النظام في حياة الفرد و المجتمع
قال تعالى: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[1] .
أسرار النظام الكوني:
آيات عديدة في القرآن الحكيم تلفتنا إلى أنّ الكون يخضع لنظام صارم ودقيق وضعه الله سبحانه وتعالى، فكل ذرة من ذرات هذا الكون لها مكانها وموقعها المحدد، ولها حركتها الخاصة بها. وهناك انسجام ونظام شامل يلف الحركة في الكون كله على سعة أرجائه.
منها قوله تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾[2] ، وقوله تعالى ﴿ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾[3] والآية الكريمة التي تبركنا بتلاوتها ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
المنظومة الشمسية التي نعيش فيها إنما هي جزء من مجرة، وهذه المجرة تحتوي على مائة مليار نجم، شمسنا واحدة منها. وهذه الشمس ليست أكبر نجم في هذه المجرة وإنما حجمها حجم متوسط، وهناك نجوم في نفس مجرتنا أكبر من شمسنا هذه بعشرات بل بمئات المرات. وهذه المجرة التي تتبعها منظومتنا الشمسية ليست هي المجرة الوحيدة في الكون لأنه يوجد في الكون -كما يقدّر العلماء أيضاً- مائة مليار مجرة.
وهذه الشمس التي نراها التي هي مركز المجموعة الشمسية (المنظومة الشمسية) تقدر سرعتها نسبة إلى سرعة النجوم المنافسة لها في نفس المجرة بـ 19,7كم في كل ثانية. والأرض تدور حول نفسها وحول الشمس بسرعة 30 كم في كل ثانية. والقمر يدور دورة كاملة حول نفسه وحول الأرض في كل 27 يوماً وثلث يوم. لكن كل شيء يدور في مداره ومساره.
وأسرع مجرة يذكرها العلماء تبلغ سرعتها 108000 كم في الثانية.
وكل مجرة في مسارها، وكل نجم في مساره، وكل منظومة في مسارها، لا يصطدم أحدها بشيء ولا يربك شيئاً، ذلك تقدير العزيز العليم.
وقد وُلِدَ علمٌ جديد له عقدان من الزمن يسمّونه علم الفوضى. يهتم بالظواهر التي نراها في الحياة ونعبّر عنها بالعشوائية، فينفي ذلك، ويوضح النظام الذي يحكم هذه الظواهر التي نراها في النظام فتبدو أمامنا مفاجئة وعشوائية. بدأ هذا العلم من الرياضيات والفيزياء ولكنه تفاعل الآن مع مختلف العلوم.
وقد نقلت إحدى الصحف مقابلة مع أحد العلماء المتخصصين في هذا العلم، وهو عالم مصري ومدرّس في جامعة إلينوي في أمريكا، قوله: إن كل الظواهر التي يراها الناس عشوائية ومفاجئة حتى في مجال الطب كاضطرابات عمل القلب والسكتة القلبية المفاجئة، وما يحصل من الكوارث الطبيعية، بل حتى تأرجح أسعار الأسهم في أسواقها.. كلها لها نظام. فليس هناك شيء في هذا الكون خارج النظام والتدبير.
دلائل النظام الكوني:
وهذا النظام الكوني العام يدلنا على وجود الخالق المدبر، وصفاته وأسمائه الحسنى. فحينما نرى هذا الوجود ونتأمل هذا الكون يدلنا على أن هناك موجد، وإن هذا الموجد عنده هذا القدرة، بل منتهى القدرة، والحكمة والعظمة والعلم، وإلا لما أمكن أن يكون هذا الكون بهذا الشكل.
فالإنسان إذا رأى كتاباً علمياً في الطب يستدل على أن له مؤلفاً، وأن هذا المؤلف عالم وعلى قدر كبير من التحصيل العلمي، وإلا لما استطاع أن يؤلف هذا الكتاب؛ لأنه من غير المعقول أن يكون مؤلفه إنساناً أمياً ليس لديه علم أو أن لا يكون طبيباً.
ويوضح هذا مثال بسيط:
عندنا مخزن يمتلئ بمواد البناء التي يستلزمها بناء عمارتين، فجاء مهندس ومن يحتاج من العمال واستخدم نصف مواد المخزن وبنى عمارة رائعة، ثم جاء سيل وجرف النصف الآخر وخلط المواد ببعضها وكومها على هيئة تل إلى جانب العمارة.
