القراءة الصحيحة للآخر

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


القراءة الصحيحة فيما بين الأطراف تؤسس للرؤية السليمة والتعامل الإيجابي، بينما خطأ القراءة ينتج سوء الفهم والتفاهم، ويؤدي إلى علاقات سلبية.

فكيف ينبغي أن نقرأ الآخر؟

نشير هنا إلى أبرز الملاحظات في شروط القراءة الصحيحة للآخر:

القراءة المباشرة


قراءة الآخرين عبر الوسائط لا توفر للقارئ صورة واضحة دقيقة، لأن الوسيط قد لا يكون محايداً، فيتأثر نقله بموقفه المنحاز، وقد يكون اطلاعه ناقصاً، أو مصادره غير موثوقة، أو استنتاجاته غير صائبة، إلى ما هنالك من الاحتمالات..

ومادام الطرف الآخر موجوداً، والوصول إليه ميسوراً، وهو يرفع صوته معبراً عن ذاته وآرائه، فما هو مبرر الإعراض عنه، والإصرار على أخذ صورته من الغير.

اللهم إلا أن يكون هناك غرض للإدانة والتشويه.

وتنقل هنا قصة طريفة أن شخصاً دخل بلداً فرأى جماعة يشيعّون جنازة والقاضي في مقدمتهم، لكنه رأى المحمول على النعش يرفع رأسه بين فترة وأخرى ليقول إنه حي وليس ميتاً، فتعجب من ذلك وسأل القاضي فأجابه: لقد شهد شهود عدول بموته أنكذبهم ونصدقه؟!

إن بعض النقولات عن هذا المذهب أو تلك الطائفة، قد تكون فرية واتهاماً لا أساس ولا مصدر لها عندهم، لكنها تتداول عليهم لدى الآخرين كمسلمات ثابتة.

في شهر رمضان المنصرم 1424هـ سمعت أحد الاخوان يحدثني عن الإسماعيلية في نجران وأن لهم ممارسات وأعمال عجيبة، فسألته عن بعضها فقال: إنهم إذا مات الميت منهم، يضربونه ضرباً مبرحاً على يده اليسرى حتى يكسرونها. وذلك حتى يستلم كتابه بيده اليمنى يوم القيامة !! فهل هذا معقول؟!

وقبل شهور التقيت مع قاض كبير في محكمة شرعية في منطقة ذات كثافة شيعية،وضمن اللقاء قال لي على نحو التقرير: إن عندكم رأياً بجواز زواج المرأة متعة ولو كانت متزوجة، ومع أني نفيت له ذلك نفياً قاطعاً، حيث لا تجيز أي شريعة سماوية أو وضعية زواج المرأة بزوجين في وقت واحد، إلا أنه أصر أنه رأى ذلك الرأي عن الشيعة في أحد الكتب.

وهناك فرية يوصم بها الشيعة أنهم يقولون: ((خان الأمين)) أي أن جبرائيل خان أو أخطأ بنقل الرسالة إلى النبي محمد وكان يفترض أن يوصلها للإمام علي ، وهذا ما لم يقل به أي شيعي في الماضي والحاضر.

ومثل ذلك ما ينتشر في بعض أوساط الشيعة من أن السنة يفرحون يوم عاشوراء بمقتل الإمام الحسين ويتخذونه عيداً، وهذا ليس صحيحاً، فلا يوجد مسلم يفرح بما أحزن رسول الله.

ويجد الباحث هذه المشكلة سائدة في أكثر الكتابات المتداولة عن العقائد والمذاهب، فالموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، والتي أصدرتها الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وطبعت عدة طبعات، ونشرت بشكل واسع، حينما تكتب تعريفاً عن الشيعة مليئاً بالتهم والإساءات، تعتمد على الكتابات المناوئة لهم، وتنصح القراء بتلك المراجع التي اعتمدتها، وهي خمسة عشر مصدراً، من بينها كتاب واحد فقط لكاتب شيعي، وهو ليس متخصصاً في مجال البحث. ويبدوا أنها نفس المنهجية التي اعتمدتها الموسوعة تجاه الفئات الأخرى كالمعتزلة والاباضية والصوفية وغيرهم.

