ثورة الحسين الخالدة
قال سيد الشهداء الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه في رسالة كتبها عند خروجه من مكة، ووجهها إلى أخيه محمد بن الحنفية وبقية بني هاشم: من الحسين بن علي إلى أخيه محمد ومن قبله من بني هاشم، أما بعد... من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام.
قراءة في الرسالة
هذه رسالة مختصرة ومعبرة ولها معنى هام. الإمام في هذه الرسالة يكتب عبارتين يبدو لمن يسمعهما أو يقرأهما لأول وهلة أنهما متناقضتان.
في العبارة الأولى يقول عليه السلام: من لحق بي منكم استشهد، من أتاني ولحق بمسيري هذا فإنه سيحضى بالشهادة في سبيل الله عز وجل. إذاً يوضح لهم أنه على من سيلحق به ألا يتوقع النصر المادي الظاهري، وألا يتوهم أن الحسين

في العبارة الثانية يقول عليه السلام: ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح. أي الشخص الذي يتخلف عن اللحاق بي سوف يفوته الفتح، فما هو معنى الفتح هنا؟ المعنى الظاهري هو النصر ففي قوله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح) أي بمعنى الانتصار والظفر والغلبة على العدو وتحقيق الهدف.
فالإمام عليه السلام يصف مسيرته بتحقيق الانتصار، رغم أنه قال قبل ذلك بأن من لحق به سوف يستشهد، ثم قال أن من لم يلحق به سوف يفوته الانتصار، فظاهراً تبدو العبارتان متناقضتين لأنه بالمفهوم المادي الظاهري فالنصر هو تحقيق الغلبة وقهر العدو، بينما الشهادة والقتل تعني أن العدو هو الذي يتمكن ويغلب.
الإمام الحسين يخبرنا بأن رحلته سوف تحقق المعنيين أي الشهادة والفتح، وهذا هو بالفعل عين الواقع، صحيح أن الحسين عليه السلام قد استشهد هو ومن معه جميعاً، لكن هل تحقق الفتح والنصر للحسين؟ أم أن الحسين كان مهزوما؟
لقد تحقق الفتح والنصر للإمام الحسين لكننا يجب أن نعرف أي نصر هذا الذي تحقق، وكيف تحقق؟
نحن نحتفي الآن بأربعين الإمام الحسين رغم مرور ألف وثلاثمائة وخمس وستين سنة، وهذا الخلود في ذكرى شهادة الإمام الحسين هو أحد معاني الفتح والنصر الذي حققه الحسين عليه السلام.
إذا تأمل الإنسان في قضية الإمام الحسين يقف متعجباً مندهشاً حائراً كيف توفر هذا الخلود لثورة الإمام الحسين، وبكل جزم وتأكيد ليس هناك حدث تاريخي أو ثورة أو حركة اجتماعية توفر لها خلود وبقاء ودوام وتأثير كما هو الأمر بالنسبة لثورة الإمام الحسين عليه السلام، مع أنها من حيث العمر الزمني كانت محدودة فالمعركة تمت كلها في صبيحة يوم العاشر من المحرم حيث بدأت تقريباً عند صلاة الظهر حيث صلى الحسين عليه السلام بأصحابه صلاة الخوف وكانت هذه آخر صلاة لهم لأنهم بالتأكيد استشهدوا قبل صلاة العصر أي أن المعركة كلها تمت خلال ثلاث ساعات على الأكثر، فالمؤكد أنه بعدها قد قتل الجميع.
وإذا أردت أن تحسب مدة ثورة الإمام الحسين


أعلن موقف الرفض، وكان ذلك في الثامن والعشرين من رجب عام 60هـ، وفي العاشر من المحرم سنة 61هـ أستشهد الإمام عليه السلام. أي استمر ذلك حوالي ستة أو سبعة شهور لا أكثر.
إذاً من حيث المساحة الزمنية لثورة الإمام الحسين