ألا يوجد فرق بين الصورتين؟!
لاشك نجد فرقاً بين البناءين؛ لأننا نجد في جانب عمارة متقنة البناء، وفي جانب آخر كومه من الحطام فيها ما في الأول من مواد البناء لكنها مكدسة على بعضها.. ويرجع الفرق إلى وجود قوة عالمة مخططة في القسم الأول حولته إلى عمارة كبيرة وجميلة متقنة البناء، ووراء القسم الثاني حدث عفوي لم يكن يخطط لشيء من هذا القبيل.. وإلا فمواد البناء موجودة في الاثنين.
فلا شك إذن أن هذا الكون يدل على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى صفاته من عظمة وقدرة وعلم وحكمة وغيرها من الصفات العليا والأسماء الحسنى.
وهذا النظام العام الذي يحكم الكون بأسره يدعونا إلى أخذ صفة النظام من حقل الكون لتكون حياتنا منظّمة قائمة على التنظيم، والتخطيط، والتدبير والترتيب.
ورد في الحديث: «تخلّقوا بأخلاق الله»[4] .
وحين نعتقد بأن الكون يحكمه نظام وقانون دقيق فهذه العقيدة لابدّ أن تنعكس على حياتنا نحن، فتكون حياتنا ضمن نظام ، ولا تكون تصرفاتنا عشوائية وقائمة على الارتجال والعبث، بل يجب أن تكون قائمة على التخطيط والتنظيم.
لذا سيكون حديثنا عن النظام في حياة الفرد والمجتمع، وكيف ينظم الإنسان كفرد حياته، وكيف يرعى المجتمع النظام وينظم شؤونه وأمور حياته؟
النظام في حياة الفرد:
يعيش الإنسان في هذه الحياة فترة محدودة، والإمكانيات المتاحة له هي الأخرى محدودة، وهو مع ذلك يحمل تطلعات كثيرة وهموماً كبيرة ورغبات ومتطلبات لا تحصى، وليس أمامه لتحقيقها إلا أن ينظّم حياته.
كيف يستفيد من هذه الفترة المحدودة ومن هذه الإمكانيات المتاحة له بأكبر قدر ممكن من الاستفادة؟
هناك من ينجز أعمالاً كثيرة في حياته، وذلك لأنها مرتبة ومنظّمة، ولأنه يحسن الاستفادة من فترة وجوده ومن الإمكانيات المتاحة له. ولذا تمتلئ حياته بالإنتاج، والعطاء. وهناك من تخلو حياته من العطاء، تمر عليه الفرص كمر السحاب فلا يستفيد منها. ولذلك قال نبي الله عيسى : ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾[5] .
كيف ينظم الإنسان حياته؟
نتحدث عن جانبين من الجوانب المهمة في ترتيب الحياة:
الجانب الأول: جانب الوقت:
الوقت هو رأس مال الإنسان الأساسي في هذه الحياة، بل الحياة هي الوقت، لذلك ورد في بعض النصوص: إنّما أنت أيام فكل يوم ذهب، ذهب معه بعض عمرك. وليس هناك شيء أغلى من الوقت في حياة الإنسان، بدليل أنه لو قيل لإنسان نستطيع أن نزيد في عمرك سنة بشـرط أن تتنازل عن بيتك، لفعل ذلك. ما قيمة البيت قبالة أن يعيش سنة أكثر في هذه الدنيا، فهي أهم له من هذا البيت. يتنازل الإنسان عن ثروته من أجل أن يعيش سنة أو شهراً أو يوماً زيادة على عمره المقدر له، مما يدل على أنّ الوقت والحياة غاليان.
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق و ثوان
فما دامت الحياة هي الوقت، ومادامت لا تعدوا أن تكون سوى دقائق و ثوان، يلزم على الإنسان أن لا يضيع هذا الوقت ولا يدع الزمن يمر عليه دون فائدة، بل يستفيد من كل دقيقة من الدقائق بما ينفعه في دنياه وآخرته وألا تأتي عليه لحظات يتمنى فيها ويقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾[6] .
تشير بعض الروايات: يطلب سنة، فيقال له: كم قضيت من السنوات، يطلب شهراً فيقال: كم قضيت من الشهور، يطلب يوماً يقال له:كم قضيت من الأيام، يطلب ساعة، فيقال له: كم قضيت من الساعات.