الموضوعية


ونعني بالموضوعية: أن تكون القراءة هادفة لمعرفة الآخر كما هو: على حقيقته: دون ميل أو انحياز مسبق، يجعل بصر القارئ زائغاً.

وكذلك تعني الموضوعية عدم إساءة التفسير لرأي الآخر وعمله، ما دام يحتمل وجهاً للصحة.

إن البعض يقرأ الآخرين متبرعاً بالتعبير عن نواياهم ومقاصدهم، فيشكك في الصحيح من أعمالهم: والظاهر من معاني أقوالهم، بأن لذلك معان وأهدافاً أخرى.

وقد نهى الله تعالى عن سوء الظن: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ سورة الحجرات آية 12.

جاء في سنن أبي داود عن رسول الله أنه قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».

وورد عن الإمام علي أنه قال: «لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءاً وأنت تجد لها في الخير محتملاً»[1] .

يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي:

تجد الغلاة دائماً يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمسون المعاذير للآخرين، بل يفتشون عن العيوب، ويتقممون الأخطاء، ليضربوا به الطبل، ويجعلوا من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفرا!!

وإذا كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر وغواية، رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير، خلافاً لما أثر عن علماء الأمة من أن الأصل: حال المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان.

وقد كان بعض السلف يقول: إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذراً آخر لا أعرفه!

من خالف هؤلاء في رأي أو سلوك ـ تبعاً لوجهة نظر عنده ـ اتهم في دينه بالمعصية أو الابتداع أو احتقار السنة، أو ما شاء لهم سوء الظن.

ولا يقتصر سوء الظن عند هؤلاء على العامة، بل يتعدى إلى الخاصة، وخاصة الخاصة، فلا يكاد ينجو فقيه أو داعية أو مفكر إلا مسه شواظ من اتهام هؤلاء.

فإذا أفتى فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله، ورفع الحرج عنهم، فهو في نظرهم متهاون بالدين.

وإذا عرض داعية الإسلام عرضاً يلائم ذوق العصر، متكلماً بلسان أهل زمانه ليبين لهم، فهو متهم بالهزيمة النفسية أمام الغرب وحضارة الغرب.. وهكذا.

ولم يقف الاتهام عند الأحياء، بل انتقل إلى الأموات الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلم يدعوا شخصية من الشخصيات المرموقة إلا صوّبوا إليها سهام الاتهام، فهذا ماسوني، وذلك جَهْمِيّ، وآخر معتزلي.

لهذا أرى أن أول ما ينبغي أن نطرحه من طريقنا، لكي نقرب الأمة بعضها من بعض، هو: سوء الظن، وأن نغلب فضيلة حسن الظن فيما بيننا، كما هو شأن أهل الإيمان.

حكيت لأحد المتشددين مواقف لبعض الشيعة، رأيت فيها الصدق والاستقامة والاعتدال والإخلاص، فما كان من هذا الأخ إلا أنه قال: هذا فعله تقيّة! فالتقية جزء من تكوين الشيعة الديني.

وذكرت لمتشدد آخر: أن العلماء في إيران عندما زرتهم قدموني لأصلي بهم إماماً، وأنا في دارهم، فقال: هذا من باب التقيّة! قلت: وما الداعي إلى التقيّة، ولست ممن يرجى ويخشى، ولم أطلب هذا ولم أتوقعه؟ والتقيّة إنما يقوم بها الضعيف، وبعد نجاح الثورة الإسلامية، وإقامة الجمهورية الإسلامية في إيران أصبح القوم أقوياء.

إن حمل كل عمل طيب، أو تصرف صالح من الشيعة، على أنه من باب (التقية) هو ضرب من سوء الظن، لا مبرر له ولا داعي إليه[2] .

خطأ التعميم


كما تعني الموضوعية عدم التنميط والتعميم.

