ولاية الأب ومصلحة البنت
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
1.ولاية الأب والجد على البنت البكر البالغة الرشيد في قرار زواجها - عند القائلين بذلك من الفقهاء - سواء على نحو استقلاله بالقرار أو المشاركة فيه مع البنت، إنما ينطلق من مراعاة مصلحة البنت، فلأنها بكر لا تجربة لها في الحياة الزوجية، ولكونها غير مخالطة للرجال فمعرفتها بصفاتهم وأخلاقياتهم محدودة، ولما قد يغلب عليها من الاندفاع العاطفي، لكل ذلك يخشى عليها من أن لا يكون قرارها في اختيار الزوج موضوعياً مناسباً، فتتورط في حياة زوجية لا تسعد بها، ولا يمكنها الخلاص منها بسهولة، باعتبار أن قرار الانفصال والطلاق بيد الزوج.
كما أنها لو حصل بينها وبين زوجها أي مشكل فستحتاج إلى وقوف أهلها معها، وإذا ما كان الزواج خلاف رأيهم، فستحرم من دعمهم ومساعدتهم عند اللزوم.
لهذه الحيثيات التي تصب في مصلحة البنت كان لوليها دور في قرار زواجها، وتشير إلى ذلك بعض الأحاديث الواردة، وبعض كلمات الفقهاء. ففي صحيحة الفضل بن عبد الملك عن الإمام الصادق قال: «إذا أراد أبوها أن يزوجها هو أنظر لها»[1] أي هو أصوب نظراً لتحقيق مصلحتها، لخبرته الاجتماعية، وحرصه على مستقبل ابنته، ولموضوعيته في اتخاذ القرار دون الوقوع تحت سيطرة الأحاسيس والعواطف.
ويقول الشيخ النجفي في الجواهر: (النهي كراهة عن الاستبداد وعدم الطاعة والانقياد، خصوصاً الأب الذي هو غالباً أنظر لها، وأعرف بالأمور منها، وأدعى لما يصلحها، وهو المتكلف بأمورها، وبالخصومة مع زوجها لو حدث بينهما نزاع أو شقاق، فالذي يليق بها إيكال أمرها إليه)[2] .
ويقول الدكتور الزحيلي في تقريره لأدلة جمهور أهل السنة على أن النكاح لا يصح إلا بولي: (الزواج عقد خطير دائم ذو مقاصد متعددة من تكوين أسرة، وتحقيق استقرار وغيرها، والرجل بما لديه من خبرة واسعة في شؤون الحياة أقدر على مراعاة هذه المقاصد، أما المرأة فخبرتها محدودة، وتتأثر بظروف وقتية، فمن المصلحة لها تفويض العقد لوليها دونها)[3] .
سقوط ولاية الأب وإذنه:
2.لو أساء الأب استخدام صلاحيته في قرار زواج بنته البكر الرشيدة، ورفض الموافقة على تزويجها من خاطب كفو ترغب فيه دون مبرر مقبول، كما يحصل ذلك من قبل بعض الآباء، إما لانحراف في مزاجه وأخلاقه، أو لتصفية حسابات مع البنت أو أمها، وخاصة حينما يكون هناك انفصال أو طلاق بين الأب والأم، أو لموقف شخصي أو عائلي من خاطب ابنته، أو ما أشبه ذلك من الأسباب التي لا تبرر تعويق زواج البنت مع رغبتها. ففي هذه الحالة تسقط ولايته ويسقط اعتبار إذنه، بإجماع فقهاء المسلمين من مختلف مذاهبهم.
العضل:
3.ويطلق على تعويق الأب لزواج ابنته دون مبرر مقبول عضل.
وفي الصحاح يقال: عضل الرجل أيّمه إذا منعها من التزويج. وعضلت عليه تعضيلاً إذا ضيقت عليه في أمره، وحلت بينه وبين ما يريد[4] .
وقد استعمل الفقهاء العضل في النكاح بمعنى منع التزويج، قال ابن قدامة: معنى العضل منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك ورغب كل منهما في صاحبه.
والأصل أن عضل الولي من له ولاية تزويجها حرام لأنه ظلم، وإضرار بالمرأة في منعها حقها في التزويج بمن ترضاه، وذلك لنهي الله سبحانه وتعالى عنه في قولـه مخاطباً الأولياء: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ البقرة 232[5] .
وإنما يتحقق العضل المسقط لولاية الولي وإذنه إذا توفر أمران:
الأول: أن يكون الخاطب كفؤاً للبنت، بالمنظار الشرعي، بأن لا يكون ممن ورد النهي عن التزويج بهم ولو بنحو الكراهة كشارب الخمر وتارك الصلاة والمتجاهر بالفسق، وليس المراد به من يفقد الكفاءة المعتبرة شرعاً في صحة النكاح كالإسلام إذا كانت المرأة مسلمة، إذ أنها لا بد منها وبدونها يحكم ببطلان العقد سواء أذن الأب أم لم يأذن، كانت البنت بكراً أم ثيبا. وليس هذا الفرض محلاً للخلاف من حيث كونه عضلاً وعدمه، وسقوط ولاية الأب والجد وعدمه[6] .