فما دام الإنسان يملك الوقت وهو على قيد الحياة فعليه أن يغتنم الوقت، وأن يستفيد منه (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) ولن تتأتى له الاستفادة من الوقت إلا بالتخطيط فمن المناسب أن يكون عند الإنسان لكل يوم تخطيط، كيف يقضي هذه الساعات في يومه؟.
وقد اعتادت الشركات أن توزع المفكرات اليومية وهي تساعد الإنسان على تسجيل المهام اليومية التي يريد إنجازها. وكثير من الأوقات تضيع في النوم لدرجة أنه يصبح عند بعض الناس هواية، مع إنه ضرورة للجسم؛ لأن الجسم يحتاج له بمقدار حاجته إلى الدواء وكلما وجد فرصة للنوم ينام أكثر وهذا يخسر من حياته الكثير من الوقت لأن من ينام في كل يوم 8 ساعات يخسر ثلث عمره فمن كان عمره 60 سنة فعمره في الحقيقة 40 سنة، 20 سنة ضاعت في النوم، خارج الإحساس بالحياة، وخارج إطار الفاعلية في الحياة. فلا بد للإنسان من أن ينظم وقته ولا يترك أوقات حياته تضيع هدراً.
ولا يُضيع الوقت في أشياء لا تنفع. ومما لا ينفع الساعات التي تقضى خلف سماعات التليفون، فهي ضياع للوقت والمال. ففي سنة 76 بلغت المكالمات الهاتفية داخل المملكة 300 مليون ساعة من المكالمات، ولعلّ القسم الأكبر منها كان ضياعاً للوقت والمال. نعم لا ضير في المكالمات مادامت لأداء غرض ما مهم للإنسان، وكانت لداعٍ معقول، ولم تتجاوز قدر الحاجة كثيراً. أمّا أن يضيع الإنسان وقته وأوقات الآخرين سدىً، فهذا خطأ.
إذن تنظيم الوقت مسألة مهمة حتى لا يضّيع أوقاته وأوقات الناس سدى.
الجانب الثاني: تنظيم التصّرف في الإمكانيات:
في السنة الماضية كان لنا موضوع حول ترشيد الاستهلاك، وفي كل يوم نرى مؤشرات وحالات تفرض علينا التنبيه أكثر على هذا الموضوع.
فالأموال التي بيد الإنسان والإمكانيات التي تتاح له عليه أن ينظم ويرشد استهلاكه لها تبعاً للأولويات التي تستلزمها حياته، فالإسراف حرام شرعاً، وتفويت الأولويات ممنوع عنه شرعاً.
الكثير من الناس لهم دخل ثابت، ولأنهم لا ينظّمون التصرف في دخلهم، لا يجيء آخر الشهر إلاّ وهم مديونون، وذلك لأن الكماليات تأخذ جزءاً كبيراً من حياتنا على حساب الأشياء الأساسية.
قرأت هذه الأيام تقريراً قدم إلى المؤتمر العالمي للذهب في دبي، هذا التقرير يقول: سوق المملكة للذهب تعتبر هي السوق الثالث على مستوي العالم بعد الهند وأمريكا، وتستهلك سنوياً من الذهب مائتين وثمانين طناً ويعادل ما ينفقه الفرد السعودي على الذهب سنوياً 1700 دولار وهناك أشياء كثيرة تخرج بنا في استهلاكنا عن مراعاة الأولويات والضروريات الملحة في حياتنا فقد تجد من يصرف في بعض الأحيان فقط للتفاخر. فينبغي أن تكون ملابسه وأكله ومنزله وغير ذلك من الكماليات موازية في القيمة، أو أكثر لأشياء زميله أو جاره أو …
ويصرح أحد وكلاء شركات السيارات الأمريكية يقول: على مستوى المملكة أول منطقة في السنة الماضية 97م في استهلاك السيارات الأمريكية كانت هي المنطقة الشرقية.
على الإنسان أن ينظم ويتصرف في أمواله بالشكل السليم المحقق لحاجاته وحاجات عائلته وحاجات مجتمعه أيضاً فهذه الأموال ليست لك فقط وإنما ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾[7] ، ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[8] . فالحاجات الموجودة في المجتمع أنت أيضاً معنيٌّ بها.
هذا هو جانب تنظيم الفرد لحياته فيما يرتبط بوقته، وفيما يرتبط بإمكانياته المالية.
