الإبداع والتطوير في البرامج الدينية
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد الله رب العالمين .. صلى الله عليك يا رسول الله وعلى آل بيتك الطاهرين المعصومين، صلى الله عليك يا مولانا يا سيد الشهداء ورمز التضحية والفداء يا أبا عبدالله الحسين، وعلى أنصارك المجاهدين بين يديك ياليتنا نهتدي بهداكم ونسير على دربكم فنفوز والله فوزا عظيما…
ورد في الحديث عن رسول الله ( ص) أنه قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ومثل أجر من عمل بها من بعده من دون أن ينقص من أجورهم شيء؛ ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه أزرها ومثل وزر ِ من عمل بها من بعده من دون أن ينقص من أوزارهم شيء).
حديثنا هذه الليلة إن شاء الله تحت عنوان : الإبداع و التطوير في البرامج الدينية.
ويشتمل على أربعة محاور:
المحور الأول: النظريات وحاجتها لبرامج التطبيق.
المحور الثاني: برامج تطبيق المفاهيم الدينية.
المحور الثالث: المجتمعات بين حيوية التطوير وحالات الجمود.
المحور الرابع: نموذج الشعائر الحسينية.
الحديث الذي تبركنا بقراءته في بداية حديثنا مروي عن رسول الله نقلته المصادر الإسلامية لمختلف المذاهب، فقد فجاء في صحيح مسلم و ورد في مسند أحمد بن حنبل وأورده النسائي و ابن ماجه و الترمذي، وصححه كثير من العلماء وقد صححه الألباني في أحكام الجنائز كما ورد أيضا في المصادر الشيعية كالكافي و الوسائل وبحار الأنوار وبقية المصادر و الكتب.
كل نظرية من النظريات من أجل أن تشق طريقها إلى الواقع ومن أجل أن تتجسد في الحياة تحتاج إلى برامج، و إلى خطط تنفيذية عملية، أما إذا بقيت في المجال النظري دون أن تتوفر لها البرامج و الخطط التنفيذية التطبيقية فإنها لا تترك أثراً في حياة الناس، ولا يمكن أن يتأكد من سلامتها و صحتها و انعكاساتها، وهذا يجري على مختلف أنواع النظريات السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية، وحتى على المستوى الشخصي، الواحد منا إذا كانت لديه فكرة ما أو طموح ما، حتى مع توفر الإمكانات، فإنه يحتاج إلى خطة عمل. فلو كانت لديك أرض ومبلغ من المال و تريد أن تبني بيتاً، هذه فكرة، ولكن كيف تتحول هذه الفكرة إلى شيء عملي مجسد؟ لابد من خارطة عمل، إذا لم يكن هناك مهندس، إذا لم يكن هناك مكتب هندسي، يضع لك خارطة لبناء هذا المنزل الذي تريد بناءه، أو هذا المشروع الذي تريد تنفيذه على هذه الأرض، فإن مجرد وجود فكرة لديك، أو وجود طموح ، لا يحقق شيء على الصعيد الخارجي. وهكذا في مختلف المجالات، إذا أردت أن تتعلم لغة من اللغات، لابد لك من برنامج، إذا أردت أن تسافر للسياحة تحتاج إلا برنامج.
على المستوى الاجتماعي العام إذا كانت هناك نظرية معينة في المجال الاقتصادي من أجل تنمية الحالة الاقتصادية في المجتمع، هذه النظرية تحتاج إلى برامج من أجل أن تشق طريقها إلى التطبيق في الواقع العملي. وعلمياً أيضاً هناك نظريات كثيرة في العلم وعند العلماء، ولكن أي نظرية من النظريات تحتاج إلى برنامج للتجسيد والتنفيذ والتطبيق الخارجي، حتى يتأكد من صحتها.
وفي بعض الأحيان تكون هناك نظرية صحيحة ولكن البرنامج غير صحيح، هذه النظرية لا تعطي نتائج جيدة، إذ لابد من نظرية صحيحة ويرافقها برنامج صحيح متناسب معها حتى يمكن التأكد من صحة هذه النظرية و الاستفادة من تأثيراتها.
الدين مجموعة من المفاهيم والمبادئ، ولا يكمن الاستفادة منها إذا بقيت مجرد آراء ومعتقدات في نفوس أصحابها، لابد وأن تكون هناك برامج عملية وتطبيقية تنتج عن هذه المفاهيم، وتؤكد صحة هذه المفاهيم، وتربط بين حياة الإنسان وبين هذه المفاهيم. فلابد من وجود برامج، وخطط وأساليب. ونحن نجد أن العبادات الواردة عندنا في الإسلام والشعائر الإسلامية إنما هي برامج تنبثق من تلك المفاهيم والمبادئ الدينية. نحن نؤمن بالله سبحانه وتعالى ونوحده، هذه عقيدة في عقولنا وأفكارنا، في نفوسنا و قلوبنا، ولكن يجب أن تنعكس على سلوكنا. فلابد من برامج من خلالها نستحضر هذه العقيدة، ولذلك تأتي العبادات: الصلاة الصيام الحج، بقية العبادات الإسلامية، هذه العبادات إنما هي برامج وأساليب ووسائل تؤكد وتفعّل العقيدة التي نؤمن بها.
البرامج الدينية على نوعين: هناك برامج منصوص عليها تعبدية توقيفية. الشرع نص على برامج معينة، فهناك كليات، مفاهيم دعا إليها الإسلام، توجيهات وضعها الإسلام وأقرها، ولكن مسألة البرامج متروكة لسعي الناس واجتهاداتهم. الصلاة برنامج توقيفي، نحن لانستطيع أن نزيد في الصلاة شيء، ولا ننقص في الصلاة شيء، قال رسول : (صلوا كما رأيتموني أصلي). الصلاة برنامج عبادي توقيفي لا نستطيع أن ننقص منها، ولانزيد فيها شيء، وإنما نؤديها في إطار الواجبات والمستحبات الواردة في الشرع. ولكن هناك مفاهيم وأمور دينية عامة متروكة للمسلمين أن يفكروا في برامج تطبيقها، مثلاً الإسلام يدعونا إلى الإحسان إلى الآخرين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾. فالإحسان للآخرين مطلوب: (خير الناس من نفع الناس)، (خصلتان ليس فوقهما من البر شيء : الإيمان بالله و النفع لعباد الله)، ولكن برامج الإحسان وبرامج النفع للناس، مجالها مفتوح، ممكن أن نجتهد في برامج ووسائل وأساليب الدعوة إلى الخير، مطلوب منا أن ندعو إلى الخير: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾. لكن ماهي برامج الدعوة إلى الخير؟ هذا الأمر متروك للناس، هم يختارون البرامج المناسبة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك، وهكذا في مختلف المجالات. هناك كليات ومفاهيم إسلامية تحتاج إلى برامج للتطبيق وللتنفيد والتجسيد.