ففي كل أمة وطائفة تتعدد الآراء والمواقف، وقد تتبنى بعض الآراء أقلية منهم، وحين الحديث عن هذه الأمة أو المجتمع، لا يصح وصفهم جميعاً بذلك الرأي، بل تقتضي الموضوعية الإشارة إلى تنوع الرأي لديهم، وإلى النسبة التي يمثلها القائلون بذلك الرأي في أوساطهم.

إننا نواجه في الأزمة مع الغرب وخاصة أمريكا هذه المشكلة بصورة واضحة، حيث تسعى بعض الدوائر هناك، وكثبر من وسائل الإعلام وصف المسلمين بصفات سيئة كالإرهاب، لأن فئة محدودة منهم تبنت هذا المسلك. وفي المقابل نجد عندنا من لا يرى في الغرب إلا انحلالاً أخلاقياً ونشاطاً استعمارياً. متجاهلاً المساحة الواسعة من الأخلاقيات الايجابية في المجتمعات الغربية، ومن الجهود التي تبذل لخدمة القضايا الإنسانية هناك.

ومن هذا القبيل نجد في الشيعة من يصف أهل السنة جميعاً بالنصب والعداء لأهل البيت ، وهو تعميم خاطئ فإن النواصب فئة ضئيلة محدودة، وقد لا يكون لها وجود إلا في أزمنة غابرة، وإذا كان أهل السنة لا يرون لأئمة أهل البيت ما يراه الشيعة لهم من العصمة والإمامة المنصوصة، إلا أنهم يحبون أهل البيت ، وفي كتبهم كثير من فضائلهم ومناقبهم. كما أن وصف الشيعة كلهم بالغلو من قبل بعض السنة هو حكم جائر، لأن فقهاء الشيعة يرفضون الغلو ويرون نجاسة الغلاة وكفرهم، وإذا كانت هناك فئة يمكن وصفها بالغلو وتحسب على الشيعة، فإنه لا يصح وصف الجميع بذلك.

ويعطينا القرآن الكريم درساً في التزام الموضوعية، وتجنب التعميم والتنميط في تقويم المجتمعات الأخرى، حين يتحدث عن ظاهرة كانت لدى بعض يهود يثرب، في عدم الالتزام بحرمة أموال الآخرين، فيشير القرآن الكريم إلى أن عدم الوفاء بالأمانة المالية ليس سمة عامة لجميع اليهود، بل هي ممارسة لقسم منهم، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِما ًسورة آل عمران آية 75.
والقنطار هو المال الكثير.

ويجد المتأمل في آيات القرآن الكريم عند الحديث عن أهل الكتاب وذكر ظواهر الانحراف في أوساطهم، ترفّع القرآن الكريم عن أسلوب التعميم، واستخدامه في ما يفيد التبعيض كقوله تعالى: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْسورة البقرة آية 101. ويقول تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْسورة آل عمران آية 69.

هكذا يربينا القرآن الكريم على الموضوعية في النظر للآخرين وتقويم أحوالهم، بعيداً عن أسلوب التعميم والتنميط الخاطئ والذي يشكل قراءة مبتورة.

بين الصيرورة والاستصحاب


المدارس الفكرية والمذاهب الفقهية ليست قوالب جامدة، بل يحصل في أوساط علمائها ومجتهديها التغيير والتطور، وعند القراءة لأي مدرسة أو مذهب ينبغي أخذ الصيرورة في ثقافته بعين الاعتبار، ولا يصح استصحاب الآراء والمواقف التاريخية كإرث حتمي ثابت.

في المؤتمر الذي انعقد قبل أيام في الكويت تحت عنوان (الجماعات الإسلامية وأثرها في الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط) كان يناقشني أحد الأمريكيين المشاركين عن موقف الإسلاميين من المرأة مستشهداً بكلام لأبي حامد الغزالي (المتوفى 505هـ) قلت له: ولكن هناك غزالي معاصر الشيخ محمد الغزالي له كلام آخر يدافع عن حقوق المرأة ويدعو إلى مشاركتها السياسية والاجتماعية.