النظام في حياة المجتمع:
الجانب الثاني وهو الأهم النظام على المستوى الاجتماعي، فلا بد أن يكون هناك نظام في المجتمع وقانون هذا المجتمع هو الذي يحدد مجال حركة كل فرد، وعلاقته ببقية الأفراد في المجتمع، وعلاقته بالشأن العام في المجتمع، ولكن القانون ينبغي أن يطبق، فإذا كان الناس لا يلتزمون بتطبيق النظام والقانون فإنه لا يكون له أثره فتكون حياة الناس مضطربة.
وهناك جوانب للنظام الاجتماعي.
الجانب الأول: احترام القوانين القائمة:
هناك جوانب لها قوانين في المجتمع فيجب على الفرد أن يرعى هذه القوانين، وكمثال ونموذج مهم قانون المرور، فكل شخص لديه سيارة يريد أن يمشي في الشارع، وله حق، لكن مع كثرة السيارات، ومع تعدد الاتجاهات لا بد من نظام، هذا النظام ينبغي أن يراعى وأن يحترم، وإذا لم يراعى هذا النظام تحدث الحوادث وتحصل المآسي كما أشرنا في الليلة السابقة خاصة عندنا هنا فالإحصاءات والأرقام مذهلة عن نتائج مخالفات نظام المرور. 65-70% من أسباب الوفيات في المملكة هو المخالفات المرورية والحوادث التي تنتج عن المرور وفي السنة الماضية سنة 1997م ثمانية آلاف شخص ماتوا بسبب الحوادث المرورية.
وفي كل ساعة يقع 20 حادثاً، وتعادل خسائر البلد من الحوادث المرورية يومياً مليوني دولار. كما يشغل المصابون في الحوادث المرورية أكبر عدد من الأسرة الموجودة في المستشفيات.فيبلغ عدد الأسرة المشغولة بالمصابين في حوادث المرور 30% من أسرة المستشفيات.
وعن المنطقة الشرقية قرأت تقرير عن السنة الماضية يقول إن 51 ألف حادث مروري وقعت في المنطقة الشرقية، تُوفي فيها 532 شخصاً.
فلماذا هذه السرعة؟! ولماذا لا نراعي نظام المرور؟!
فمن الناحية الشرعية يحرم على الإنسان أن يخالف أنظمة المرور.
لماذا؟
لأن في هذه المخالفة خطراً على حياة المخالف نفسه وعلى حياة الآخرين.
إن الشاب عندما يجلس وراء مقود السيارة يريد أن يستعرض عضلاته وقوته وقدراته في قيادة السيارة، وهو في الحقيقة بما يسببه من حوادث يودي بحياته وحياة الآخرين، فيؤذي عائلته، ويؤذي الناس من حوله.
وهذا حرام من الناحية الشرعية، وواضح الخطأ من الناحية العقلية.
ولتجنب هذه الأخطار على الإنسان أن يراعي أنظمة المرور.
وليكن الالتزام بالنظام بشكل عام صفة للإنسان وجزءاً من حياته اليومية، ومن ذلك أنظمة المؤسسات العامة. فالموظف لابد أن يلتزم بالنظام وأن يحترم القانون، فلا يتأخر عن عمله، ولا يؤخر عمل الناس.
تكتب الصحف والمجلات بعض الأحيان عن حالات سيئة من هذا القبيل. وتشير إلى تأخر المعاملات وتراكمها على مكاتب الموظفين، بينما يقضي بعض الموظفين أوقات الدوام على أشياء خارج عملهم، في حين أن الموظف يتقاضى راتباً من المال العام. فكيف يكون هذا الراتب حلالاً؟ وكيف تكون اللقمة التي يأكلها وينشئ أبناءه عليها حلالاً وهو لا يقوم بالواجب المناط به؟!
من سبل الالتزام بالقوانين:
1- المساواة في تطبيق القانون:
على الإنسان أن يراعي النظام العام في المجتمع وهكذا في مختلف المجالات، فلا يصح أن تكون هناك محسوبيات في تطبيق الأنظمة؛ لأن المحسوبيات من أكثر العوامل الداعية إلى مخالفة النظام وتقويض دعائم الالتزام به.