نحن نلاحظ أن المجتمعات البشرية على نوعين: بعض المجتمعات دائماً تفكر في تطوير برامج حياتها. هناك قيم، هناك مفاهيم ثابتة تؤمن بها هذه المجتمعات، ولكن البرامج والأساليب والخطط والوسائل تتغير وتتبدل. وهناك بعض المجتمعات، التطوير فيها بسيط. إذا كان هناك أسلوب، إذا كانت هناك وسيلة، يبقى هذا البرنامج كما هو لقرون لا يتغير، لا يتبدل. بالتأكيد كلما تقدم الزمن تطورت حياة البشرية، هناك أفكار جديدة .. هناك مكتشفات جديدة .. هناك تحديات جديدة لم تكن موجودة في السابق ، هذا التطور الزمني والعلمي والاجتماعي يفرض على المجتمعات أن تواكبه بنوع من التطور في أساليب ووسائل حياتها، في المجال المادي، وخاصة في هذا العصر إذ أصبح التطوير أمراً مفروضاً لا خيار لأي مجتمع من المجتمعات في التردد فيه، أو الوقوف عنده. مثلاً وسائل المواصلات تطورت وليس هناك خيار إلا مواكبة هذا التطور، فلو أن مجتمعاً من المجتمعات تحفظ تجاه وسيلة من الوسائل، هذه التحفظات تسحق بعجلة هذا التطور الزاحف في حياة المجتمعات.
وهذا ما حصل .. ينقلون أن بعض المتدينين أو العلماء حينما جاءت سكة الحديد في العراق، وسار قطار يركبه الناس ويستفيدون منه في مواصلاتهم، غضب هذا العالم غضباً شديداً، وخطب في الناس قائلاً: (أيها الناس تتركون حمير الله وتركبون حمير الشيطان، عندكم حمير طبيعية خلقها الله سبحانه وتعالى لتركبونها، وتركبون هذا القطار الذي صنعه الغرب، هذا حمار الشيطان). لكن هذا التحفظ لا يمكن أن يصمد لأن تطور الحياة يسحق ويزيل مثل هذه التحفظات. أحد الشعراء في مصر حينما صارت التليفونات السلكية وبدأ الناس يتواصلون عبرها، شعر بتشاؤم كبير، وأنشأ قصيدة:
على الإسلام والدنيا السلام إذا في السلك قد صار الكلام
عبر الأسلاك يتكلم الناس مع بعضهم البعض، إذن على الإسلام السلام. ولكن هذه التحفظات لا تستطيع أن تصمد أمام عجلة تطور الحياة الموجودة، نحن مضطرون، وكل المجتمعات، أن نواكب هذا التطور الحياتي في مختلف المجالات، وفي مختلف الجوانب: الصحية والتعليمية، وفي الجوانب المختلفة. هناك مستوى معين لا نمتلك الحرية في الوقوف عنده، وإذا ما وقفنا عنده فإننا سنشعر بالخسارة .. سنشعر بالضرر .. سنشعرر بالخروج من ساحة الحياة العالمية. ولكن هناك مساحة أخرى هي المساحة الدينية والاجتماعية، في الجانب الديني والاجتماعي هنا مجال للنقاش، يمكنك أن تبادر للتطوير حتى تستوعب التطور الذي حصل في الحياة، ويمكنك أن تقف وأن تتحفظ، والآخرون لا يستطيعون أن يجبرونك، ولكن التفاعلات الموجودة في داخل المجتمع ستترك أثرها وستجبرك عاجلاً أم آجلاً أن تستجيب لها. وهذه هي المسألة المهمة التي يجب أن تقف عندها مجتمعات التغيير، المجتمعات التي لا تقبل الركود والجمود في عاداتها، في أعراسها، في برامجها الحياتية والاجتماعية والدينية.
إن سرعة التطوير في مجتمعاتنا بطيئة، بينما في المجتمعات التقدمة نجد أن هناك سرعة في التطوير، سرعة في التغيير. فالمسألة ليست مسألة القيم والمبادئ، نحن لا نطالب بأن تتغير قيمنا وثوابتنا الدينية، ولكن الكلام في البرامج، الكلام في الخطب، الكلام في الوسائل، والأساليب، ينبغي أن نطورها. إذا لم تتطور أساليبنا وبرامجنا وخططنا فإن استيعابنا لأبنائنا ولأجيالنا وللتطورات الموجودة في عصرنا سوف لا يكون شيئا سليماً، لن نستطيع أن نستوعب حتى أبنائنا، لن نستطيع أن نستوعبهم إذا لم نطور الأساليب والبرامج والوسائل.