لقد كان للخوارج موقف عدائي من الإمام علي بن أبي طالب، وكانوا يجهرون بالطعن عليه، ولكن المعاصرين من الاباضية لا يذكرون علياً إلا بخير، فهل يحق لنا أن نستصحب موقف أسلافهم وننظر إليهم من خلاله؟!

إن تراث المسلمين وتاريخهم ملئ بالنزاعات والمواقف العدائية تجاه بعضهم بعضا، لكن علماء مختلف المذاهب الإسلامية قد تجاوزوا الكثير من تلك الآراء والمواقف المتشددة، فلا ينبغي الرجوع إلى الوراء ونبش ما في كتب التراث، واعتبار ما ورد فيها رأياً للأجيال المعاصرة.

الاستيعاب


وذلك بالاطلاع على مختلف أبعاد الرأي الآخر، أما الاقتصار على جانب واحد فهو يشكل قراءة ناقصة مبتورة.

ومن سمات القراءة الخاطئة أن يهتم القارئ بالاطلاع على ثغرات الطرف الآخر ونقاط ضعفه، ويتجاهل جوانب قوته، وموارد إصابته، فتكون الصورة حينئذٍ مشوهة قاصرة.

ومما يعنيه الاستيعاب معرفة الخلفيات الفكرية والتاريخية والاجتماعية التي أسهمت في تشكيل آراء ومواقف الجهة المقروءة. فذلك يساعد على الفهم الصحيح، والرؤية الواضحة.

عوامل مساعدة للقراءة الصحيحة


أولاً: نشر الوعي والثقافة التي تدعو إلى قراءة الآخر قراءة صحيحة، والتوقف عن أسلوب التلقين وتوارث النظرات والمواقف تجاه الآخر. خاصة وقد توفرت الآن وسائل المعرفة، وزالت الحواجز، وأصبح التواصل الثقافي والمعرفي أمراً ميسوراً.

ثانياً: أن تسعى مختلف الجهات والفئات إلى تقديم نفسها، وعرض آرائها ومواقفها، فلا مجال للتوجهات الباطنية في العقيدة والمذهب، ولا مبرر للتقيّة والكتمان.

إن الانطواء والانغلاق من قبل أي فئة على نفسها يفسح المجال لظنون السوء، وللجهات المغرضة أن تشوه صورتها.

فعالم اليوم عالم مفتوح، وهناك درجة كافية من الحصانة لإنسان العصر ليعبر عن آرائه الدينية، من أي دين أو مذهب كان.

ثالثاً: أن تتيح الحكومات فرصة كافية لمختلف المذاهب والتوجهات لتعبر عن نفسها. تطبيقاً لمفهوم التعارف الذي طرحه القرآن الكريم ﴿لِتَعَارَفُوا فذلك أدعى لاستقرار المجتمعات، وتوطيد انسجامها وألفتها.

إن من المؤسف جداً، أن تقتصر الجامعات العلمية، وكليات الشريعة، في بعض البلدان على تدريس مذهب واحد وتتجاهل بقية المذاهب الإسلامية، مما ينتج جيلاً من الخريجين ذوي نظرة آحادية، وانغلاق مذهبي.

رابعاً: تحتاج بلادنا إلى مؤسسات أهلية تقوم بدور التعارف والتعريف بين التوجهات والمدارس والمذاهب، خاصة أنا كنا نعيش زمناً من القطيعة والتجاهل على هذا الصعيد.

ونأمل أن يسهم مركز الحوار الوطني الذي دعا إلى إنشائه سمو ولي العهد، وصدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين على تأسيسه، في تلبية هذا الطموح.

نسأل الله تعالى أن يجمع شمل المسلمين، وأن يوحد صفوفهم، إنه لطيف رحيم.
[1] الشريف الرضي: محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، حكم 360، الطبعة الأولى 1967م، تحقيق صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

[2] القرضاوي: الدكتور يوسف، مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية، ص10-13، مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية وأثره في تحقيق وحدة الأمة، البحرين.