فمن الأسباب التي تشجع على الالتزام بالنظام كونه يطبق على الجميع دون استثناء. فإذا رأوا الناس أنّ القانون يطبق على الجميع، يلتزمون به، أمّا إذا رأى الناس أن القانون يطبق على الجميع، يلتزمون به أما إذا رأوا فيه محسوبيات وتجاوزات نزولاً عند الواسطة، فيطبق على أناس دون غيرهم، فإن هذا يكون عاملاً مثبطاً عن الالتزام بالنظام.
وجاءت أحاديث تؤكد على احترام القانون وتطبيقه على الجميع دون محاباة.
فقد روي عن رسول الله محمد أنه رفض التوسط لديه لكي يعطل قانوناً، فلا يقيمه على امرأة شريفة من بني مخزوم، رفض ذلك وقال: «إنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد -وهي معصومة وذكرها لبيان أن القانون يطبق على الجميع- سرقت لقطعت يدها»[9] .
فالقانون ينبغي أن يطبق على الجميع لكي يحترمه الجميع.
2- الوعي بالقانون وأهميته:
مراعاة القانون والنظام في المجتمعات أيضاً تحتاج إلى وعي الإنسان بالقانون، وبأهميته في حياته.
والوعي لا يعني المستوى الدراسي والشهادة التي يحملها الإنسان، فقد جاء في تقرير أن 77% ممن حصلت لهم حوادث مرورية في سنة 97م هم من المتعلمين، فالوعي يعني أن يكون الإنسان مدركاً أن مخالفة القانون فيها ضرره وضرر مجتمعه. فيدعوه ذلك إلى مراعاة القانون في كل جوانب حياته الشخصية والعامة.
بعض الناس لا يهتم إلا ببيتة لكن إذا دخل مستشفى أو مدرسة أو حديقة عامة فلا يهتم لشأنها ويفسد فيها. وخاصة بعض الحالات السلبية التي تصدر عن بعض الشباب والأولاد، فيسيئون التصرف في الممتلكات العامة مثل إنارة الشوارع التي هي لصالح المجتمع فيعبثون بها ويكسرونها، والأشجار التي تزين الشوارع أو الموجودة في الحدائق، وكذا المرافق العامة، هذه ظاهرة خاطئة، فلا بد أن يربى الطفل من صغره على احترام المرافق العامة، وعلى احترام النظام، وعلى احترام الهدوء.
نذهب إلى بعض المناطق الغربية فنرى كثير من التجمعات السكنية مع العلم أن جدرانهم ليست إسمنتية كما هي عندنا بل هي غالباً من الخشب، وقد تعيش في بيت وإلى جانبك بيت أو شقة عائلة لديها أطفال لكن لا تسمع صوتاً أو إزعاجاً شديداً أبداً، بينما ترى في مجتمعاتنا المتخلفة عكس ذلك.
إن تطبيق النظام على الجميع سواسية من أبرز معالم التحضر عند الأفراد وفي المجتمعات. ولن يكون استخدام أحدث المنتجات التقنية من حاسبات آلية وغيرها دليلاً على التحضر، ما دمنا نعيش حالة البداوة في التعامل مع الناس، فلا نزال ننظر إلى الآخرين من منظور القبيلة والانتماء بشتى أنواعه.
وهنا يأتي دور التربية لتكون عاملاً مساعداً حتى ينشأ الفرد على أساس احترام النظام والقانون.
3- انسجام القانون مع مصالح الناس دينياً ودنيوياً:
ومن جانب آخر كلما كانت القوانين أكثر انسجاماً مع واقع الناس صار احترامها أكبر وأفضل، وقديما قيل: (إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع).
إذا كان القانون يخالف فطرة الناس، وإذا كان القانون يخالف دين الناس مثلاً، ويخالف عقيدتهم، ومصالحهم، فلن يكتب له السبيل إلى الاحترام والالتزام به. ولذلك ترى عدة دول تسن قوانين ثم يعترض الناس عليها فتغير وتبدل.
لماذا؟
لأن القانون إذا لم يكن منسجماً مع مصالح الناس، فإنهم يخرقونه ويتجاوزونه، لأن مصالحهم قد تدفعهم وقد تفرض عليهم –ونقصد المصالح الحقيقية وليست الأهواء والشهوات- مخالفة هذه القوانين.
