الفحص الطبي قبل الزواج

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين



للزواج استهدافان رئيسان: الأول: تحقيق سعادة الحياة لكل من الزوجين. والثاني: إنجاب الذرية الصالحة.

لذلك ينبغي الاهتمام بالمواصفات المناسبة، التي تساعد في إنجاز كلا الغرضين، على أكمل صورة، وأحسن وجه. والنصوص الدينية الواردة حول الزواج، تلفت نظر الإنسان عند اختيار شريك الحياة، زوجاً أو زوجة، إلى تأثير هذا الاختيار على مستقبل الذرية والأولاد، في سماتهم المادية والمعنوية.

فقد ورد عن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) أنه قال: «اختاروا لنطفكم»[1]  فأنت حينما تختار زوجة، فإنك في نفس الوقت تختار أماً لأولادك، تؤثر فيهم صفاتها وتربيتها. وكذلك حينما تختار المرأة زوجاً فإنها تختار أباً لأولادها تنعكس عليهم شمائله وملامحه.

وعن الإمام علي أنه قال: «إياكم وتزويج الحمقاء فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع»[2] .

وإذا أعجب الإنسان بجمال امرأة، لكنها تفتقد صفات أساسية كالعقل، فعليه أن يتجنب الإنجاب منها، خوفاً من انتقال النقص إلى الأولاد، فقد سأل رجل الإمام محمد الباقر : عن الرجل المسلم تعجبه المرأة الحسناء أيصلح له أن يتزوجها وهي مجنونة؟ قال:« لا ولكن إن كانت أمة مجنونة فلا بأس بأن يطأها ولا يطلب ولدها»[3] .

قانون الوراثة:


يؤكد علم الوراثة الحديث النشأة ما أشارت إليه النصوص الدينية من انتقال الصفات الجسدية والنفسية من الوالدين إلى الأولاد. "ولعل أول من كشف الأسس العلمية التي تتحكم بالوراثة في المخلوقات الحية، وأجرى تجارب عليها، هو النمساوي جريجوري مندل (1822-1884م) والذي لاحظ أن صفات نبات البازلاء تنتقل إلى النباتات المتولدة منه بنظام ثابت، وبناء على تلك الملاحظات وضع مندل القوانين التي عرفت باسمه (قوانين مندل) ثم تعمق علماء آخرون في دراسة الظاهرة، فتوصلوا إلى المزيد من الحقائق، حول طبيعة الوراثة والقوانين التي تتحكم فيها، ومع التقدم العلمي الذي حصل في حقل دراسة الخلية (Cell) توجت بحوث الوراثة باكتشاف الجسيمات التي تحمل عوامل الوراثة وهي الصبغيات(Chromosomes) التي في نواة الخلية (Nucleus) ويختلف عددها في الخلية الواحدة من مخلوق إلى آخر، فهي في الإنسان (46 صبغياً) مركبة من الحمض النووي منزوع الأوكسجين (Deoxyribonucleic,DNA) الذي أميط اللثام عن تركيبه في العام 1953م من قبل العالمين (جيمس واطسون، فرانسيس كريك) وقد تبين أن الصفات الوراثية تتوضع في الصبغيات على هيئة مورِّثات أو جينات (Genes) يقدر عددها في الإنسان بأكثر من (3مليارات مورثة) كل منها تمثل صفة من صفات الإنسان، أو هي الأبجدية التي يتركب وفقها جسم الإنسان. وقد تكمن العلماء في السنوات الأخيرة من اكتشاف الكثير من أسرار الشيفرة الوراثية (Genetic Code) لبعض الحيوانات والنباتات والإنسان، وأصبحوا قادرين بفضل الله عز وجل على إحداث بعض التغييرات في الصفات الوراثية [4] .

الأمراض الوراثية:


ضمن قانون الوراثة فإن هناك أمراضاً وراثية يكسبها الأولاد من الوالدين، وقد وصلت قائمة هذه الأمراض إلى أكثر من ثمانية آلاف مرض وراثي حتى عام 1998م، ومشكلة أغلب هذه الأمراض الوراثية، أن الشخص الحامل للجين المعطوب، أي المرض الوراثي، هو في الغالب شخص سليم، ولا يعاني من أي مرض ظاهر، ولكنه إن تزوج بامرأة تحمل الجين المصاب ذاته، فإن نسبة من نسلهما، حوالي الربع، سيصابون بهذا المرض.

وهذا النوع من الأمراض الوراثية لا علاج لها، فيعاني منها المصاب طوال فترة حياته وقد تؤدي به إلى الموت.

بالطبع لا تنتشر كل هذه الأمراض الوراثية في كل المجتمعات، بل في كل مجتمع تنتشر أمراض وراثية معينة، لأسباب بيئية.

لذلك على الإنسان المقدم على الزواج أن يأخذ هذه المسألة مأخذ الجد، حتى لا يكون سبباً في إنجاب أولاد مصابين يتعذبون في حياتهم، ويكدرون صفو حياة العائلة كلها.