إذا تقارنت معركة كربلاء مع الحروب الأخرى كحروب الجاهلية مثل حرب داحس والغبراء التي استمرت أربعين سنة، كذلك إذا تقارنها مع الحروب التي حدثت في العهد الإسلامي الأول والعهود الإسلامية المتأخرة أيضاً ترى معاركاً استمرت لفترة زمنية طويلة، وكان ضحايها وأحداثها أكثر، ولكن أي من تلك الأحداث لم تنل خلوداً كما نالتها ثورة الإمام الحسين عليه السلام.
في طريق تخليد ثورة الحسين
هذه الثورة من بدايتها شقت طريقها للخلود في تاريخ الإنسانية.
إن أول من وضع أسس تخليد هذه الثورة كان الإمام زين العابدين



صحيح أن الإمام بشر وله عواطف وأحاسيس كغيره، لكنك لا تجد في عامة البشر في الحالة العامة هذا النوع من الاندفاع العاطفي. ليس هناك أحد يظل يبكي على فقد أهله وما جرى عليهم طوال حياته كما صنع الإمام السجاد


في منى والناس يؤدون مشاعر حجهم تجد الإمام السجاد


فيجيب القصاب: نعم. وإذا به يبكي ويذّكر الناس بذبح أبيه الحسين سبط رسول الله

لا يذبح الكبش حتى يروى من ضمأ ويذبح ابن رسول الله عطشانا
لماذا كان الإمام يعمل كل هذا؟ وكذلك نجد السيدة زينب بنت أمير المؤمنين


كان هذا الدور الأول وهو تخليد قضية الإمام الحسين


ونلاحظ في عهد الإمام الباقر



قال

وهناك رويات تحمل هذا المعنى وهي أن الإمام الباقر


في عهد الإمام جعفر الصادق



وفي عهده أيضاً




كذلك هناك روايات تدل على أنه في عهد الإمام الصادق كان هناك أشخاص متفرغون متخصصون للحديث عن الإمام الحسين وذكر مصابه ـ كما نسميهم حالياً خطباء أو ملالي ـ يقول الصادق

وهناك نصوص تاريخيه كما جاء ذلك في كتاب أعيان الشيعة، هناك رجالات من سنة 348هـ مثل أبو القاسم التنوخي، وأحمد بن المزدق، وعلي بن أصدق الحائري، هؤلاء كما في تراجمهم كانوا متخصصين في رثاء الإمام الحسين

وفي عصر الدولة الفاطمية نرى أن الأمر تقدم أكثر، كما يذكر السيد أمير علي في كتابه مختصر تاريخ العرب: أنه كان في القاهرة بناء فخم واسع الأرجاء أعد لتذكر فيه قضية الإمام الحسين في كل عام ـ أي حسينية كما نسميها الآن ـ وكان ذلك حسب ما يذكر الكاتب في سنة 358هـ.
وفي بغداد أيضاً يُذكر مثل هذا الشيء في سنة 352هـ أيضاً كانت هناك مجالس ومآتم تنصب للإمام الحسين



وهكذا نجد أنه مع مرور الزمن اتسعت قضية الإمام الحسين



ولم يقتصر الأمر على الشيعة، فالذين كتبوا عن الحسين وثورته كالشعراء مثلاً ليسوا قلة من مختلف المذاهب، ويكفي أن تتطلع على كتاب أدب الطف للعلامة الخطيب السيد جواد شبر -رحمه الله- المكون من عشر مجلدات ترجم فيه لمن قال شعراً في الإمام الحسين