ماهي أسباب بطء التغيير في حياتنا الاجتماعية والدينية؟ من أبرز الأسباب هاجس الانحراف، وهاجس الابتداع. عندنا نصوص تحذر من البدع ومن الابتداع في الدين، وهذه النصوص موجودة عند المسلمين السنة والشيعة، فعن رسول الله أنه قال: (( إن أصدق الحديث كتاب الله وإن أحسن الهدى هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة))، وقد ورد في نص ((... ضلالة، وكل وضلالة وأهلها في النار)). وردت عندنا نصوص كثيرة تحذر من البدعة والابتداع، ولذلك هناك هاجس عند كثير من المسلمين، وخاصة في الوسط الديني، هاجس في التطوير، حتى لا ندخل في إطار البدع والابتداع، هذا الهاجس يتضخم عند بعض من الناس، فيعتبرون أي تغيير بدعة، أي تطوير سواء كان ثقافياً أو اجتماعياً أو في الأساليب أو الخطط يعتبرونه بدعة، ويطبقون عليه هذه الأحاديث والنصوص. هذه الحالة عند مختلف المذاهب، وإن كانت عند بعض الفئات أجلى وأكثر منها عند فئات أخرى. ولكن هذا الهاجس موجود، وكذلك هناك خشية من أي تغيير، من أي تطوير، حتى لا ندخل في إطار البدع، ومن جانب آخر حتى لا يؤثر على قيمنا، على مفاهيمنا، نخشى أن أي تطوير يحصل يكون مجرد بداية، وهذه البداية ممكن أن تستمر ونفقد السيطرة فيما يمكن أن تصل الأمور إلى العقائد الأصلية التي لا يمكن تغييرها، أو التنازل عنها. هذا الهاجس قوي موجود، وعند بعض الفئات: كل شيء تحكم عليه بدعة حتى الأشياء البسيطة الحياتية ترى أنها بدعة.
ينقل العلماء أمثلة في التمسك الحرفي في القضايا الدينية، ومن ذلك: البنت البكر التي لم تتزوج من قبل لا يصح أن تتزوج إلا برضاها، تسأل هل أنت موافقة على الزواج من هذا الإنسان، وبهذا الصادق؟ فلا يمكن أن تتزوج من غير رضاها وبغير إرادتها.
كانت هناك مشكلة في المجتمع إذ أن البنت البكر من الطبيعي أن يكون عندها حياء وخجل في بعض الأحيان يمنعها من الكلام وإظهار الموافقة بحيث تقول بكل وضوح نعم أريد الزواج من هذا الشخص. تجاه هذه الحالة ورد الحديث عن رسول الله أنه قال: (البكر سكوتها رضاها). جاء بعض العلماء من الحرفين الذين يتمسكون بالنص، وقال: إذا سئلت البت البكر: هل أنت موافقة على هذا الشخص؟ فقالت: نعم أنا موافقة، لكان ذلك غير صحيح، ولا يقبل منها هذا الكلام، لأن النبي قال: سكوتها رضاها.
أتباع أهل البيت، شيعة أهل البيت، صلوات الله وسلامه عليهم، صارت عندهم برامج من قديم الزمان، ليست برامج حادثة طارئة جديدة، وإنما هي من قديم الزمان لإحياء ذكرى أبي عبدالله الحسين . والكلام أولاً أن هناك بعض الجهات تعتبر هذه الشعائر والبرامج بدع، وتصف الشيعة، وتصف ممارستهم لهذه الشعائر بأنها ممارسات للبدع، وفي كل عام وخاصة في أيام عاشوراء وحيث ينشغل أتباع أهل البيت بهذه المراسم والبرامج، عادة ما تخرج كتابات، وتخرج بيانات، وقد توزع كتب، حتى في مناطق الشيعة ضد هذه الممارسات. لماذا؟ على هذه البدع، وصحيح أن هذا الكلام كلام خاطئ.
ما هي البدع؟ البدعة: هي الشيء الذي لا يكون له أصل في الدين وينسب إلى الدين. هذه تعتبر بدعة وهذا ما حذر منه الشرع. أما إذا كان الموضوع لا يرتبط بالدين، مسائل حياتية عامة، هذه لا يمكن أن يقال فيها بدعة، أو كأن يرتبط بالدين لكنه مصداق للعمومات والكليات الدينية، هذا أيضا لا يمكن اعتباره بدعة. هل يناقش أحد أن الله سبحانه وتعالى قد أمر المسلمين وفرض عليهم مودة أهل البيت ؟ القرآن الكريم صريح في ذلك، يقول تعالى: ﴿ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، ورسول الله في أحاديث كثيرة ومتواترة ومشهورة، ولسنا الآن في صدد ذكر توثيقاتها وصحيح إسنادها، أنه طالما كان يوصي بأهل بيته ((إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي))، ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق))، ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء))، ((أوصيكم بأهل بيتي))، ((أذكركم الله بأهل بيتي)). وأحاديث كثيرة.
إذن عندنا مبدأ إسلامي وهو مودة أهل البيت، هو الولاء للعترة الطاهرة حب آل البيت ومن أكبر الأدلة أنهم أُفردوا بالصلاة عليهم في التشهد، وهذا ما يعترف به جميع المسلمين، في التشهد إنما يصلى على رسول الله وعلى آل بيته، ورد في أكثر من مصدر والكتب الفقيه وهذا معروف في التشهد عند المسلمين\" اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد\" النص هنا نص صريح بإضافة أهل البيت إلى الرسول دون غيرهم، فليس هناك ذكر للأصحاب، وهذا لا يعني الإنقاص من شأن الأصحاب ككل، ولكن النص يقتصر على أهل البيت (عليهم السلام). فهناك مبدأ إسلامي هو الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) فإذا اجتهدنا في وضع برامج من أجل تفعيل هذا المبدأ، فما الذي يمنع؟ وعلى سبيل المثال: القرآن الكريم وهو الثقل، والمسلمون مطالبون بحفظه واحترامه وإكرامه، ولكن مع مرور الزمن وُجدت برامج لم تكن موجودة في عهد رسول الله ، ولا في عهد الأصحاب؛ مثلاً العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم: علم التجويد لم يكن موجوداً آنذاك، تنقيط حروف القرآن الكريم لم تكن موجوداً آنذاك، وأيضاً الاهتمام بحفظ القرآن الكريم على شكل مؤسسات: مدارس تحفيظ القرآن، وضع جوائز ومسابقات لحفظ القرآن كما هو الحال في كثيرٍ من بلاد المسلمين، فهل قام رسول الله بمسابقات لحفظ القرآن؟ لا توجد رواية تقول بذلك، إذن هذه المسابقات بدعة !!! والجواب بخلاف ذلك، لأن عندنا كليات وأوامر عامة وهذه مصاديق لتلك الكليات، فهي ليست بدعة.
