عاشوراء وثقافة المجتمعات الشيعية

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


الثقافة السائدة في أي مجتمع لها تأثير على صياغة نفسيات أبناء ذلك المجتمع، وعلى توجيه سلوكياتهم، وحينما نتحدث عن الثقافة فإننا نقصد بها ذلك الكل المركب من المعلومات والمعتقدات والفنون والأخلاق والعادات والتقاليد وفقاً لتعريف (تايلر) عالم الانتروبولوجيا البريطاني.

من هنا فإن الباحثين في علم الاجتماع عند دراسة الظواهر الاجتماعية يدرسون ثقافة المجتمع، لتفسير سلوكيات أبنائه، ولتفسير الظواهر التي تحصل في حياة ذلك المجتمع، ومن خلال دراسة الثقافة السائدة يتوصلون إلى الربط بين تلك الثقافة وبين السلوكيات والأوضاع المعاشة في المجتمع, هذا هو الأمر الطبيعي، لأن الإنسان كجسم إنما تحركه إرادة داخلية, تتأثر بفكره وبالثقافة المجملة التي يمتلكها والبيئة الثقافية التي ينتمي إليها, وعلى هذا الصعيد فإننا إذا ما تأملنا واقع المجتمعات الشيعية، وأردنا دراسة الظواهر الاجتماعية، فلا بد أن ندرسها على ضوء الثقافة السائدة في هذه المجتمعات، وهذا ما يقوم به الآن كثير من الباحثين الغربيين، خاصة وهم يلاحظون ظواهر في المجتمعات الشيعية، وتميزاً في بعض الخصائص والسلوكيات، بالطبع فإن المجتمعات الشيعية هي جزء من الأمة الإسلامية, ولكن لارتباط هذه المجتمعات بمنظومة ثقافية معينة, فإن هذه المنظومة أنتجت أثراً خاصاً ومميزاً في أجواء هذه المجتمعات.

إنهم يدرسون وضع المجتمع الشيعي في إيران، وكيف استطاع أن ينتج ثورة من أضخم وأهم الثورات الشعبية في هذا العصر، تحرك جماهيري سلمي ليس فيه عنف، والتفاف حول قيادة دينية ارتبط بها الناس بقناعة ذاتية، لم تكن تنحدر من حالة وراثية، ولا من أسرة ثرية، ولا من حالة قوة أو حكم سابق. رجل جاء من قرية يقال لها خمين، ودرس وتعلم، وأصبح في مستوى علمي وأخلاقي متقدم, شيئاً فشيئاً اكتشفه الشعب وتعرف عليه، والتفوا حوله، وخضعوا له، وقاد بهم تلك الحركة الجماهيرية الضخمة التي انتهت إلى إسقاط أقوى نظام في الشرق الأوسط وإقامة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران.

هذه الظاهرة كتب الغربيون والباحثون حولها كثيراً, كيف حصلت؟ وكيف تحققت؟ وما هي إلا سنوات وإذا بظاهرة أخرى تبرز في المجتمع الشيعي في لبنان, وهو جزء من المجتمع العربي، المجتمع العربي الذي يواجه التحدي الصهيوني المتمثل في زرع الكيان الإسرائيلي وسط هذه المنطقة، وممارسة هذا الكيان للغطرسة وللعنجهية وللعدوان على مختلف بلدان وشعوب المنطقة، وكان من جملتها لبنان حيث احتل جنوب لبنان، وإذا بهذا المجتمع الشيعي الموجود في لبنان على صغر حجمه قياسا للمنطقة العربية الكبيرة، وعلى أنه جزء من المجتمع اللبناني، هذا المجتمع الصغير. يقود مقاومة للاحتلال الصهيوني، وبعد فترة يتمكن من إحراز انتصار مذهل عظيم، فينسحب الاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان يجر أذيال الخيبة والهزيمة، و يتعاطى ذلك المجتمع الشيعي مع الانتصار ومع محيطه الذي يعيش فيه معاملة حضارية راقية أذهلت حتى الأعداء, وأثارت دهشة لا تقل عن دهشة الانتصار، وبدءوا يسلطون الأضواء على هذه الحالة.

