اختلاف المذهب هل يمنع التزاوج
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
اختلاف المذاهب وتعدد الآراء ليس أمراً جديداً طارئاً في حياة المسلمين، فجذور هذا الاختلاف المذهبي نشأت في العقود الأولى للقرن الأول من تاريخ الإسلام، حيث ظهرت في أوساط الصحابة آراء متباينة حول تولي الخلافة بعد وفاة الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم)، فكان الإمام علي بن أبي طالب يرى نفسه الأولى بالخلافة ومعه بنو هاشم ونفر من الأصحاب، بينما تمت مبايعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، في غياب علي ومؤيديه، ومع أنّ الإمام علياً ومن معه بايعوا أبا بكر فيما بعد إلا أنّه تكوّن اتجاه موال لأهل البيت، يعتقد بأولويتهم وأحقيتهم، ثم جاء حكم الأمويين وما حصل خلاله من اضطهاد لأهل البيت وشيعتهم، بلغ ذروته في واقعة كربلاء سنة 61هـ، لتكرّس اتجاه الولاء والتشيع لأهل البيت في أوساط الأمة، وليتمايز الاتجاهان، الاتجاه العام والرسمي والذي أصبح يطلق عليه فيما بعد أهل السنة، والاتجاه الموالي لأهل البيت والذي أخذ فيما بعد عنوان التشيع والشيعة.
كما ظهرت ملامح اتجاه ثالث أثناء خلافة الإمام علي ، على أثر قضية التحكيم في واقعة صفين، هو اتجاه الخوارج، الذين عارضوا التحكيم بعد حصوله، وتمرّدوا على حكم الإمام علي .
كل هذه التوجهات ارتسمت ملامحها في النصف الأول من القرن الأول للهجرة، وفي منتصف القرن الثاني بدأ ظهور المدارس الكلامية، والمذاهب الفقهية، كمدرسة أهل الحديث وأهل الرأي، والأشاعرة والمعتزلة، ومذاهب أهل السنة المختلفة، وتشعّبت الاتجاهات لدى أتباع أهل البيت (عليهم السلام).
وبمرور الزمن وبفعل العوامل السياسية، والمناظرة والتنافس والبحث العلمي، تجذّرت المذاهب والتوجهات الرئيسية في الأمة، وتلاشت أو ضعفت بقية الاتجاهات.
تعدد في إطار الوحدة:
لكن تعدد المذاهب والتوجهات في تلك القرون الأولى لم يؤثر على وحدة كيان الأمة، ولم يصنع الحواجز الاجتماعية بين أتباع تلك المذاهب والتوجهات.
وذلك لأن المبادئ الإسلامية للدين، والمعالم الرئيسية للشريعة كانت تعتبر حداً جامعاً وإطاراً مشتركاً، يستوعب تعدد المذاهب والاتجاهات، فالجميع يؤمنون بالله رباً، وبمحمد (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) نبياً، وبالآخرة معاداً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة، ويلتزمون بالأخذ بسنة الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) ويقيمون الصلاة بفرائضها الخمس، ويؤتون الزكاة، ويصومون شهر رمضان، ويؤدون فريضة الحج في وقتها المقرر، ويتفقون على تحريم الخمر والزنا والربا وسائر المحرمات المعروفة بين المسلمين.
أمّا اختلاف الرأي في بعض التفاصيل العقدية والفقهية، أو تباين المواقف السياسية، فلا يصح أن يحول الأمة إلى كتل منفصلة عن بعضها.
وكان التزاوج والتداخل في الأحساب والأنساب مظهراً من مظاهر وحدة المجتمع الإسلامي واندماجه، حيث لم تكن الاختلافات حائلاً ولا حاجزاً دون ذلك، فالإمام علي بن أبي طالب تزوج أسماء بنت عميس زوجة الخليفة الأول أبي بكر بعد وفاته، وتربى محمد ابن أبي بكر في حجره، والخليفة الثاني عمر بن الخطاب تزوج أم كلثوم بنت الإمام علي، كما ورد في الكافي[1] ، وتزوج الإمام الحسن جعدة بنت الأشعث وبين شمر بن ذي الجوشن وأبناء الإمام علي من أم البنين العباس وأخوته علاقة خؤلة[2] ، وليلى أم علي الأكبر بن الحسين حفيدة أبي سفيان، من ابنته ميمونة[3] وورد أن الإمام زين العابدين والإمام الباقر كانت لهما زوجتان خارجيتان وما طلقاهما إلا لإظهارهما التنقّص من علي وسبه[4] . وتزوج الإمام الرضا والإمام محمد الجواد من ابنتي الخليفة المأمون العباسي.
لكن ظروف التشاحن المذهبي، التي عاشتها الأمة فيما بعد، أوجدت ميلاً إلى القطيعة والتباعد الاجتماعي بين اتباع المذاهب، فحصلت فتاوى التكفير، وتحريم التزاوج بين المسلمين عند اختلاف مذاهبهم، ولم ينج من التأثر بهذه الظروف، إلاّ من أوتي البصيرة في دينه، والوعي بأهمية وحدة الأمة وأنها أولوية، وأصل لا يمكن تجاوزه والتفريط فيه.