الجانب الثاني: تنظيم الحياة الاجتماعية:
هناك بعض الجوانب في حياتنا ليست لها قوانين من قبل الدول، وهي متروكة لنا مثل الجوانب الدينية، والاجتماعية. لذا علينا أن ننظم نحن حياتنا في هذه الجوانب. فلا نحترم فقط القوانين والأنظمة التي تكون من قبل الحكومة، بل علينا نحن أن نعوّد أنفسنا على تنظيم حياتنا في هذه المجالات.
فالمجتمعات المتقدمة تنظم نفسها في مختلف الجوانب حتى في الدخول والخروج، فترى الحركة منسابة بهدوء واحد وراء الثاني وبشكل منظم. بينما ترى مجتمعات أخرى تتدافع في كل مكان، حتى عند ركوب الطائرة، مع أن كل واحد له مقعد محدد له فلن يجلس أحد على مقعده، لكنك لا ترى غالباً انتظاماً في الصعود إلى الطائرة. وإلا فما الداعي إلى التزاحم للوصول إلى الطائرة أولاً، مع ما في التزاحم من ضرر على الناس. ولذلك شواهد كثيرة، منها ما يحصل في الحج من تزاحم يسبب الفوضى وعدم النظام في أداء مناسك الحج، مع أنه عبادة عظيمة، لكنك ترى بعض الحجاج يدافع الناس من حوله، ويعرضهم إلى الأذى، هذا خطأ، يدل على عدم التربية على النظام ومراعاته، بينما المفروض أن يتعود الإنسان على النظام والانتظام مع الآخرين في حركته وفي علاقته معهم.
والشؤون الدينية والاجتماعية تحتاج إلى تنظيم، فيجب أن يكون هناك تنظيم للشؤون الدينية، في كل جوانبها، ومنها جانب الأخماس والحقوق بأن تصرف في مواقعها بما يتوافق مع فتاوى المراجع والفقهاء.
وكذا أنشطة المساجد والحسينيات، ونحن -والحمد الله- لدينا برامج في حسينياتنا، لكنها بحاجة إلى التنظيم والتنسيق فيما بينها، بأن يكون لكل حسينية وقتها، ولمكبر الصوت الخاص بها مداه المناسب. وليس من الصحيح ما نراه من التدافع في المجالس وتوجيه المكبرات نحو بعضها البعض؛ وإلا فذلك دليل على أننا لم نتعود على التنظيم، ولم نتعود أن نرتب أمورنا وشؤوننا. وهكذا في مختلف المجالات والجوانب.
وتعاليم دينا تحثنا على التنظيم، ويتجلى ذلك في الكثير من مظاهر الدين، من ذلك صلاة الجماعة، فالدين يحثنا على صلاة الجماعة، وهي مظهر للنظام، ففيها إمام (قائد) يتقدم الصفوف، والصفوف لابد أن تكون متساوية وممتلئة خلف الإمام، فتسوية الصفوف مستحبة شرعاً، كما أن ملء الفراغ والخلل بين الصفوف مطلوب شرعاً، كما في روايات كثيرة في هذا المجال عن أهل البيت، وانتظام حركة المأمومين مع الإمام مطلوب، فلا يجوز للمأموم أن يسبق الإمام في حركته.
في حين أننا لو نظرنا إلى اليهود في مختلف أنحاء العالم لوجدناهم أكثر الشعوب تنظيماً. ففي بريطانيا يوجد منهم 300 ألف شخص بينما عدد المسلمين هناك مليون ونصف شخص، ولكنك ترى أمور اليهود منظمة ومرتبة، يتعاونون فيما بينهم، ويؤثرون في الانتخابات عبر تنظيم أصواتهم. بينما المسلمون أوضاعهم ليست كذلك مع وجود الحرية للجميع. لماذا يرتب اليهود أمورهم والمسلمون لا؟!
بل قرأت عن بقايا اليهود في مصر، فقد كتبت إحدى الجرائد: بقي في القاهرة من اليهود 84 يهودياً، ينظمون شؤون حياتهم، ولديهم جمعية خاصة، وانتخبوا لهم قبل فترة امرأة رئيسـة للجالية اليهودية في القاهرة.
