النقد البناء.. لا للتشهير والتجريح

الشيخ حسن الصفار *

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[1] .

تتحدث الآية الكريمة عن صفات المؤمنين وخصائصهم، وتذكر أن من صفات المؤمنين وخصائصهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ فالمؤمن ليس مَلَكاً وإنما بشر، وإذا كان الملك خالياً من دوافع الشهوة ومن بواعث الخطأ والانحراف فإن في طبيعة البشر ذلك، فبالتالي فإن الخطأ وارد في حياته إلا من عصمه الله، والعصمة هي حالة استثنائية اختص الله بها من يشاء لتبليغ رسالته، ولكي يكونوا قدوات وهداة لعباده، أما سائر الناس فهم بشر.

أسباب الخطأ:

والخطأ له عدة أسباب منها:

الجهل: فيتخذ الإنسان قرارا خاطئا بسبب جهله، فالجهل سبب من أسباب الخطأ في حياة الإنسان.

والسبب الثاني: الهوى والرغبة والشهوة في نفس الإنسان: فهذه عوامل تضعف إرادته أمامها ويقل صموده فينجرف نحو الشهوة والخطأ والانحراف بسبب خضوعه لأهوائه، وهذا وارد على الإنسان فقد يحصل في بعض اللحظات أن تتغلب شهوته على إرادته.

السبب الثالث: الاشتباه والغفلة: قد يعتمد الإنسان على مقدمات خاطئة فتقوده إلى الخطأ، أو أن أناساً ينقلون له معلومة خاطئة فيرتب الأثر على ذلك الخبر فيقوده ذلك إلى الخطأ. فليست المسألة مسألة جهل ومسألة هوى وإنما غفلة واشتباه، فهو لم يُرد الخطأ ولم يكن جاهلا من حيث المعرفة والرأي ولكن غفل في التطبيق، وهذا يحدث عند كثير من الناس. فمثلاً عالم من العلماء يعتمد على أناس من حاشيته وتلامذته وعلى شهادتهم، فقد يتخذ قراراً خاطئاً.

والمؤمن لا يختلف عن غير المؤمن في إمكانية الوقوع في الخطأ، ولكن المؤمن أقل من غيره عرضة للخطر بسبب المنهجية السليمة التي يمشي عليها في حياته، فتكون عنده حصانة عن الخطأ.

والفارق بين المؤمن وغيره هو في التعامل مع الخطأ، فهو يقع في الخطأ ولكن لا يصر عليه وإنما يتراجع عنه..قال تعالى:﴿إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ويقصد بها ما اشتد قبحه من الذنوب، ﴿أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ أي ارتكبوا ذنوباً صغيرة. والفاحشة الاعتداء على حقوق الآخرين، فهم يظلمون أنفسهم فيما يرتبط بعلاقتهم مع الله، بتقصيرهم في واجباتهم تجاه الله.

ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن المؤمن إذا اكتشف الخطأ لا يصر عليه.

كيف يكتشف الإنسان الخطأ؟

في بعض الأحيان يكون الإنسان سائراً في غيه ويستمر على خطئه، وهناك أساليب تجعله يكتشف الخطأ في سلوكه وقراراته:

أولا: المحاسبة والنقد الذاتي:
المؤمن ينقد ذاته ويحاسب لنفسه، وتشير الآية إلى هذا ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ أي عرضوا أعمالهم على شرع الله وتصرفاتهم على أمر الله فيكتشفون أين الخطأ والصواب.

والمحاسبة مسألة مهمة.. بأن يفكر الإنسان في أعماله وتصرفاته.

وهناك أحاديث وروايات كثيرة تحث على هذا الأمر: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا حمد الله واستزاده، وإن عمل سوءاً استغفر الله»[2] .

وعن أمير المؤمنين : «حق على المسلم أن تكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل فيحاسب نفسه مما اكتسب في ليله ونهاره».

ويقول رسول الله : «يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب يكون أهون لحسابك غداً»[3] .

وفي حديث آخر: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا»[4] .

فالإنسان لابد أن يحاسب نفسه ويراجع حياته ويتأمل في سلوكه سواء أكان في الأمور الدينية أو الأمور الأخرى، حتى يعرف نقاط الضعف والقوة، وليستطيع أن يتجاوز نقاط الضعف، ويركز نقاط القوة، وهذه المسألة تمكنه من اكتشاف الخطأ وتجاوزه.