وأخيراً ما حصل في العراق, فقد عاش الشعب العراقي وأغلبيته من الشيعة حوالي ثلاثة عقود تحت الظلم والاضطهاد الشديد، وقبل ذلك أيضاً كان الشيعة مهمشين, طوال الدولة القومية التي نشأت بعد الاحتلال البريطاني, رغم أن مقاومة الاحتلال تمت على أيديهم بدرجة أساسية، إلى جانب سائر فئات وشرائح الشعب العراقي، ثم أصبحوا على الهامش في بناء الدولة وتكوين أجهزتها، ووصل الأمر إلى القمع الشديد الذي حصل لهم في عهد صدام، وما تكشف عنه من مقابر جماعية، ومن تشريد وتعذيب وتصفيات مما معروف وواضح, هذا المجتمع بعد سقوط النظام مارس سلوكاً حضارياً رائعاً، لم تكن فيه حالة انتقام وتصفية للحسابات, ولا حالة تمزق وتشتت شديد, بل حالة مميزة حيث قيادة هذا المجتمع قيادة دينية وفق الضوابط الدينية, المسألة لم تكن قومية فتكون القيادة لشخص عربي, ولم تكن قضية إقليمية فتكون القيادة لشخص عراقي, ولم تكن قبلية فيخضعون إلى رؤساء العشائر، ولم تكن قيادة سياسية بالمعنى المصطلح تنبثق من نضال سياسي وحركة معارضة. بعيداً عن كل ذلك التف هؤلاء الناس حول قيادة تنحدر من قومية أخرى، وهي من الناحية القانونية لها جنسية أخرى، وقد سمعتم أن المرجع الأعلى السيد السيستاني اعتذر أنه لم يذهب إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات لأنه يحمل الجنسية الإيرانية, هذا الشعب يلتف حول رجل لا ينحدر من أصل عراقي أو من أصل عربي إلا بناءً على أن السادة وأهل البيت كلهم ينحدرون من أصل عربي، ولم يكن متزعماً لإحدى حركات وأحزاب المعارضة، ولكن وفقاً للضوابط الدينية، فإن هذا المجتمع من أقصاه إلى أقصاه يعلن الخضوع لهذا الرجل, والعالم ذهل من ذلك ويتساءل عن السبب, كيف؟ وبأي مبرر؟

هذا الرجل – السيد السيستاني - مع انه كان يعيش في بيئة محاصرة في عهد صدام، وإذا به يتفتق عن فكر ووعي و ممارسة سياسية ناضجة تذهل كبار السياسيين في مختلف أنحاء العالم, ويتخذ المواقف المتزنة المنضبطة، ويصر على الانتخابات من أول يوم، مؤكداً على مرجعية الإرادة الشعبية ومشاركة جميع العراقيين في تقرير مصيرهم، ورسم مستقبلهم، وتأتي التهديدات من الإرهابيين, بتفجير كل صناديق الاقتراع. ولكن هؤلاء الناس يخرجون يتحدون كل تلك الأخطار والتهديدات رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، ويصرون على ممارسة حقهم في الانتخاب، وتمر القضية ضمن ذلك العرس الشعبي الانتخابي الهائل المذهل.

هذه الظواهر وظواهر أخرى تلفت نظر الباحثين نحو هذه المجتمعات الشيعية, لماذا لديها بعض هذه الخصائص التي تتميز بها عن سائر المجتمعات المشاركة لها في الانتماء الديني والقومي والوطني؟

استحضار سيرة أهل البيت


نحن هنا لسنا بصدد المزايدة، ولسنا في مجال التباهي والتفاخر، فهناك خصائص أخرى تتمتع بها سائر الأطراف، ولكننا نريد أن نذكر أنفسنا وأن نؤكد للباحثين الذين يريدون دراسة هذه الظواهر، بضرورة الالتفات إلى الثقافة السائدة في هذه المجتمعات, وهي بمجملها ثقافة حضور سيرة أهل البيت . فالمجتمع الشيعي يرتبط بأئمة أهل البيت، لكن هذا الارتباط ليس مجرد ارتباط نظري تاريخي, وإنما هناك حضور دائم لسيرة أهل البيت في وعي هذه المجتمعات, حضور على كل المستويات: فعلى الصعيد العلمي، هناك تراث كبير من النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت في مختلف ميادين المعرفة وهو يشكل منهلاً لعلماء الشيعة ومفكريهم.

وعلى المستوى الروحي هناك ثروة ضخمة من نصوص الدعاء والمناجاة، لجميع الأوقات والمناسبات، وهي تشكل ينبوعاً يرتوي منه الجمهور الشيعي لإنعاش الحالة الوجدانية والروحية.

