الاختيار والخطوبة

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين



في المجتمعات غير المتدينة، أو التي لا تسود فيها حالة الالتزام الديني، لا يواجه الشاب والفتاة مشكلة في التعرف على بعضهما، فليست هناك حدود أو حواجز في العلاقة بين الجنسين، مما يتيح فرص التعارف والتعامل والاختيار، من أجل الارتباط الزوجي بحرية مطلقة.

لكن هذه الإيجابية الجزئية في انفتاح العلاقات بين الجنسين، تقابلها سلبيات كبيرة وضخمة، يدركها من يتابع ما يجري في تلك المجتمعات من ابتذال أخلاقي، وفساد اجتماعي، واهتزاز لمؤسسة العائلة، واضطراب في أمن المجتمع، وانتشار للأمراض الفتاكة.

أما في المجتمعات الملتزمة دينياً والمحافظة، فإن الشباب والفتيات يتساءلون بعض الأحيان عن مساحة الحرية المتاحة لهما، لكي يكتشف كل منهما الآخر، ويتأكد من توفر الواصفات المطلوبة فيه، قبل اتخاذ قرار الزواج والشراكة الحياتية.

وقد يرجعون هذه النسبة المرتفعة من حالات الطلاق، وفشل العلاقة الزوجية، إلى عدم توفر الفرصة الكافية للتعارف والاختيار المدروس من قبل الطرفين، قبل الزواج، أو لا أقل يعتبرون ذلك من أهم العوامل والأسباب.

من الناحية الشرعية فإن أبواب التعارف بين الذكور والإناث، وخاصة لدى الرغبة في الزواج ليست موصدة، ولم يقم الإسلام جدران وحواجز فاصلة، تمنع من التلاقي أو التحادث أو التعارف بين الجنسين، نعم هنالك ضوابط وأحكام شرعية للحفاظ على أجواء العفة والاحتشام، وللوقاية من أخطار الانزلاق والانحراف.

ونستعرض فيما يلي أهم أحكام العلاقة والتعامل بين الطرفين في فترة الاختيار والخطوبة.



فترة الخطوبة:


حينما يقرر الإنسان الزواج، ويضع أمامه خياراً أو أكثر، لتحديد شريكة الحياة، ويوصل رغبته للطرف الآخر، بشكل مباشر يتمثل في التقدم إلى أهلها بطلبها، أو عن طريق وسيط لمعرفة رأيها مسبقاً في الموضوع، فإن هذه الفترة التي تسبق إجراء عقد الزواج، هي فترة الخطوبة.

ويطلق البعض من الناس عنوان الخطوبة على الفترة الفاصلة بين إجراء العقد وليلة الزفاف، لكنهما في الحقيقة يصبحان خلالها زوجين من الناحية الشرعية، ما دام قد تم العقد، أما في الفترة التي تسبق العقد فهما أجنبيان عن بعض، وكونه قد تقدم لخطبتها، أو أن الموافقة قد حصلت منها ومن أهلها، لا يترتب عليه أي أثر شرعي يجيز لهما تخطي أحكام العلاقة بين الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية.



أحكام النظر:


أجاز الشارع المقدس للرجل الراغب في الزواج من امرأة أن ينظر إليها ليتعرف على ملامح شكلها، ومستوى جمالها، كما سبق الحديث في الدرس الماضي، فإذا ما تحقق غرض الاطلاع، وجب الالتزام بالحكم الشرعي في النظر إليها كأي أجنبية أخرى.

ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى ما عدا الوجه والكفين من جسد المرأة الأجنبية، وحتى الوجه والكفان من الأجنبية إنما يجوز النظر لهما بدون ريبة أو قصد شهوة.

وهذا هو رأي أكثر فقهاء الشيعة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورأي القاضي من الحنابلة، أما ظاهر مذهب أحمد بن حنبل فهو تحريم النظر إلى أي شيء من جسد المرأة الأجنبية، وعلى حد تعبير ابن تيمية: فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها[1] .

ويجوز للمرأة أن تنظر إلى الأطراف والأجزاء الظاهرة من بدن الرجل الأجنبي، مما هو معتاد كشفه، كالرأس واليدين والقدمين ونحوها، دون ريبة أو قصد شهواني. على رأي أغلب فقهاء الشيعة، وهو رأي المالكية، بينما يرى الحنفية جواز نظر المرأة إلى ما عدى عورة الرجل الأجنبي -من السرة إلى الركبة- وهو القول الراجح عند الحنابلة. وعند الشافعية لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى أي شيء من الرجل الأجنبي[2] .

بالطبع فإن حالات الضرورة كالإنقاذ والعلاج، حينما لا يكون بديل مماثل، مستثناة من المنع، فيجوز فيها نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية، ونظرها إليه، بمقدار الضرورة.

أما الملامسة الجسدية فلا تصح بأي قدر كان بين الرجل والمرأة الأجنبية، حتى على مستوى المصافحة باليد فلا يجوز فيها المباشرة.