وهناك أيضاً مجتمعات تنقد نفسها، ومجتمعات أخرى تنقد الآخرين، وأغلب مجتمعاتنا الإسلامية مبتلاة بهذه الحالة، وهو ملحوظ أيضاً بين المذاهب، فإذا كان عالم ضمن مذهب معين فإنه يهتم بالبحث في نواقص المذهب الآخر. فهذه حالة عامة في المجتمعات المتخلفة.. ينتبهون إلى عيوب غيرهم.

وجاءت الروايات تأمر الإنسان المؤمن بأن يشتغل بعيبه عن عيب غيره. فيجب أن ننظر نحن في حياتنا وطريقة معاملتنا مع الآخرين.

والمجتمعات المتقدمة يمارسون النقد الذاتي لأنفسهم بجرأة ويعترفون بمكان الخطأ. مثلاً الصهاينة بين فترة وأخرى يعدون تقارير عن أنفسهم ويحاولون أن ينقدون أنفسهم، وهذا ينفعهم لأنه يبين لهم نقاط الضعف فيتجاوزونها.

إذن فالنقد الذاتي في الفرد والمجتمع يحتاج إلى جرأة وشجاعة وإخلاص للحقيقة، والإنسان الذي ليس عنده إخلاص للحقيقة فهو يكابر حتى لو بان له الخطأ واضحاً كوضوح الشمس.

ثانياً: قبول النقد من الآخرين:
فالإنسان لا يرى أخطاء نفسه، فمثلاً عندما يريد الإنسان أن يرتدي لباسه فهو لا يرى نفسه بل يحضر له مرآة لتبرز له إذا كان هناك خلل وخطأ فيرتاح من دور هذه المرآة. ولو جاء إنسان ونظر إلى وجهه ورأى فيه شيئا لا يحبه فهو يتضايق منها فيأخذها ويكسرها مع أن المفروض أن يرتاح لأنها كشفت له وجود شيء يجب إزالته.

فالآخرون بالنسبة لنا يمكن أن يقوموا بهذا الدور (دور المرآة). وقد ورد في الحديث: «المؤمن مرآة لأخيه المؤمن»[5]  أي يكتشف من خلاله عيوبه ونقاط ضعفه، فينبغي أن تكون نفسيته مهيأة لقبول النقد من الآخرين.

ويقول الإمام الصادق : «لا يزال الإنسان بخير ما كان له (توفيق من الله عز وجل، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه»[6]  فإذا كانت هذه الأمور متواجدة في شخص فهو بخير، أما إذا كان لا يقبل النصيحة كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ[7] ، ففي بعض الحالات لا يرتاح الإنسان إذا نقده الآخرون فهو يريد دائماً أن يمدحوه، أما إذا بينوا له عيوبه وأخطاءه فهو يعتبر ذلك خدشاً لكبريائه وجرحاً لهيبته وشخصيته، وهذا هو مكمن الخطأ والتخلف.

نحن تربينا في مجتمعاتنا على أن تكون نفوسنا شفافة لا تتحمل النقد ونعتبره إهانة، وهذا خطأ فهو تقويم وتصحيح وهداية وإرشاد، لأن الإنسان إما أنه لا يبصر الخطأ، أو لأن هناك عوامل وأسباباً تحول دون معرفته به فنصيحة الآخرين تساعده على تجاوز هذه الحالة.

روي عن الإمام الصادق : «رحم الله من أهدى لي عيوبي» فهو يريد أن ينبهنا إلى أهمية تقبل النصح والنقد، وأن لا نغتر بأنفسنا ونرى أنفسنا معصومين من الخطأ، فحتى من هو في موقع الخلافة والحكم يعترف بالخطأ فموقفه لا يجعله فوق النقد.

يقول أمير المؤمنين : «ليس أحداً يتوق أن يقال له اتق الله».

حقيقة النقد:

ولابد هنا أن نعرف حقيقة النقد فهناك فرق بين النقد البناء والانتقاد أي النقد الهدام:

النقد البناء (النصيحة الصادقة): هي التي تستهدف مصلحة الموجه إليه بقصد تصحيح خطئه سواء في الأمور العامة أو المصلحة العامة وتضع البديل المناسب.

التجريح (التشهير): ولا يقصد به تصليح وضع الآخرين وإنما استغلال ضعف الآخرين للتشهير بهم وإسقاطهم في المجتمع.