وفي الجانب العاطفي, نجد هذا الاحتفاء بالمناسبات لأئمة أهل البيت كموسم عاشوراء. حيث الشيعة في كل مكان وكل بقعة، يحتفون بهذه المناسبة، ولو كانوا بضعة أفراد في مكان ما يجدون أنفسهم معنيين بإحياء هذه المناسبة.

وماذا يعني إحياء هذه المناسبة؟

إنه يعني استحضار سيرة أهل البيت ، وسيرتهم سيرة عطرة, لأنها التزام بالقيم والمبادئ، وتجسيد للأخلاق، ولا أحد يستطيع أن يجد في سيرة إمام من أئمة أهل البيت ثغرة أو عثرة أو نقطة ضعف. المجتمعات الشيعية تعودت أن تحيي هذه المواسم بذكر سيرة أهل البيت وحياتهم, قد تكون هناك ملاحظات على بعض الأساليب في عرض هذه السيرة، لكن من حيث المجمل, يمكننا أن نقول: إن استحضار سيرة أهل البيت كرّس منظومة ثقافية ذات خصائص إيجابية في واقع حياة هذه المجتمعات، ونشير هنا إلى بعض تلك الآثار والانعكاسات لاستحضار سيرة أهل البيت في ثقافة المجتمعات الشيعة.

القيادة الدينية ومقاييس الاختيار


أولاً: الارتباط بالقيادة الدينية وفق الضوابط والقيم، ذلك أن أئمة أهل البيت لم يكونوا في موقع السلطة والقوة، بل كانوا غالباً في حال حصار واضطهاد، وكان الارتباط بهم يعني نوعاً من المخالفة للتيار السائد الرسمي، ويؤدي إلى فقدان بعض المصالح والتعرض إلى بعض الضغوط، وأحياناً تشتد الضغوط والمضايقات على التابعين لأئمة أهل البيت إلى حد التصفيات والتشريد والتنكيل، كما حصل في فترات قاسية من الحكم الأموي والعباسي.

استحضار هذه الحالة في الوعي والوجدان الشيعي، رسخّ هذا المبدأ عند الجمهور الشيعي، بأن يختار قيادته الدينية في كل عصر وزمن وفق القيم والمقاييس الشرعية، وليس من خلال المناصب والمواقع والتعيينات السياسية، ولا المعادلات الاجتماعية المادية.

لهذا يتم اختيار المرجع الديني عند الشيعة عبر توفر مواصفات أبرزها العدالة والمستوى العلمي المتقدم، بأن يكون الأعلم، حسب تشخيص أهل الخبرة، وأهل الخبرة هنا ليسوا جماعة محددة مشخصة يجمعها إطار معين، وإنما هم أشخاص متعددون في مواقعهم وتوجهاتهم، ينالون الثقة في الوسط العلمي من خلال سيرتهم العلمية كمدرسين في الحوزات، أو من خلال دورهم الديني كعلماء متصدين في المجتمعات.

إن ما يسمعه الإنسان الشيعي من خلال سيرة أهل البيت ، وتفاني أصحابهم في محبتهم وولائهم، وتحملهم الالآم والشدائد للارتباط بهم، كما في أحداث كربلاء، وقصص أبطالها التي تتكرر على مسامع الجمهور كل عام بأسلوب عاطفي مؤثر، كل ذلك يصوغ ذهنية الشيعي ونفسيته، باتجاه البحث عن من يمثل الامتداد لائمة أهل البيت ، لإتباعه وأخذ أحكام الشريعة منه، مهما كلف من ثمن وتضحيات، أسوة بأبطال كربلاء الصديقين.

وهنا يأتي الارتباط بمراجع الدين حيث أمر الأئمة شيعتهم بالرجوع إليهم، والالتفاف حولهم كتطبيق وتجسيد لتلك الإيحاءات والتأثيرات من سيرة أهل البيت الحاضرة في الوعي والوجدان الشيعي.

الحساسية تجاه الظلم والعدوان


ثانياً: الحساسية تجاه الظلم والعدوان.