كما أن هناك روايات تأمرنا بالاهتمام بالقرآن كذلك هناك روايات تأمرنا بمودة العترة الطاهرة، والبرامج التي نقوم بها هي مصاديق للأوامر والكليات التي تتضمنها هذه الروايات، فعلى أي أساس تكون بدعة؟
من جانبٍ آخر إخواننا أهل السنة، يرون أن البدعة تنقسم إلى عدة أقسام ويرون أن هناك بدعة حسنة، حتى أن بعض العلماء، وهو الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، وفي كتابه (تهذيب اللغات)، يقسم البدعة إلى خمسة أقسام، يقول: هناك بدعة واجبة وأخرى محرمة وأخرى مستحبة وأخرى مكروهة، وأخرى مباحة. ويستدلون بما فعله عمر في صلاة التراويح، بينما الرسول لم يكن يصلي نوافل شهر رمضان جماعة وكذلك في عهد الخليفة الأول أبو بكر، وشطراً من عهد الخليفة عمر. ولكن الخليفة عمر في ليلة من ليالي شهر رمضان دخل المسجد فوجد المسلمين متفرقين كل يصلي لوحده، فأمرهم أن يجتمعوا على أبي بن كعب ليصلي بهم نوافل شهر رمضان جماعة، وقال: إنها نعمة البدعة. مع لحاظ أن النبي لم يقم بذلك ولا الخليفة أبو بكر، ومع أن هذه المسألة ترتبط بالصلاة، وهي عبادة توقيفية، إلا أن هذه المسألة أعتمدت عند إخواننا أهل السنة.
فلماذا الاستنكار على طائفة من المسلمين اجتهدت واشتقت مصاديق من مبدأ عام، إضافةً إلى أن أباع أهل البيت يعتبرون أئمة أهل البيت امتداداً لجدهم رسول الله ، وبالتالي أقوالهم حجة، وأفعالهم وتقريراتهم كذلك، باعتبارهم معصومين كما نعتقد. وقد ورد عن أئمتنا أقوالٌ تأمرنا بمثل هذه المراسيم، ومثل هذه الأعمال، فلماذا يُستنكر علينا شيئاً لنا حجيةٌ عليه، ولنا دليلٌ شرعي وفق عقيدتنا، ووفق مذهبنا.
فلا داعي لإثارة هذه الإشكاليات في كل عام وفي كل سنة، فالشيعة لديهم رأيهم وأدلتهم، ويمكن الاستدلال على عملهم حتى من خلال منظومة وآراء المذاهب الأخرى، فضلاً عن مذهب أهل البيت .
والكلمة الأخيرة ترتبط بتطوير هذه الشعائر، أهل البيت أمرونا بأصل الإحتفاء بقضية الإمام الحسين : البكاء على الإمام الحسين، زيارة الإمام الحسين، تخليد مظلومية الإمام الحسين، إحياء أمر الإمام الحسين وأهل البيت ؛ ولكن الوسائل والأساليب كانت تتطور عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل. ففي زمن الأئمة لم تكن صورة الإحياء كما هي في صورتها التفصيلية الآن. بذور الإحتفاء غرست في عهد الأئمة ثم نمت وتطورت تحت إشراف الفقهاء، وتحت رعاية العلماء، وبجهود الصالحين والمخلصين للدين ولأهل البيت ، حتى وصلت إلى الصيغ الموجودة عندنا الآن.
ولكن هل هذه الصيغ ثابتة ونهائية؟ ألا يمكن تغييرها؟ ألا يمكن تطويرها؟ هنا يأتي الحيث الشريف: (من سنة في الإسلام سنة حسنة).
نحن في عصرٍ متطور، نحن في عصرٍ متغير، فلا مانع، بل هناك دافع من أجل التطوير، وطرح أساليب جديدة: المسرحيات، الأفلام، الفضائيات، والوسائل الحديثة المختلفة.
ينبغي أن يكون الأفق عندنا مفتوحاً، إذ في بعض الأحيان يتشبث الناس بعادة معينة، بأسلوبٍ معين، ويعتبرونه مقدساً. أتذكر قبل حوالي 30 سنة بدأ بعض الخطباء من العراق يأتون عندنا إلى المنطقة الشرقية في السعودية، وكان متداولاً عندنا في مجالس الخطابة في محرم أن الخطيب يبدأ بنعي الإمام الحسين ثم يأتي بموضوع، ويختم المجلس بنعي، بعض الخطباء الذين جاؤوا ما كانوا يقرؤون شعراً في بداية خطابتهم، وإنما يبدؤون بالموضوع مباشرةً، وصارت ضجة على إثر ذلك وكُتبت استفتاءات للعلماء: هل هذا يجوز؟ هل يصح البدء بالمضوع دون قصيدة فيها نعي الإمام الحسين ، خاصةً إذا كانت القراءة من وقف؟ فواضح أن هناك تشبث بأسلوبٍ معين. هذه الأساليب يمكن تغييرها وتطويرها، بغض النظر أي أسلوب أفضل وأحسن.
وأيضاً بالنسبة لتخصيص ليالي عشرة المحرم ضمن حدثٍ معين كما هو متعارف عند أغلب الشيعة، وهذا عرفٌ تعارف عليه المؤمنون عبر العصور، ولكنه ليس عرفاً مقدساً، فيُمكن تغييره ووضع عناوين أخرى، تتناسب مع وضع وواقع المجتمع. ولا أقترح شيئاً محدداً وإنما أناقش أهصل الفكرة، وأن هذه الشعائر التي نمارسها ينبغي على العلماء والمفكرين والمثقفين عصر أفكارهم لتطويرها وإبداع الوسائل الأفضل والأحسن، وخاصةً ونحن نعيش في هذا العصر، وهذا الزمان، إذ انفتحت أمامنا آفاقٌ ينبغي استغلالها. بعكس السابق إذ كنا نمارس شعائرنا فيما بيننا، وفي أماكن مغلقة؛ أما الآن فشعائرنا تبث على العالم كله، الفضائيات ووسائل الإعلام، وخاصة الآن ومع التغيير الذي حصل في العراق، فإن وسائل الإعلام ستنقل كل مايجري في ايام عاشوراء وخصوصاً في كربلاء. ونحن من خلال هذه الشعائر نخاطب العالم، ونبرز صورتنا أمام العالم، ولذلك ينبغي أن يكون هناك تفكيرٌ في التطوير، الأشياء الجيدة نتمسك، أما التي تحتاج إلى تطوير نُطورها.