ولا تعدم المجتمعات المؤمنة المتدينة من هذه الظواهر الإيجابية، من هذه المجتمعات الخوجة. وهم مجتمع شيعي اثنا عشري، أصلهم من الهند من منطقة كوجرات تعرضوا للضغط دينياً من قبل الهندوس من قبل 150 سنة، ويرجع سبب هذا الضغط أنهم كانوا متقدمين في وضعهم الاقتصادي والتجاري، ففروا من تلك المنطقة، وانتشروا في مختلف أنحاء العالم. في البداية أكثريتهم ذهبوا إلى شرق أفريقيا، وقسم منهم في مسقط إلى الآن. عددهم الآن في العالم بين 180ـ200 ألف شخص.
كانوا على المذهب الإسماعيلي لكنهم فيما بعد تحولوا إلى المذهب الإمامي الاثنا عشري.
وبسبب التنظيم السائد بينهم حققوا لهم في لندن وضعاً جيداً، وقد رأيتهم، وزرت بعض مراكزهم.
ويعجب الإنسان من تنظيمهم لأمورهم الدينية والاجتماعية. ففي كل مدينة عندهم مركز ومسجد، ولهم جمعية تديرهم، ينتخبونها من بينهم، كما لديهم اجتماعات دورية، واشتراك ثابت، كل عائلة تدفع 60 جنيهاً اشتراكاً سنوياً. وهذه الجمعية تتكفل بكل شؤونهم العامة.
لهم في لندن مركز ضخم بلغت قيمته 12 مليون جنيه، مع أن عددهم جميعاً في بريطانيا 17 ألفاً، وفي لندن 7 آلاف فقط، ومع ذلك أسسوا هذا المركز الضخم.
كما أن أمورهم الدينية أيضاً منظمة، يعقدون اتفاقاً مع أي مرجع تقليد يقلدونه. فقد عرف عنهم أنهم يوفدون وفداً إلى كل مرجع جديد يريدون الرجوع إليه ليتفاهموا معه فيشرحوا له نظامهم في صرف الأموال، ويوضحون له أن الأولية في صرفها تكون على المحتاجين منهم وفي بلدهم، وما زاد عن ذلك فإنهم يرسلونه إليه. ولا يجدون من المرجع مانعاً في ذلك لأنه من أجل أن ينظموا أمورهم ويرتبوا حياتهم، وهذا ما يريده المرجع من المتدينين في كل مكان.
ولذلك كل الخوجة تقريباً يعتبرون من الأثرياء. موظفون كبار، تعليمهم جيد، يمتلكون شركات ضخمة، منها: أكبر شركة لبيع الكمبيوتر في بريطانيا، وأكبر مصنع زيوت الطبخ، وشبكة كبيرة من الصيدليات في بريطانيا. وهكذا يساعدون بعضهم البعض، رغم أنهم حينما قدموا في البداية إلى بريطانيا كانوا فقراء، حفاة، لكن بتعاونهم وتنظيمهم لأمورهم وصلوا إلى هذا المستوى.
هكذا يجب على المجتمع المتدين أن ينظم أموره وشؤونه. وهذا يحتاج إلى اهتمام كبار المجتمع بوضعه، لأن أفراد المجتمع يحترمون كبار المجتمع ووجهاءه المهتمين بأمره، كما أنهم فيما بينهم يحترمون بعضهم البعض ويتعاونون في نظام من أجل خدمة المجتمع، أمّا إذا فقد الاحترام بين الجميع وصارت أمور الناس بلا ترتيب وبلا نظام، ساد التخلف، وعمت الفرقة والاختلاف، وأصبح كلٌّ رأسٌ يعتد بنفسه.
قومي رؤوس كلهم *** أرأيت مزرعة البصل
ولكل مجتمع ظروفه الخاصة، ويجب أن يرتب شؤونه الدينية والاجتماعية ضمن الظروف التي يعيشها.
وهذا ما يربينا عليه ديننا وينشئنا عليه.
وهذا ما تأمرنا به تعاليم أئمتنا عليهم السلام، فهي تأمرنا بالتعاون، والتواصل، وأن نهتم بشؤون بعضنا البعض.
ففي آخر وصية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب قبيل وفاته قال:«أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أموركم»[10] .
الوصية الثانية التي يوجهها الإمام بعد تقوى الله هي «ونظم أموركم» أن تكون أموركم مرتبة وليست عفوية وارتجالية وفوضوية؛ لأن ذلك يخالف ما يقوله أئمتنا عليهم السلام.
وكان أئمتنا في حياتهم يراعون هذا الجانب. ترى حياة كل إمام من الأئمة قطعة من النظام والالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى وبالاستفادة من مختلف الفرص.