اندفاع ذاتي لإحياء عاشوراء
فما سر هذا الاهتمام؟
قد ترى بعض الأحداث لها نوع من الاهتمام إذا كانت هناك حكومة متبنية ذلك الحدث، فهذا لا غرابة في إحيائه، فللحكومة سلطة ونفوذ ومال وإعلام تستطيع أن تسخر كل تلك الأمور للحدث الذي تريده. لكن قضية الحسين ليست قضية تهتم بها حكومة، وإنما اهتمام شعبي، الناس هم الذين يهتمون بإحياء هذه المناسبة، حتى في المناطق التي تكون حكومتها شيعية كالجمهورية الإسلامية الإيرانية فالناس هم من يتولون هذا الأمر وليس الحكومة.
ولاحظ مثلاً لو عملت إعلاناً لموضوع هام ومحاضر ماهر في يوم من أيام السنة فإنك لن تجد من الناس تفاعلاً وحضوراً كتفاعلهم وحضورهم في يوم عاشوراء حتى عند أقل الخطباء إجادة. وهذا يكشف عن اندفاع ذاتي لقضية الإمام الحسين، وانظر كم يدفعون لإقامة هذه المآتم.
وهناك مبالغ تصرف من الأوقاف، بل هناك مبالغ كبيرة تخصص بكاملها لقضية الإمام الحسين، والأوقاف يجب أن تفعّل أكثر، فهناك أوقاف معطلة سيما عندنا في هذه المنطقة، على صاحب الوقف أن يكون نزيهاً، ومن المفترض أن تكون هناك مؤسسة لهذه الأوقاف حتى يكون فيها المشورة واستخدامها بالشكل الشرعي الأفضل، فالقائم على الوقف وإن كان نزيهاً ولكن يظل رأيه فردياً، والرأي الفردي لا يرقى إلى الرأي الجماعي في الغالب الأعم. الآن في كثير من المناطق يكون للأوقاف أنشطة ومجالات عظيمة. هناك أوقاف كثيرة للإمام الحسين


هذه الأوقاف أوقفت من قبل أشخاص عاديين تبرعوا بما يملكون لخدمة قضية الإمام الحسين

سر خلود الثورة الحسينية
كيف تم هذا الخلود لثورة الإمام الحسين

يمكننا أن نتحدث عن أمور منها:
أولاً- عهد الله بحفظ جهود العاملين في سبيله
الأمر الأول: وهو الأهم، هناك تعهد من قبل الله عز وجل بحفظ جهود العاملين في سبيله، كما قال في كتابه الكريم: ﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ﴾، وهناك آيات تصل إلى العشر تتضمن هذا التعهد الرباني، ﴿ إنا لا نضيع أجر المحسنين ﴾، ﴿ إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾، فما معنى هذا التأكيد؟
تارة يعمل المرء عملاً مجبراً عليه، حتى لو لم يقتنع بذلك العمل، الأهرامات مثلاً في مصر والتي تبلغ خمسة وثلاثين هرماً وأكبرها ذلك الذي بالجيزة قرب القاهرة، وقد أنشئت من قبل ألفين وسبعمائة سنة قبل ميلاد السيد المسيح

وتارة يندفع الإنسان لعمل ما بنفسه، وذلك حماساً لنتيجة هذا العمل، تريد أن تبني بيتاً مثلاً لأنك تتطلع إلى أن تسكنه فتعمل جاهداً لبنائه. وهنا نرى أن البعض يعمل لمصالح ذاتية لتنعكس نتائج الأعمال لصالحه ولا غرابة في ذلك. ولكن ماذا عن الشخص الذي يعمل للخدمة العامة هنا يكون الأمر صعباً، ولذلك نجد المتطوعين لخدمة المجتمع قلة من الناس، لماذا؟
ليس لأن الناس لا يحبون عمل الخير، ولكن لأن خدمة المجتمع غالباًُ ما تكون نتائجها بطيئة، وغير واضحة، ولذلك المحسنون والمصلحون يواجهون هذه المشكلة، يعملون ويتعبون ولكن في الغالب تتأخر نتائج أعمالهم، ولذلك يتوقف البعض منهم ويتراجع، بالإضافة إلى أن الناس أيضاً في كثير من الأحيان لا تقدر من يعمل لأجلها، بل إنهم أحياناً يؤذن أولئك العاملين، فتسبب تراجعاً لبعضهم الذين تضيق بهم الحياة درعاً إذ يعملون لأناس لا تقدرهم ولا تحترمهم بل ويكيلون لهم العذاب كيلاً، بدل أن يتعاونوا معهم ويشكرونهم على جهودهم.
وقد لاقى الأنبياء والمرسلون هذا الأمر من مجتمعاتهم، الإيذاء والاستهزاء بل حتى القتل، وكذلك الحال بالنسبة للأئمة. والمجتمع الواعي هو من يقدر شأن العاملين لأجله ويتعاون معهم.
ولهذا يتعهد الله تعالى لعباده العاملين المصلحين أن يحفظ لهم هذا العمل ويكافئهم عليه، فلا يحزنكم أمر الناس أن يؤذوكم ولا يشكرونكم.
فلذلك على العاملين المصلحين أن لا ييأسوا ولا يكسلوا عن مواصلة عملهم، وذلك لأن الله سيحفظ لهم هذا الصنيع، وكذلك نتائج أعمالهم سوف تظهر ولو بعد حين.
حينما ثار الحسين

