الرضاع وتحريم التزاوج

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين



إنّما تستمر حياة الطفل بعد خروجه من بطن أمه، وينمو جسمه، وتكتمل بنيته عبر اللبن الذي يرتضعه، فهو غذاؤه الأساس، وبه ينبت لحمه، ويشتدّ عظمه.
فإذا أرضعته أمّه فسيكون ذلك امتداداً لدورها في نشأته وتكوينه، أمّا إذا أرضعته امرأة أخرى غير أمه، فإنّ نموه وتشكّل قوته يكون معتمداً على لبنها، فكأنه جزء منها. فتحصل عُلقة وارتباط مادي ونفسي بين المرتَضِع ومن أرضعته.

وعلى هذا الأساس واعترافاً بهذه الحقيقة قرّر الشرع احترام هذه العلقة والارتباط، واعتبرها في درجة العلاقة والارتباط النَّسَبي، من ناحية حرمة التزاوج، فكما يحرَمُ التزاوجُ بين طبقة الأقرباء النَّسَبِيين، كذلك يحرَمُ من ذات الطبقة إذا كانت هناك علاقة رضاع.

يقول تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ[1] .

وتواتر عن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) قولـه: « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ».

وقد ذكر الفقهاء شروطاً للرضاع الذي ينشئ هذه العلقة ويسبب التحريم.

1- حصول اللبن للمرضعة من ولادة شرعية: وإن كان عن وطء شبهة.

فلو درّ اللبن من المرأة من دون ولادة، أو ولدت من الزنا، فأرضعت بلبنها طفلاً لم ينشر الحرمة.

وتنتشر الحرمة بحصول الرضاع بعد ولادة المرضعة ووضع حملها، سواء وضعته تاماً أم سقطاً مع صدق الولد عليه عرفاً، وأمّا الرضاع السابق على الولادة فلا أثر له في التحريم.

واستدل الشيعة بروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) كموثقة يونس بن يعقوب قال:« سألت أبا عبد اللَّه - جعفر الصادق - عن امرأة درّ لبنها من غير ولادة فأرضعت جارية وغلاماً من ذلك اللبن، هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال: لا»[2] .

وترى مذاهب أهل السنة أن أي لبن درّ من المرأة ولو كانت بكراً، أو من دون زوج فهو ينشر الحرمة، فلا يشترط عندهم أن يكون من ولادة، لكن المذهب الحنبلي اشترط أن يكون من لبن امرأة حصل لها اللبن من الحمل[3] .

2- حصول الارتضاع بامتصاص الطفل من الثدي: ولو بالاستعانة بآلة، أمّا إذا أُلقي اللبن في فم الطفل أو شرب اللبن المحلوب من المرأة ونحو ذلك لم ينشر الحرمة.

ولا يشترط فقهاء أهل السنة ذلك حيث يكفي عندهم وصول اللبن إلى معدة الرضيع سواء بالإمتصاص من الثدي أم بشربه من الإناء أو الزجاجة[4] .

3- حياة المرضعة: فلو كانت المرأة ميتة حال ارتضاع الطفل منها ولو في بعض الرضعات فلا تعتبر تلك الرضعات مما يسبب نشر الحرمة.

هذا عند فقهاء الشيعة وأما جمهور السنة فلم يشترطوا ذلك ورأوا أن لبن الميتة والصغيرة التي لم تطق الوطء إن قدّر أن لها لبناً يحرّم. عدا الشافعية فقد اشترطوا في المرأة أن تكون حيّة حياة مستقرة حال انفصال اللبن منها، وقد بلغت تسع سنين قمرّية، فلا تحريم برضاع المرأة الميتة والصغيرة[5] .

4- أن يكون الرضاع في السنة الأولى والثانية: من عمر الطفل، أمّا إذا أكمل الحولين وهما المدة الطبيعية للرضاع، فإنّ ارتضاعه بعدهما لا ينشر الحرمة. وأمّا المرضعة فلا يلزم في تأثير ارضاعها أن يكون دون الحولين من ولادتها. فلو أرضعته بعد مرور سنتين على ولادتها فإنّه ينشر الحرمة في رأي أكثر الفقهاء، بينما يرى فقهاء آخرون كصاحب الجواهر أنّه لا ينشر الحرمة.

ويوافق فقهاء المذاهب الأربعة المذهب الشيعي في اشتراط أن يكون الرضاع في حال الصغر، فلا يحرم رضاع الكبير وهو من تجاوز السنتين. وخالف داود الظاهري هذا الاجماع ورأى أن رضاع الكبير يحرّم أيضاً[6] .

5- خلوص اللبن: فالممزوج في فم الطفل بشيء آخر لا ينشر الحرمة إلاّ إذا كان الخليط مستهلكاً عرفاً. ويوافق الشيعة على هذا الشرط الحنفية والمالكية، واعتبر الشافعية في الأظهر والحنابلة في الراجح اللبن المختلط بغيره كاللبن الخالص[7] .

6- كون اللبن منتسباً بتمامه إلى رجل واحد: فلو طلقت المرأة بعد ولادتها، وافترض أنّها تزوجت آخر، وولدت له، فأرضعت طفلاً ضمن الحالتين المقدار المعتبر في التحريم، لم ينشر ذلك الحرمة.

7- وحدة المرضعة: فلو كان لرجل زوجتان ولدتا منه، فأرضع طفل بعض الرضعات المعتبرة من الزوجة الأولى، وباقي الرضعات من الزوجة الثانية لم تنشر الحرمة.

8- أن يكون الرضاع بمقدار معيّن: من حيث الزمن فيكون رضاع يوم وليلة، أو من حيث الكمية بأن يبلغ خمس عشرة رضعة، مع شرط أن لا يتقيأ الطفل الحليب الذي يرتضعه، فلا تعتبر حالات تقيؤه ضمن التحديد المذكور زمناً أو كميةً، وأن يكون الطفل بالنسبة لرضاع يوم وليلة معتمداً على ارضاعه كغذاء وحيد، أمّا لو تخلله غذاء آخر فلا تحصل المدة الزمنية المعتبرة.

وفي التقدير بالرضعات الخمسة عشر يشترط فيها كمال الرضعة وتوالي الرضعات بأن لا يفصل بينها ارتضاع أو غذاء آخر. ويرى بعض فقهاء الشيعة كفاية عشر رضعات كاملة متوالية في إحداث التحريم.

ويكفي عند الشافعية والحنابلة خمس رضعات. أما المالكية والحنفية فيرون أن الرضاع ولو بالمصّة أو القطرة الواحدة يكون سبباً للتحريم[8] .



[1]  سورة النساء الآية 23.
[2] الحر العاملي: الشيخ محمد بن الحسن/ وسائل الشيعة ج20 باب9 ص398 الطبعة الأولى/ مؤسسة أهل البيت /بيروت 1413هـ.
[3]  الزحيلي: الدكتور وهبة/ الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص705-706.
[4]  المصدر السابق ص706.
[5]  المصدر السابق.
[6]  المصدر السابق ص708.
[7]  المصدر السابق ص707.
[8]  المصدر السابق ص710-711.