المسلم كفو المسلمة:
يؤكد الفقهاء على أن الأصل جواز التزاوج بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، فالمسلم كفو المسلمة. قال المحقق الحلي (602-676هـ) في شرائع الإسلام: (الكفاءة شرط في النكاح وهي التساوي في الإسلام، وهل يشترط التساوي في الإيمان؟ فيه روايتان اظهرهما الاكتفاء بالإسلام، وإن تأكد استحباب الإيمان، وهو في طرف الزوجة أتم، لأن المرأة تأخذ من دين بعلها، نعم لا يصح نكاح الناصب المعلن عداوة أهل البيت (عليهم السلام) لارتكابه ما يعلم بطلانه من دين الإسلام)[5] .
وقال الشيخ محمد حسن النجفي في الجواهر بعد مناقشته للآراء والروايات التي يظهر منها المنع من التزاوج بين الشيعة وغيرهم، قال ما نصه: (المدار على الإسلام في النكاح، وإن جميع فرقه التي لم يثبت لها الكفر بنصب أو غلّو أو نحو ذلك ملة واحدة، يشتركون في التناكح والتوارث وغيرهما من الأحكام والحدود)[6] .
وقال الشيخ محمد جواد مغنية: (الكفاءة بين الزوجين عند الإمامية هي الإسلام، وكفى به جامعاً من غير فرق بين المذاهب الإسلامية وفرقها جميعاً)[7] .
وجاء في صحيح عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله الصادق : بم يكون الرجل مسلماً يحل مناكحته وموارثته وبم يحرم دمه؟ قال : « يحرم دمه بالإسلام إذا ظهر ويحل مناكحته وموارثته »[8] وعن القاسم الصيرفي شريك المفضّل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: « الإسلام يحقن به الدم، وتؤدى به الأمانة، وتستحل به الفروج، والثواب على الإيمان »[9] .
وجاء في (فقه السنة) عن ابن حزم قوله: (أي مسلم ما لم يكن زانياً فله الحق في أن يتزوج أية مسلمة ما لم تكن زانية، وأهل الإسلام كلهم أخوة). كما نقل عن الشوكاني قوله: (اعتبار الكفاءة في الدين أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث)[10] .
خوف التأثير:
لأن أهل كل مذهب يعتبرون مذهبهم هو الحق والأصح، فإنهم يحرصون على تجنيب أبنائهم وبناتهم الأجواء والظروف التي قد تؤثر على التزامهم المذهبي، وهذا ما تشير إليه بعض فتاوى الفقهاء بعنوان خوف الضلال، أو وجود محذور، يقول السيد الشيرازي في اجابته على سؤال: هل يجوز للمرأة الشيعية الزواج من الرجل السني؟ الجواب: (المشهور الجواز إلا إذا كان هناك محذور -كما لو عُلم بأنه يجبرها على التبري من أهل البيت (عليهم السلام)، أو أنه لا يسمح لها بأداء طقوسها وشعائرها المذهبية- )[11] .
ويقول السيد السيستاني: (يجوز زواج المؤمن من المخالفة غير الناصبية، كما يجوز زواج المؤمنة من المخالف غير الناصبي على كراهة، نعم إذا خيف عليه أو عليها الضلال حرم)[12] .
ونقل ابن أبي قدامة الحنبلي في المغني عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: (لا يزوج بنته من حَرُورِيّ مرق من الدين، ولا من الرافضي، ولا من القدَرِيّ، فإذا كان لا يدعو فلا بأس)[13] .
وقوله: (فإذا كان لا يدعو فلا بأس) إشارة إلى أن المنع هو للخوف من التأثير المذهبي، فإذا لم يحذر ذلك من الزواج فلا بأس من التزويج وإن كان من تلك الفئات.
فالمسألة مرتبطة بأجواء التعايش السلمي، والاحترام المتبادل، والمنع والتحفظات القائمة، هي بسبب العلاقات غير الطبيعية بين أتباع المذاهب، فإذا ما سادت الحالة الإيجابية فلن يكون مبرر للمنع والتحفظات.
فئات مستثناة:
واستثنى فقهاء الشيعة بعض الفئات بتحريم التزواج معهم، وإن كانوا يظهرون الإسلام، وهم:
1.الغلاة الذين يعتقدون في أحد من البشر بعض صفات الربوبية والألوهية، كالمغالين في الإمام علي أو أهل البيت إلى حد التأليّه، فهم عند فقهاء الشيعة محكومون بالنجاسة والكفر.
2.النواصب وهم المعلنون بعداوة أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا لا ينطبق على أهل السنة الذين لا يقولون بإمامة أهل البيت وعصمتهم، ولكنهم لا يبغضونهم أو يعادونهم.
3.الخوارج الذين يعلنون بغض الإمام علي ، أما الخوارج الذين ينتمون لمذهبهم دون أن يظهروا عداءً أو بغضاً لأهل البيت فهم محكومون بالإسلام. كما هو حال الأباضية في سلطنة عمان حسب ما نعرف عنهم.
يقول السيد السيستاني: (لا يجوز للمؤمن أو المؤمنة أن ينكح دواماً أو متعة بعض المنتحلين لدين الإسلام ممن يحكم بنجاستهم: كالغلاة، والنواصب وهم المعلنون بعداوة أهل البيت (عليهم السلام)، والخوارج وهم على قسمين: من يعلن بغضه لأهل البيت (عليهم السلام) فيندرج في النواصب، ومن لا يكون كذلك وإن عد منهم لاتباعه فقههم فلا يحكم بنجاسته)[14] .