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد الله رب العالمين .. صلى الله عليك يا رسول الله وعلى آل بيتك الطاهرين المعصومين، صلى الله عليك يا مولانا يا سيد الشهداء ورمز التضحية والفداء يا أبا عبدالله الحسين، وعلى أنصارك المجاهدين بين يديك ياليتنا نهتدي بهداكم ونسير على دربكم فنفوز والله فوزا عظيما…
ورد في الحديث عن رسول الله ( ص) أنه قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ومثل أجر من عمل بها من بعده من دون أن ينقص من أجورهم شيء؛ ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه أزرها ومثل وزر ِ من عمل بها من بعده من دون أن ينقص من أوزارهم شيء).
حديثنا هذه الليلة إن شاء الله تحت عنوان : الإبداع و التطوير في البرامج الدينية.
ويشتمل على أربعة محاور:
المحور الأول: النظريات وحاجتها لبرامج التطبيق.
المحور الثاني: برامج تطبيق المفاهيم الدينية.
المحور الثالث: المجتمعات بين حيوية التطوير وحالات الجمود.
المحور الرابع: نموذج الشعائر الحسينية.
الحديث الذي تبركنا بقراءته في بداية حديثنا مروي عن رسول الله نقلته المصادر الإسلامية لمختلف المذاهب، فقد فجاء في صحيح مسلم و ورد في مسند أحمد بن حنبل وأورده النسائي و ابن ماجه و الترمذي، وصححه كثير من العلماء وقد صححه الألباني في أحكام الجنائز كما ورد أيضا في المصادر الشيعية كالكافي و الوسائل وبحار الأنوار وبقية المصادر و الكتب.
كل نظرية من النظريات من أجل أن تشق طريقها إلى الواقع ومن أجل أن تتجسد في الحياة تحتاج إلى برامج، و إلى خطط تنفيذية عملية، أما إذا بقيت في المجال النظري دون أن تتوفر لها البرامج و الخطط التنفيذية التطبيقية فإنها لا تترك أثراً في حياة الناس، ولا يمكن أن يتأكد من سلامتها و صحتها و انعكاساتها، وهذا يجري على مختلف أنواع النظريات السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية، وحتى على المستوى الشخصي، الواحد منا إذا كانت لديه فكرة ما أو طموح ما، حتى مع توفر الإمكانات، فإنه يحتاج إلى خطة عمل. فلو كانت لديك أرض ومبلغ من المال و تريد أن تبني بيتاً، هذه فكرة، ولكن كيف تتحول هذه الفكرة إلى شيء عملي مجسد؟ لابد من خارطة عمل، إذا لم يكن هناك مهندس، إذا لم يكن هناك مكتب هندسي، يضع لك خارطة لبناء هذا المنزل الذي تريد بناءه، أو هذا المشروع الذي تريد تنفيذه على هذه الأرض، فإن مجرد وجود فكرة لديك، أو وجود طموح ، لا يحقق شيء على الصعيد الخارجي. وهكذا في مختلف المجالات، إذا أردت أن تتعلم لغة من اللغات، لابد لك من برنامج، إذا أردت أن تسافر للسياحة تحتاج إلا برنامج.
على المستوى الاجتماعي العام إذا كانت هناك نظرية معينة في المجال الاقتصادي من أجل تنمية الحالة الاقتصادية في المجتمع، هذه النظرية تحتاج إلى برامج من أجل أن تشق طريقها إلى التطبيق في الواقع العملي. وعلمياً أيضاً هناك نظريات كثيرة في العلم وعند العلماء، ولكن أي نظرية من النظريات تحتاج إلى برنامج للتجسيد والتنفيذ والتطبيق الخارجي، حتى يتأكد من صحتها.
وفي بعض الأحيان تكون هناك نظرية صحيحة ولكن البرنامج غير صحيح، هذه النظرية لا تعطي نتائج جيدة، إذ لابد من نظرية صحيحة ويرافقها برنامج صحيح متناسب معها حتى يمكن التأكد من صحة هذه النظرية و الاستفادة من تأثيراتها.
الدين مجموعة من المفاهيم والمبادئ، ولا يكمن الاستفادة منها إذا بقيت مجرد آراء ومعتقدات في نفوس أصحابها، لابد وأن تكون هناك برامج عملية وتطبيقية تنتج عن هذه المفاهيم، وتؤكد صحة هذه المفاهيم، وتربط بين حياة الإنسان وبين هذه المفاهيم. فلابد من وجود برامج، وخطط وأساليب. ونحن نجد أن العبادات الواردة عندنا في الإسلام والشعائر الإسلامية إنما هي برامج تنبثق من تلك المفاهيم والمبادئ الدينية. نحن نؤمن بالله سبحانه وتعالى ونوحده، هذه عقيدة في عقولنا وأفكارنا، في نفوسنا و قلوبنا، ولكن يجب أن تنعكس على سلوكنا. فلابد من برامج من خلالها نستحضر هذه العقيدة، ولذلك تأتي العبادات: الصلاة الصيام الحج، بقية العبادات الإسلامية، هذه العبادات إنما هي برامج وأساليب ووسائل تؤكد وتفعّل العقيدة التي نؤمن بها.
البرامج الدينية على نوعين: هناك برامج منصوص عليها تعبدية توقيفية. الشرع نص على برامج معينة، فهناك كليات، مفاهيم دعا إليها الإسلام، توجيهات وضعها الإسلام وأقرها، ولكن مسألة البرامج متروكة لسعي الناس واجتهاداتهم. الصلاة برنامج توقيفي، نحن لانستطيع أن نزيد في الصلاة شيء، ولا ننقص في الصلاة شيء، قال رسول : (صلوا كما رأيتموني أصلي). الصلاة برنامج عبادي توقيفي لا نستطيع أن ننقص منها، ولانزيد فيها شيء، وإنما نؤديها في إطار الواجبات والمستحبات الواردة في الشرع. ولكن هناك مفاهيم وأمور دينية عامة متروكة للمسلمين أن يفكروا في برامج تطبيقها، مثلاً الإسلام يدعونا إلى الإحسان إلى الآخرين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾. فالإحسان للآخرين مطلوب: (خير الناس من نفع الناس)، (خصلتان ليس فوقهما من البر شيء : الإيمان بالله و النفع لعباد الله)، ولكن برامج الإحسان وبرامج النفع للناس، مجالها مفتوح، ممكن أن نجتهد في برامج ووسائل وأساليب الدعوة إلى الخير، مطلوب منا أن ندعو إلى الخير: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾. لكن ماهي برامج الدعوة إلى الخير؟ هذا الأمر متروك للناس، هم يختارون البرامج المناسبة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك، وهكذا في مختلف المجالات. هناك كليات ومفاهيم إسلامية تحتاج إلى برامج للتطبيق وللتنفيد والتجسيد.