ويوجد في الجاهلية أدب مختص في التجريح وهو شعر هجاء، ومع مجيء الإسلام حاول أن يشذب هذه الحالة من التفاخر والهجاء المتبادل، وهو مأخوذ على العرب حتى الآن، وهناك كتاب ناقش هذه الحالة اسمه (العرب وظاهرة التجريح) لماذا هي تتمركز عند العرب أكثر من غيرهم؟

والإسلام حاول تهذيب هذه الحالة:

قال تعالى: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ[8] .

وعن الإمام جعفر الصادق يقول: «من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروته ليسقطه من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان»[9] .

وفي حديث قدسي عن الله عز وجل: (من أهان لي ولياً فقد أرصد لمحاربتي)[10] .

لذلك لابد أن يفرق الإنسان المؤمن بين الأمرين وكذلك المجتمع، فالنقد مطلوب أما التشهير والتجريح فهو ممنوع شرعاً، «من عيّر مؤمناً أو سبه أو آذاه باء بإثمه يوم القيامة».

والمجتمعات تختلف، فبعضها تقسوا على بعضها ويسود بينها التحاسد، وبعضها يرفع بعضها بعضا، فالمجتمعات التي تساعد بعضها البعض تنمو فيها الطاقات والقدرات. ومن المجتمعات التي تشجع بعضها البعض اليهود فعندما يذهب لاجئ منهم إلى بلد آخر فإنهم يستقبلونه ويساندونه حتى يصبح من أكبر رجال البلد، بينما المسلمون عندما يذهب أحدهم إلى تلك المناطق فإنه يبقى على وضعه ولا يتغير حاله.

يقال إن الإمام أحمد بن حنبل سأل مرة حاتماً الأصم وكان من الحكماء، قال له: كيف السلامة من الناس؟ قال له: أن تبذل لهم مالك، ولا تأخذ شيئاً من أموالهم، وأن تتحمل أذاهم، ولا تؤذي أحداً منهم، وأن تقضي مصالحهم وحوائجهم، ولا تطلب منهم حاجة. قال له: هذا أمر صعب. قال: وقد لا تسلم منهم.

ففي بعض الأحيان تكون هناك حالة قساوة بين الناس. وأئمتنا صلوات الله وسلامه عليهم كانوا رحماء حتى مع أعدائهم، مثل أمير المؤمنين عليهم السلام أيام معركة صفين سمع بعض أصحابه يسبون أهل الشام، فقال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم كان أصوب»[11] .

ومع قسوة بني أمية مع السيدة زينب وزين العابدين فبالرغم مما حدث معهم فليست هناك كلمة نابية قالوها لهؤلاء الأعداء لإثبات التحدي، وإنما كانت الغاية إثبات عزة الإيمان وكسر الهيبة الفاسدة «وأفضل الشهداء عمي حمزة ومن قام إماما» فدائماً الكلام لين ورقيق ليس ذلك خوفاً ولا جبناً وإنما.. كل إناء بالذي فيه ينضح.

وهناك موقف مع الإمام زين العابدين وذلك حينما وقف مع رجل من الأعداء وقال: الحمد لله الذي فضحكم ونصر أمير المؤمنين يزيد عليكم، فالتفت إليه وقال له: «أقرأت القرآن» قال: نعم، قال:« أقرأت قوله تعالى: ﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»[12] ، قال: نعم فقال: «نحن القربى».

ويقول الكلمة نفسها عبيد الله أمام زينب: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، فتقول له: الحمد لله الذي كرمنا بالشهادة وشرفنا بالنبوة إنما يفتضح الفاجر الكافر وهو غيرنا وهو أنت يا بن مرجانة[13] .

* حسينية العوامي - القطيف، 12 محرم 1419هـ

[1]  سورة آل عمران، الآية 135.
[2]  بحار الأنوار، ج68، ص259، الحديث رقم 3.
[3]  بحار الأنوار، ج74، ص85، الحديث رقم 3.
[4]  بحار الأنوار، ج67، ص83، الحديث رقم 26.
[5]  بحار الأنوار، ج72، ص233، الحديث رقم 29.
[6]  بحار الأنوار، ج72، 103، الحديث رقم 32.
[7]  سورة الأعراف، الآية 79.
[8]  سورة الحجرات، الآية 11.
[9]  بحار الأنوار، ج72، ص216، الحديث رقم 16.
[10]  بحار الأنوار، ج64، ص65، الحديث رقم 14.
[11]  بحار الأنوار، ج32، ص561، الحديث رقم 466.
[12]  سورة الشورى، الآية 23.
[13]  راجع: بحار الأنوار، ج45، ص117، الحديث رقم 1.