وأيضاً أن يكون كفؤاً لها من الناحية العرفية: كما إذا كانت هناك أعراف سائدة في المجتمع، بتصنيف العوائل والقبائل إلى مستويات متفاوتة، من حيث الأنساب أو الحالة الاقتصادية أو المكانة الاجتماعية، وخطبت البنت من قبل شخص لائق لها بالمنظار الشرعي، لكنه متفاوت معها في المكانة من حيث تلك الأعراف السائدة في المجتمع. فهنا يرى أكثر الفقهاء أنه يحق للأب أن يمتنع من الموافقة على تزويجها ولا يعتبر ذلك عضلاً، لأن الخاطب ليس كفؤاً لها.
لكن بعض الفقهاء لديه تأمل ونظر في موضوع الكفاءة العرفية، لأن الإسلام أسقط هذه الاعتبارات[7] ، ودعا أبناءه إلى تجاوزها فالمسلم كفو المسلمة، وعليه فلا يكون تفاوت مكانة الخاطب معها اجتماعياً مبرراً مقبولاً لمنع الولي من تزويجها إياه.
الثاني: ميلها ورغبتها في الزواج من ذلك الخاطب.
فإذا توفر هذان الأمران: كفاءة الخاطب، ورغبتها فيه، ثم امتنع الولي فيصدق عليه حينئذ أنه عاضل لها، فتسقط ولايته وإذنه.
وجميل جداً ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله في الاستدلال على ذلك: (بمناسبات الحكم والموضوع فإن المستفاد من جملة من النصوص أن ولاية الأب ثابتة لها لا عليها - أي لمصلحتها لا لإضرارها - ومن الواضح أن هذا إنما يقتضي النظر في أمرها ومراعاة مصلحتها في كل ما يقوم به لها)[8] .
موارد سقوط الولاية:
4.وهناك موارد أخرى تسقط فيها ولاية الأب والجد واعتبار إذنهما في زواج البنت البكر الرشيد منها:
أ.إذا سقطا عن الأهلية بالارتداد أو الجنون ونحوه.
ب.إذا اعتزلا التدخل في أمور زواجها مطلقاً.
ج.إذا لم تتمكن من استئذانهما لسفر أو سجن ونحوه وكانت محتاجة للزواج.
هل تنتقل الولاية؟
5.وإذا سقط اعتبار إذن الأب والجد لأحد الأسباب السابقة، فهل تستقل البنت الرشيدة بقرار زواجها؟ أم تنتقل الولاية لأحد آخر عليها بحيث تلزم موافقته وإذنه؟
فقهاء الشيعة أجمعوا على استقلالها حينئذ بقرار زواجها، دون حاجة لإذن أحد حتى الحاكم الشرعي.
أما فقهاء السنة فعند الحنفية والشافعية والمالكية أن الولاية تنتقل إلى السلطان لقول النبي صلى الله عليه وآله صحبه وسلم: «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له»ولأن الولي قد امتنع ظلماً من حق توجه عليه فيقوم السلطان مقامه لإزالة الظلم. والمذهب عند الحنابلة أنه إذا عضل الولي الأقرب انتقلت الولاية إلى الولي الأبعد، نص عليه أحمد، لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب فملكه الأبعد كما لو جُنَّ، ولأنه يفسق بالعضل فتنتقل الولاية عنه، فإن عضل الأولياء كلهم زوج الحاكم[9] .
حالات مؤلمة:
6.في هذا الزمن وحيث تهب عواصف الفساد والانحراف، فإن على الآباء أن لا يتشددوا في أمر زواج بناتهم إذا توفر الخاطب المناسب، ومع الأسف الشديد هناك حالات مؤلمة شاذة، يُجرم فيها بعض الآباء تجاه بناتهم، فيعضلون زواجهن لأسباب ومبررات تافهة، مع رغبة البنت في الزواج، وذلك حرام شرعاً لأنه ظلم تجاه البنت، وتفويت لمصلحتها، وهدم لمستقبلها، كما أن ذلك يفتح أبواب الفساد، وخاصة حينما تكون هناك رغبة عند الطرفين، ويوصد عليهما الطريق المشروع.
وعلى المجتمع أن يرفض هذه الحالات الإجرامية ويستنكر مواقف مثل هؤلاء الآباء، وأن يُفسح المجال للبنت لتمارس حقها المشروع في الزواج رغماً على أبيها إذا كان عاضلاً لها حسب الضوابط الشرعية، وأن لا تكون مراعاة خواطر مثل هؤلاء الآباء على حساب مصلحة ومستقبل بناتهم المحرومات.