لا، لم يكن ذلك مع ما جاءته من رسائل، لم يستجب له إلا نفر قليل، ولذلك قال: ألا وأني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر.
الناس لم يتجاوبوا مع الإمام الحسين، لا بل تألبوا عليه، وكفاك ذلك الجيش الكبير الذي شارك في حربه، ولذلك خاطبهم

وبعد ذلك انظر واسمع ماذا صنعوا بعائلته، وكيف تم أخذهم أسارى وسبايا، وكيف كانوا يشتمونهم ويسمونهم خوارج. وقد شككوا في ثورته

ولكن منذ ذلك الوقت وحتى الآن، ترى من الذي انتصر؟ ومن الذي بقي؟ أهو يزيد، أم الحسين

أين يزيد؟ أين قبر يزيد؟ ومن يكتب عن يزيد؟ ذهب وأصبح سبة في التاريخ وعلى ألسن البشرية جمعاء.
ولكن الحسين


هذا هو الفتح وهذا هو النصر، أما ما حصل ليزيد في ذلك الوقت فذلك نصر ظاهري لم يدم طويلاً، كما قالت السيدة زينب (عليها السلام) وهل جمعك إلا بدد، وأيامك إلا عدد، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا.
ثانياً- عظمة شخصية الإمام الحسين

ومن أسباب خلود هذه الثورة: شخصية الإمام الحسين


أحب الله من أحب حسينا، أبغض الله من أبغض حسينا، منذ يوم ولادته تحدث الرسول

قال هبط علي حبيبي جبرئيل وأخبرني أن ابني هذا تقتله فئة من أمتي عطشاناً ظمآن في أرض يقال لها كربلاء. وأتى بحفنة من تراب وأعطاها لأم سلمة، وقال لها: احتفظي بها فإذا رأيتها قد امتلأت دماً عبيطاً فاعلمي أن ولدي الحسين قد قتل.
نقول لمن يلومنا في اهتمامنا غير العادي حول قضية الإمام الحسين

أولاً- فظاعة المأساة الحسينية
الأمر الآخر في بقاء هذه القضية وخلودها: طبيعة المأساة التي عاناها الإمام الحسين

بعد انتهاء المعركة، أمر عمر بن سعد الجيش أن يحزوا كل الرؤوس عن جثث القتلى، وأمر كل قبيلة أن تأخذ حصتها من الرؤوس التي شاركت بقتلها، حتى إذا دخلتم على ابن زياد ويزيد يبين صنيع كل قبيلة. حتى أن الشمر جاء بعدها ناشداً:
املأ ركابي فضة أو ذهبا قتلت خير الناس أماً وأبا
وبالفعل أخذت تلك القبائل تحمل على أسنتها تلك الرؤوس الشريفة، ويروى أن قبيلة بقيت لم تحصل على رأس، فاحتجوا على بن سعد، كيف نثبت مشاركتنا إذاً في الحرب. فبحثوا حتى إذا لم يصلوا إلى نتيجة، تذكر أحدهم وقال: ألا تذكرون أن طفلاً رضيعاً للحسين قد ذبحناه على صدره. فقال أحدهم أنا رأيت الحسين وهو يحفر خلف الخيمة بقائم سيفه، فحفروا خلف الخيام حتى عثروا على جثة عبد الله الرضيع واحتزوا رأسه.
هل تجد مثل هذه الأحداث في قضية أخرى غير واقعة كربلاء، إنها قضية تحرك الوجدان والضمير.
وسيبقى الحسين خالد الذكر بإذن الله. وسلام عليه يوم ولد ويوم عانق الشهادة ويوم يبعث حيا.