نحن نلاحظ أن المجتمعات البشرية على نوعين: بعض المجتمعات دائماً تفكر في تطوير برامج حياتها. هناك قيم، هناك مفاهيم ثابتة تؤمن بها هذه المجتمعات، ولكن البرامج والأساليب والخطط والوسائل تتغير وتتبدل. وهناك بعض المجتمعات، التطوير فيها بسيط. إذا كان هناك أسلوب، إذا كانت هناك وسيلة، يبقى هذا البرنامج كما هو لقرون لا يتغير، لا يتبدل. بالتأكيد كلما تقدم الزمن تطورت حياة البشرية، هناك أفكار جديدة .. هناك مكتشفات جديدة .. هناك تحديات جديدة لم تكن موجودة في السابق ، هذا التطور الزمني والعلمي والاجتماعي يفرض على المجتمعات أن تواكبه بنوع من التطور في أساليب ووسائل حياتها، في المجال المادي، وخاصة في هذا العصر إذ أصبح التطوير أمراً مفروضاً لا خيار لأي مجتمع من المجتمعات في التردد فيه، أو الوقوف عنده. مثلاً وسائل المواصلات تطورت وليس هناك خيار إلا مواكبة هذا التطور، فلو أن مجتمعاً من المجتمعات تحفظ تجاه وسيلة من الوسائل، هذه التحفظات تسحق بعجلة هذا التطور الزاحف في حياة المجتمعات.
وهذا ما حصل .. ينقلون أن بعض المتدينين أو العلماء حينما جاءت سكة الحديد في العراق، وسار قطار يركبه الناس ويستفيدون منه في مواصلاتهم، غضب هذا العالم غضباً شديداً، وخطب في الناس قائلاً: (أيها الناس تتركون حمير الله وتركبون حمير الشيطان، عندكم حمير طبيعية خلقها الله سبحانه وتعالى لتركبونها، وتركبون هذا القطار الذي صنعه الغرب، هذا حمار الشيطان). لكن هذا التحفظ لا يمكن أن يصمد لأن تطور الحياة يسحق ويزيل مثل هذه التحفظات. أحد الشعراء في مصر حينما صارت التليفونات السلكية وبدأ الناس يتواصلون عبرها، شعر بتشاؤم كبير، وأنشأ قصيدة:
على الإسلام والدنيا السلام إذا في السلك قد صار الكلام
عبر الأسلاك يتكلم الناس مع بعضهم البعض، إذن على الإسلام السلام. ولكن هذه التحفظات لا تستطيع أن تصمد أمام عجلة تطور الحياة الموجودة، نحن مضطرون، وكل المجتمعات، أن نواكب هذا التطور الحياتي في مختلف المجالات، وفي مختلف الجوانب: الصحية والتعليمية، وفي الجوانب المختلفة. هناك مستوى معين لا نمتلك الحرية في الوقوف عنده، وإذا ما وقفنا عنده فإننا سنشعر بالخسارة .. سنشعر بالضرر .. سنشعرر بالخروج من ساحة الحياة العالمية. ولكن هناك مساحة أخرى هي المساحة الدينية والاجتماعية، في الجانب الديني والاجتماعي هنا مجال للنقاش، يمكنك أن تبادر للتطوير حتى تستوعب التطور الذي حصل في الحياة، ويمكنك أن تقف وأن تتحفظ، والآخرون لا يستطيعون أن يجبرونك، ولكن التفاعلات الموجودة في داخل المجتمع ستترك أثرها وستجبرك عاجلاً أم آجلاً أن تستجيب لها. وهذه هي المسألة المهمة التي يجب أن تقف عندها مجتمعات التغيير، المجتمعات التي لا تقبل الركود والجمود في عاداتها، في أعراسها، في برامجها الحياتية والاجتماعية والدينية.
إن سرعة التطوير في مجتمعاتنا بطيئة، بينما في المجتمعات التقدمة نجد أن هناك سرعة في التطوير، سرعة في التغيير. فالمسألة ليست مسألة القيم والمبادئ، نحن لا نطالب بأن تتغير قيمنا وثوابتنا الدينية، ولكن الكلام في البرامج، الكلام في الخطب، الكلام في الوسائل، والأساليب، ينبغي أن نطورها. إذا لم تتطور أساليبنا وبرامجنا وخططنا فإن استيعابنا لأبنائنا ولأجيالنا وللتطورات الموجودة في عصرنا سوف لا يكون شيئا سليماً، لن نستطيع أن نستوعب حتى أبنائنا، لن نستطيع أن نستوعبهم إذا لم نطور الأساليب والبرامج والوسائل.
ماهي أسباب بطء التغيير في حياتنا الاجتماعية والدينية؟ من أبرز الأسباب هاجس الانحراف، وهاجس الابتداع. عندنا نصوص تحذر من البدع ومن الابتداع في الدين، وهذه النصوص موجودة عند المسلمين السنة والشيعة، فعن رسول الله أنه قال: (( إن أصدق الحديث كتاب الله وإن أحسن الهدى هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة))، وقد ورد في نص ((... ضلالة، وكل وضلالة وأهلها في النار)). وردت عندنا نصوص كثيرة تحذر من البدعة والابتداع، ولذلك هناك هاجس عند كثير من المسلمين، وخاصة في الوسط الديني، هاجس في التطوير، حتى لا ندخل في إطار البدع والابتداع، هذا الهاجس يتضخم عند بعض من الناس، فيعتبرون أي تغيير بدعة، أي تطوير سواء كان ثقافياً أو اجتماعياً أو في الأساليب أو الخطط يعتبرونه بدعة، ويطبقون عليه هذه الأحاديث والنصوص. هذه الحالة عند مختلف المذاهب، وإن كانت عند بعض الفئات أجلى وأكثر منها عند فئات أخرى. ولكن هذا الهاجس موجود، وكذلك هناك خشية من أي تغيير، من أي تطوير، حتى لا ندخل في إطار البدع، ومن جانب آخر حتى لا يؤثر على قيمنا، على مفاهيمنا، نخشى أن أي تطوير يحصل يكون مجرد بداية، وهذه البداية ممكن أن تستمر ونفقد السيطرة فيما يمكن أن تصل الأمور إلى العقائد الأصلية التي لا يمكن تغييرها، أو التنازل عنها. هذا الهاجس قوي موجود، وعند بعض الفئات: كل شيء تحكم عليه بدعة حتى الأشياء البسيطة الحياتية ترى أنها بدعة.
