاد بوقائع التاريخ الماضي، وأحداث الحاضر المعاصر، ولم يتأثر بالتيار السائد، ولا الأجواء المحيطة، ولا الضغوط العنيفة.
رحم الله الإمام الشيرازي، وأثابه خير الجزاء على ما بذل من جهود، وتحمّل من تضحيات وعناء في سبيل الله، ووفق الله العاملين للاستفادة من نهجه وفكره، وخلف على الإسلام والأمة أحسن الخلف والحمد لله رب العالمين.