الحديث عن ظلامة أهل البيت والعدوان الذي وقع على حقوقهم، يعتبر مادة رئيسية في مجالس إحياء ذكرى عاشوراء ومناسبات أهل البيت ، وعادة ما يتفنن الشعراء والخطباء في أساليب عرضها، ورسم صورها بشكل عاطفي مؤثر، يستثير المشاعر، ويستدر العواطف والدموع، ولاشك أن ما أصاب العترة النبوية الطاهرة من المصائب و الالآم، كان شيئاً فظيعاً مأساوياً، وخاصة مع أخذ مقامهم الرفيع بعين الاعتبار، إن هذا التذكير والاستذكار الدائم لالآم أهل البيت وظلاماتهم يعمق في النفوس حالة التعاطف والتأييد لأهل البيت، اتكالاً على نزوع الإنسان فطرياً للتعاطف مع المظلوم، كما يخلق تعبئة واستفزازاً دائماً في نفس الإنسان ضد ممارسات الظلم والعدوان في كل زمان ومكان، ومن أي جهة وعلى أي جهة وقعت.

ومن المفترض أن يساعد ذلك على تحصين الإنسان من اقتراف الظلم والعدوان على الآخرين.

إن من تتفجر عاطفته ويهتز كيانه لذكر مقتل الإمام الحسين وأصحابه، ويمتلئ غضباً ضد قتلته، فإن ذلك يخلق في نفسه نفوراً وابتعاداً عن أي ممارسة تؤدي إلى إزهاق نفس أو إراقة دم حرام.

وإن من يتكرر بكاؤه ونحيبه لسبي عيالات أهل البيت وسلب خيامهم، فإن مناعته الذاتية ضد أي دور عدواني على حرمات الآخرين ستكون أقوى وأصلب.

و الحديث هنا عن حالة الافتراض كما هو المفترض في أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما ورد في القرآن الكريم، لكن ذلك لا يعني حتمية هذا التأثير للصلاة على نفس كل مصلٍ. إلا بمقدار وعيه لأهداف الصلاة، وتفاعله مع معطياتها. وكذلك فإن التأثير الذي تحدثنا عنه لاستحضار سيرة أهل البيت يعتمد على مدى الفهم والتجاوب مع القيم والمبادئ التي تحملها تلك السيرة العطرة.

وواقع المجتمعات الشيعية يشير إلى درجة عالية من المناعة ضد الظلم والعدوان، فهم كأي مجتمع بشري فيهم من ينزع إلى العدوان والظلم لكن مستوى هذه الحالة وحجم انتشارها قد يكون أقل في أوساطهم قياساً إلى سائر المجتمعات المشابهة لهم في الظروف والأوضاع.

ضبط الانفعالات


ثالثاً: ضبط الانفعالات: فسيرة أهل البيت تحكي درجة عالية من الصبر وكظم الغيظ وتجرع الغصص والالآم، دون أن يدفع ذلك إلى ردود فعل على حساب مصلحة الإسلام والأمة، فلم يكن يتملكهم الغضب لأنفسهم، ولم يربّوا أتباعهم على حماية المصلحة الفئوية أو الطائفية، بمقدار ما كانوا يغضبون لله تعالى، ويحرصون على نيل رضاه كما قال الإمام الحسين: «رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه فيوفينا أجور الصابرين». وكما قال قبله أبوه أمير المؤمنين: «فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا».

ويقرأ الشيعة كل عام في سيرة عاشوراء كيف خرج الإمام الحسين من مكة وقت الحج حفاظاً على حرمة البيت الحرام، مع أن بقاءه في مكة وتحصنه بالبيت الحرام يخدم موقفه السياسي. لكن حرمة الكعبة كانت مقدمة عنده على أي اعتبار آخر.

ويقرؤون كيف أن الإمام الحسين استقبل طليعة الجيش الأموي وهم ألف فارس جاءوا لمحاصرته، ببذل الماء لهم ولم يستغل عطشهم لمنازلتهم والقضاء عليهم ورفض أن يبدأهم بقتال.

ويقرؤون كيف أن سفير الإمام الحسين إلى الكوفة مسلم بن عقيل، واتته الفرصة لاغتيال والي الكوفة الأموي عبيدالله بن زياد، حينما جاء يزور شريك بن الأعور في دار هاني بن عروة، ومع إصرار صاحب الدار عليه أن لا يفوّت الفرصة، لكنه امتنع عن ذلك وأبى، مستشهداً بقول رسول الله : «الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن».

ويقرؤون الكثير من الشواهد والمواقف التي تؤكد التزام أئمة أهل البيت بمراعاة المصلحة العامة للإسلام والأمة، دون الاستدراج إلى ردود فعل غير مدروسة.