ينقل العلماء أمثلة في التمسك الحرفي في القضايا الدينية، ومن ذلك: البنت البكر التي لم تتزوج من قبل لا يصح أن تتزوج إلا برضاها، تسأل هل أنت موافقة على الزواج من هذا الإنسان، وبهذا الصادق؟ فلا يمكن أن تتزوج من غير رضاها وبغير إرادتها.
كانت هناك مشكلة في المجتمع إذ أن البنت البكر من الطبيعي أن يكون عندها حياء وخجل في بعض الأحيان يمنعها من الكلام وإظهار الموافقة بحيث تقول بكل وضوح نعم أريد الزواج من هذا الشخص. تجاه هذه الحالة ورد الحديث عن رسول الله أنه قال: (البكر سكوتها رضاها). جاء بعض العلماء من الحرفين الذين يتمسكون بالنص، وقال: إذا سئلت البت البكر: هل أنت موافقة على هذا الشخص؟ فقالت: نعم أنا موافقة، لكان ذلك غير صحيح، ولا يقبل منها هذا الكلام، لأن النبي قال: سكوتها رضاها.
أتباع أهل البيت، شيعة أهل البيت، صلوات الله وسلامه عليهم، صارت عندهم برامج من قديم الزمان، ليست برامج حادثة طارئة جديدة، وإنما هي من قديم الزمان لإحياء ذكرى أبي عبدالله الحسين . والكلام أولاً أن هناك بعض الجهات تعتبر هذه الشعائر والبرامج بدع، وتصف الشيعة، وتصف ممارستهم لهذه الشعائر بأنها ممارسات للبدع، وفي كل عام وخاصة في أيام عاشوراء وحيث ينشغل أتباع أهل البيت بهذه المراسم والبرامج، عادة ما تخرج كتابات، وتخرج بيانات، وقد توزع كتب، حتى في مناطق الشيعة ضد هذه الممارسات. لماذا؟ على هذه البدع، وصحيح أن هذا الكلام كلام خاطئ.
ما هي البدع؟ البدعة: هي الشيء الذي لا يكون له أصل في الدين وينسب إلى الدين. هذه تعتبر بدعة وهذا ما حذر منه الشرع. أما إذا كان الموضوع لا يرتبط بالدين، مسائل حياتية عامة، هذه لا يمكن أن يقال فيها بدعة، أو كأن يرتبط بالدين لكنه مصداق للعمومات والكليات الدينية، هذا أيضا لا يمكن اعتباره بدعة. هل يناقش أحد أن الله سبحانه وتعالى قد أمر المسلمين وفرض عليهم مودة أهل البيت ؟ القرآن الكريم صريح في ذلك، يقول تعالى: ﴿ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، ورسول الله في أحاديث كثيرة ومتواترة ومشهورة، ولسنا الآن في صدد ذكر توثيقاتها وصحيح إسنادها، أنه طالما كان يوصي بأهل بيته ((إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي))، ((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق))، ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء))، ((أوصيكم بأهل بيتي))، ((أذكركم الله بأهل بيتي)). وأحاديث كثيرة.
إذن عندنا مبدأ إسلامي وهو مودة أهل البيت، هو الولاء للعترة الطاهرة حب آل البيت ومن أكبر الأدلة أنهم أُفردوا بالصلاة عليهم في التشهد، وهذا ما يعترف به جميع المسلمين، في التشهد إنما يصلى على رسول الله وعلى آل بيته، ورد في أكثر من مصدر والكتب الفقيه وهذا معروف في التشهد عند المسلمين\" اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد\" النص هنا نص صريح بإضافة أهل البيت إلى الرسول دون غيرهم، فليس هناك ذكر للأصحاب، وهذا لا يعني الإنقاص من شأن الأصحاب ككل، ولكن النص يقتصر على أهل البيت (عليهم السلام). فهناك مبدأ إسلامي هو الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) فإذا اجتهدنا في وضع برامج من أجل تفعيل هذا المبدأ، فما الذي يمنع؟ وعلى سبيل المثال: القرآن الكريم وهو الثقل، والمسلمون مطالبون بحفظه واحترامه وإكرامه، ولكن مع مرور الزمن وُجدت برامج لم تكن موجودة في عهد رسول الله ، ولا في عهد الأصحاب؛ مثلاً العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم: علم التجويد لم يكن موجوداً آنذاك، تنقيط حروف القرآن الكريم لم تكن موجوداً آنذاك، وأيضاً الاهتمام بحفظ القرآن الكريم على شكل مؤسسات: مدارس تحفيظ القرآن، وضع جوائز ومسابقات لحفظ القرآن كما هو الحال في كثيرٍ من بلاد المسلمين، فهل قام رسول الله بمسابقات لحفظ القرآن؟ لا توجد رواية تقول بذلك، إذن هذه المسابقات بدعة !!! والجواب بخلاف ذلك، لأن عندنا كليات وأوامر عامة وهذه مصاديق لتلك الكليات، فهي ليست بدعة.