المكالمة والتحادث:


هل يمكن للرجل أن يتحادث مع امرأة يفكر في الزواج منها، مباشرة أو عبر التليفون، من أجل أن يتعرف على أفكارها وتوجهاتها، وحتى تتعرف هي أيضاً على طبيعة شخصيته؟

في الأصل ليس هناك مانع من أن يسمع الرجل صوت المرأة الأجنبية، أو تسمع هي صوته، ما دام التخاطب في حدوده الطبيعية دون ترقيق أو تحسين للصوت، ومن دون قصد شهواني أو ريبة، والقول بأن صوت المرأة عورة لم يرد في نص شرعي، وإذا كانت هناك بعض الروايات تفيد منع التحادث مع النساء الأجنبيات، فإنه على حد تعبير الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر: (مشكل بالسيرة المستمرة في الأعصار والأمصار، من العلماء والمتدينين وغيرهم على خلاف ذلك، وبالمتواتر أو المعلوم مما ورد من كلام الزهراء وبناتها عليها وعليهن السلام، ومن مخاطبة النساء للنبي والأئمة عليهم السلام على وجه لا يمكن إحصاؤه، ولا تنزيله على الاضطرار لدين أو دنيا)[3] . وعلى هذا رأي أغلب فقهاء المسلمين.

ويجوز للرجل ابتداء النساء الأجنبيات بالسلام، ويرى أكثر الفقهاء كراهة ذلك وخاصة بالنسبة للسلام على الشابّة تجنباً للفتنة، لكن السيد الخوئي يرى أن (ابتداء المرأة بالسلام كابتداء الرجل به أمر مستحب، ومرغوب شرعاً، من دون تقييد بالمحارم أو غيرها. نعم في خصوص السلام على الشابة إذا خاف الرجل أن يعجبه صوتها يلتزم بالكراهة)[4] .

وهل يحرم مفاكهة الأجنبية وممازحتها؟

قال السيد الشيرازي: (المركوز في أذهان المتشرعة الكراهة إذا لم يكن هناك تلذذ وريبة وخوف افتتان، نعم ينبغي استثناء ما إذا كان ذلك مقدمة للاختيار من اجل التزويج، كما ينبغي استثناء التكلم عن الكراهة إذا كان مقدمة لذلك، وذلك لمناط جواز النظر)[5] .

ويقول السيد السيستاني: (يحق للرجل أن ينظر إلى محاسن المرأة التي ينوي التزوج بها، وكذلك محادثتها قبل أن يتقدم لخطبتها)[6] .

من كل ما سبق يتبين إمكانية التحادث والمكالمة مع المخطوبة، ضمن سياق التعرف عليها من أجل الزواج.



التلاقي مع المخطوبة:


أحكام الشريعة لا توجب الفصل بين الرجال والنساء في شؤون الحياة، وليس أي اختلاط وتلاق بين الرجال والنساء ممنوعاً، ففي مناسك الحج هناك اختلاط واضح بين الجنسين، وفي الحياة العامة في عهد رسول الله ، والخلفاء والأئمة عليهم السلام، كان هناك اختلاط وتلاق في المساجد والأسواق والطرقات وغير ذلك، لكن هناك ضابطتين أساسيتين: الأولى:الحجاب والاحتشام. والثانية: منع الخلوة والانفراد بين الرجل والمرأة الأجنبية، بأن يكونا في مكان مغلق وحدهما. فقد روي عن رسول الله : «لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له فإن ثالثهما الشيطان»[7] .

أما تلاقي الرجل وجلوسه مع امرأة في مكان عام، أو مكان مفتوح، أو مع وجود شخص ثالث فلا مانع منه شرعاً.

وبناء عليه فيمكن للرجل أن يجلس مع مخطوبته، بوجود أحد معهما، أو في مكان مفتوح، مع رعاية سائر الضوابط والأحكام الشرعية.



الخلاصة:


يتيح الشارع لكل من الرجل والفتاة أن يتعرفا على بعضهما من أجل الزواج، عبر النظر، والتحادث والمكالمة، وبأن يلتقيا شريطة أن لا يكونا وحدهما في مكان لا يدخل عليهما أحد.



[1]  ابن تيمية: أحمد/ مجموع فتاوى بن تيمية ج22 ص110.
[2]  الموسوعة الفقهية- الكويت ج31 ص51.
[3]  النجفي: الشيخ محمد حسن/ جواهر الكلام- كتاب النكاح ج10 ص397.
[4]  الخوئي: السيد أبو القاسم/ مباني العروة الوثقى – كتاب النكاح ج1 ص106.
[5]  الشيرازي: السيد محمد/ الفقه- كتاب النكاح ج62 ص265-268.
[6]  السيستاني: السيد علي/ الفقه للمغتربين م389 الطبعة الأولى 1998م.
[7]  الزحيلي: وهبة/ الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص24.