إنه درس كبير عظيم استفاد منه أتباع أهل البيت، في تعاملهم مع كثير من المواقف والمنعطفات في عصور تاريخهم إلى العصر الحديث. فمع كل معاناتهم من بطش نظام صدام وقمّعه إلا أنهم لم ينجروا إلى ما انساقت إليه بعض الأطراف في بلدان أخرى من ممارسات العنف والانتقام العام بالتفجيرات والاغتيالات وضرب المصالح الوطنية.

ومع كل ما أصاب أهالي جنوب لبنان من أذى العملاء والمتواطئين مع الاحتلال الصهيوني، إلا أنهم بعد التحرير مارسوا ضبطاً للنفس بدرجة لم تكن متوقعة من قوم منتصرين.

وما يحصل الآن في العراق من انضباط في الوسط الشيعي تجاه الممارسات الإرهابية التي تستهدف الزعامات والمقدسات الشيعية والمدنيين الأبرياء، من أجل وأد محاولات الفتنة الطائفية والاحتراب الأهلي، كل ذلك يعتبر من تأثيرات وانعكاسات استحضار سيرة أهل البيت .

استثمار موسم عاشوراء:


إن استحضار سيرة أهل البيت ، وأحداث كربلاء، تفتح أمام العقل والقلب آفاقاً رحبة من الوعي والطهر والصفاء، ويمكننا تركيز الاستفادة والاستثمار لهذا الموسم العظيم في مختلف مجالات الاهتمام بالشأن العام. ولعل من أبرز المجالات مايلي:

أولاً: التأكيد على التمسك بالقيم والالتزام بالأخلاق: حيث تواجه مجتمعاتنا تحدياً عنيفاً على هذا الصعيد، فهناك انفتاح إعلامي ثقافي عبر الفضائيات ووسائل الاتصالات كالانترنت، تستدعي رفع درجة المناعة والحصانة، لتجاوز إغراءات التوجهات الإباحية، ومسلكيات العبث وتحريض الغرائز والشهوات.

وهناك مشاكل واقعية يعاني منها الجيل الناشئ قد تدفعه نحو حالات من ردود الفعل الطائشة، أو الميوعة واللامبالاة، كما تجعله فريسة لمافيا المخدرات وعصابات الإجرام.

إن الحضور الاستثنائي الحاشد لأبنائنا وبناتنا في برامج عاشوراء يعطينا أكبر وأثمن فرصة لتقديم العون والمساعدة لهم على مواجهة التحديات التي تنتصب أمامهم، وتهدد مستقبلهم ومستقبل الأمة من خلالهم.

فنحن بحاجة إلى خطاب ينفذ إلى عقولهم وتتقبله نفوسهم، وبحاجة إلى عرض برامج قادرة على جذبهم واستقطابهم.

ثانياً: التماسك الاجتماعي: إن تطورات الحياة ومتغيرات الواقع، أضعفت قدرة الأسرة على شدّ أطرافها، فأصبحنا نواجه الكثير من الاضطرابات في واقع الأسرة، واهتزاز البيت العائلي، وضعف الارتباط به.

كما أن مناطق الحاجة والضعف اتسعت في مجتمعاتنا مما يزيد في تهديد أمننا الاجتماعي، ويشكل خطراً على مستقبل المجتمع، فلا بد من استثمار هذا الموسم العظيم في التأكيد على موقعية الأسرة ومعالجة ما يواجهها من مشاكل وتحديات، وفي الدعوة إلى مأسسة المجتمع وقيام المزيد من مؤسسات المجتمع المدني، بإنشاء مؤسسات وجمعيات ولجان تهتم بمختلف شؤون المجتمع واحتياجات أبنائه.

ثالثاً: التفاعل الوطني: فلا يصح أبدا أن تكون أجواء عاشوراء في معزل عما يدور على ساحة الوطن، فنحن في المملكة العربية السعودية مثلاً أمامنا قضية الحوار الوطني، وقضايا حقوق الإنسان حيث تشكلت الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وانتخابات المجالس البلدية، وأمامنا تحدي العنف والإرهاب، حيث يواجه الوطن فئة مجرمة تريد سلب مجتمعنا ووطننا أهم خصيصة كان ينعم بها وهي الأمن والاستقرار.

إن هذه القضايا تهمنا جميعاً كوطن ومواطنين وينبغي أن تأخذ موقعها في خطابنا وإحيائنا لهذه المراسم، بتوضيح الرؤية أمام المشاركين، ودفعهم للتفاعل مع قضاياهم الوطنية ومصالحهم الدينية والاجتماعية.

والسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أنصار الحسين ورحمة الله وبركاته.