كما أن هناك روايات تأمرنا بالاهتمام بالقرآن كذلك هناك روايات تأمرنا بمودة العترة الطاهرة، والبرامج التي نقوم بها هي مصاديق للأوامر والكليات التي تتضمنها هذه الروايات، فعلى أي أساس تكون بدعة؟
من جانبٍ آخر إخواننا أهل السنة، يرون أن البدعة تنقسم إلى عدة أقسام ويرون أن هناك بدعة حسنة، حتى أن بعض العلماء، وهو الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، وفي كتابه (تهذيب اللغات)، يقسم البدعة إلى خمسة أقسام، يقول: هناك بدعة واجبة وأخرى محرمة وأخرى مستحبة وأخرى مكروهة، وأخرى مباحة. ويستدلون بما فعله عمر في صلاة التراويح، بينما الرسول لم يكن يصلي نوافل شهر رمضان جماعة وكذلك في عهد الخليفة الأول أبو بكر، وشطراً من عهد الخليفة عمر. ولكن الخليفة عمر في ليلة من ليالي شهر رمضان دخل المسجد فوجد المسلمين متفرقين كل يصلي لوحده، فأمرهم أن يجتمعوا على أبي بن كعب ليصلي بهم نوافل شهر رمضان جماعة، وقال: إنها نعمة البدعة. مع لحاظ أن النبي لم يقم بذلك ولا الخليفة أبو بكر، ومع أن هذه المسألة ترتبط بالصلاة، وهي عبادة توقيفية، إلا أن هذه المسألة أعتمدت عند إخواننا أهل السنة.
فلماذا الاستنكار على طائفة من المسلمين اجتهدت واشتقت مصاديق من مبدأ عام، إضافةً إلى أن أباع أهل البيت يعتبرون أئمة أهل البيت امتداداً لجدهم رسول الله ، وبالتالي أقوالهم حجة، وأفعالهم وتقريراتهم كذلك، باعتبارهم معصومين كما نعتقد. وقد ورد عن أئمتنا أقوالٌ تأمرنا بمثل هذه المراسيم، ومثل هذه الأعمال، فلماذا يُستنكر علينا شيئاً لنا حجيةٌ عليه، ولنا دليلٌ شرعي وفق عقيدتنا، ووفق مذهبنا.
فلا داعي لإثارة هذه الإشكاليات في كل عام وفي كل سنة، فالشيعة لديهم رأيهم وأدلتهم، ويمكن الاستدلال على عملهم حتى من خلال منظومة وآراء المذاهب الأخرى، فضلاً عن مذهب أهل البيت .
والكلمة الأخيرة ترتبط بتطوير هذه الشعائر، أهل البيت أمرونا بأصل الإحتفاء بقضية الإمام الحسين : البكاء على الإمام الحسين، زيارة الإمام الحسين، تخليد مظلومية الإمام الحسين، إحياء أمر الإمام الحسين وأهل البيت ؛ ولكن الوسائل والأساليب كانت تتطور عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل. ففي زمن الأئمة لم تكن صورة الإحياء كما هي في صورتها التفصيلية الآن. بذور الإحتفاء غرست في عهد الأئمة ثم نمت وتطورت تحت إشراف الفقهاء، وتحت رعاية العلماء، وبجهود الصالحين والمخلصين للدين ولأهل البيت ، حتى وصلت إلى الصيغ الموجودة عندنا الآن.
ولكن هل هذه الصيغ ثابتة ونهائية؟ ألا يمكن تغييرها؟ ألا يمكن تطويرها؟ هنا يأتي الحيث الشريف: (من سنة في الإسلام سنة حسنة).
نحن في عصرٍ متطور، نحن في عصرٍ متغير، فلا مانع، بل هناك دافع من أجل التطوير، وطرح أساليب جديدة: المسرحيات، الأفلام، الفضائيات، والوسائل الحديثة المختلفة.
ينبغي أن يكون الأفق عندنا مفتوحاً، إذ في بعض الأحيان يتشبث الناس بعادة معينة، بأسلوبٍ معين، ويعتبرونه مقدساً. أتذكر قبل حوالي 30 سنة بدأ بعض الخطباء من العراق يأتون عندنا إلى المنطقة الشرقية في السعودية، وكان متداولاً عندنا في مجالس الخطابة في محرم أن الخطيب يبدأ بنعي الإمام الحسين ثم يأتي بموضوع، ويختم المجلس بنعي، بعض الخطباء الذين جاؤوا ما كانوا يقرؤون شعراً في بداية خطابتهم، وإنما يبدؤون بالموضوع مباشرةً، وصارت ضجة على إثر ذلك وكُتبت استفتاءات للعلماء: هل هذا يجوز؟ هل يصح البدء بالمضوع دون قصيدة فيها نعي الإمام الحسين ، خاصةً إذا كانت القراءة من وقف؟ فواضح أن هناك تشبث بأسلوبٍ معين. هذه الأساليب يمكن تغييرها وتطويرها، بغض النظر أي أسلوب أفضل وأحسن.
وأيضاً بالنسبة لتخصيص ليالي عشرة المحرم ضمن حدثٍ معين كما هو متعارف عند أغلب الشيعة، وهذا عرفٌ تعارف عليه المؤمنون عبر العصور، ولكنه ليس عرفاً مقدساً، فيُمكن تغييره ووضع عناوين أخرى، تتناسب مع وضع وواقع المجتمع. ولا أقترح شيئاً محدداً وإنما أناقش أهصل الفكرة، وأن هذه الشعائر التي نمارسها ينبغي على العلماء والمفكرين والمثقفين عصر أفكارهم لتطويرها وإبداع الوسائل الأفضل والأحسن، وخاصةً ونحن نعيش في هذا العصر، وهذا الزمان، إذ انفتحت أمامنا آفاقٌ ينبغي استغلالها. بعكس السابق إذ كنا نمارس شعائرنا فيما بيننا، وفي أماكن مغلقة؛ أما الآن فشعائرنا تبث على العالم كله، الفضائيات ووسائل الإعلام، وخاصة الآن ومع التغيير الذي حصل في العراق، فإن وسائل الإعلام ستنقل كل مايجري في ايام عاشوراء وخصوصاً في كربلاء. ونحن من خلال هذه الشعائر نخاطب العالم، ونبرز صورتنا أمام العالم، ولذلك ينبغي أن يكون هناك تفكيرٌ في التطوير، الأشياء الجيدة نتمسك، أما التي تحتاج إلى تطوير نُطورها.