الأمراض الوراثية في المنطقة الشرقية:


تتوطن المنطقة الشرقية بعض أمراض الدم الوراثية ومن أبرزها:

1. فقر الدم المنجلي Sickle Cell Disease: وهو مرض وراثي ينشأ عن تحول كرات الدم الحمراء من شكلها الطبيعي (القرص المقعر الوجهين) إلى شكل المنجل (الذي تقص به الحشائش) وتسمى هذه الكريات حينئذٍ: الخلايا المنجلية، وهذه الخلايا تلتصق ببعضها، وتلتصق بجدران الشعيرات الدموية، مما يسبب انغلاقاً جزئياً أو كلياً في الأوعية الدموية التي تلتصق عندها، مما يمنع وصول الأوكسجين إلى تلك الأجزاء من الجسم، فيؤدي إلى تكسر كريات الدم الحمراء وفقر الدم، وحدوث نوبات متكررة من الآلام، وزيادة التعرض للالتهابات، وخطورة الوفاة في سن مبكر.

وقد عرف هذا المرض لأول مرة في العالم سنة 1910م واكتشف في المملكة عام 1963م في المنطقة الشرقية وجيزان خيبر في المدينة المنورة.

وهو من أكثر أمراض الدم الوراثية شيوعاً في العالم، حيث تشير الإحصائيات إلى ولادة 250 ألف طفل مصاب على مستوى العالم سنوياً، إلا أنه لا ينتقل بالعدوى فمن ولد سليماً، لا يمكن أن يصاب به. وينتشر هذا المرض في كثير من مناطق المملكة، وأكدت الدراسات أن المنطقة الشرقية هي أكثر المناطق التي ينتشر بها فقر الدم المنجلي، حيث تبلغ نسبة حاملي المرض ما بين 20-25% من السكان, تليها منطقة الجنوب غرب المملكة، ثم المنطقة الشمالية[5] .

2. أمراض التلاسيمية Thalassemias: وتعتبر من أهم الأمراض الوراثية الشائعة، وتأتي في الدرجة الثانية بعد فقر الدم المنجلي، حيث تظهر الإحصائيات أن التلاسيمية (الألفا) تصيب 50% من سكان الشرقية، وجنوب غرب المملكة، بينما تبلغ درجة انتشار التلاسيمية (البيتا) نسبة 13% من سكان الشرقية، و15,3% من سكان المنطقة الجنوبية الغربية.

ويحدث هذا المرض نتيجة قلة تكوين سلسلة أو أكثر من سلاسل الأحماض الأمينية المكونة لخضاب الدم. وحيث أن خضاب الدم يتكون من زوجين من سلسلة الأحماض الأمينية، أحدهما من سلاسل (ألفا) والآخر من سلاسل (بيتا) ونتيجة قلة تكوين أحدهما، تكون كمية الأخر زائدة نسبياً، فلا يجد ما ينضم إليه، فيترسب في أصول الكريات الحمرا، مما يؤدي إلى موتها.

وتبدأ أعراض التلاسيمية الكبرى بعد الستة الأشهر الأولى من عمر المصاب، وتزداد تدريجياً عند بلوغه العامين، إذا لم يعط العلاج المناسب، وتشمل الأعراض خمول وفقدان الشهية، وإرهاقاً في الجسم، وشحوباً في لون الجلد، واصفراراً في العين، وتغير لون البول، وشعوراً بالخفقان.

أما أعراض التلاسيمية الوسطى فمتفاوتة، فبعض المرضى لا تظهر عليهم أي أعراض طوال حياتهم، والبعض الآخر يصاب بأعراض مختلفة تبدأ بعد السنة الثانية من العمر[6] .

3. مرض نقص خميرة جي سيكس بي دي G6PD Deficiency: ينتشر هذا المرض في كثير من مناطق العالم، وخصوصاً في حوض البحر المتوسط، وكثير من مناطق القارة الأفريقية، ويقدر عدد المصابين به على مستوى العالم، حوالي 200مليون شخص.

وفي المملكة تتفاوت نسبة الإصابة في مختلف المناطق، فتصل نسبة إصابة الذكور في القطيف 39,8% والإناث 21,4%. وفي الأحساء تصل نسبة إصابة الذكور 23% والإناث 12% وفي جيزان الذكور 20% والإناث 5%. أما في الرياض فلا تتعدى نسبة إصابة الذكور 7% والإناث 3%.

وتم اكتشاف هذا المرض في عقد الخمسينات من القرن العشرين 1950-1960م أما في المملكة فتم اكتشافه في مستشفى أرامكو عام 1965م.

ينشأ هذا المرض بسبب خلل في الجينة الوراثية المسؤولة عن تكوين خميرة (G6PD) مما يؤدي إلى نقص نشاط الخميرة المذكورة، فتكون خلايا الدم الحمراء معرضة للتكسر عند التعرض للعوامل المؤكسدة، مما يعرض المصاب لفقر في الدم نقص خضاب الدم – الهيموغلوبين تتفاوت شدته حسب درجة التكسر، ولأنه مرض وراثي، ينتقل من شخص إلى آخر نتيجة تزاوج المصابين به أو الحاملين له. وتتمثل أهم الأعراض في الإحساس بالضعف العام والإرهاق، وعدم القدرة على العمل، وشحوب اللون، وخفقان في القلب، قد يصاحبه ألم في الصدر، وقد يحدث قصور في وظائف القلب، والإحساس بدوار قد يؤدي إلى الإغماء، واصفرار في العين، وتغير لون البول[7] .

الزواج وانتقال الأمراض الوراثية:


انتقال أمراض الدم الوراثية إلى الأولاد يعتمد على مدى وجودها لدى الأبوين. ويتحدث الأطباء عن الاحتمالات بالشكل التالي:

قد يكون الإنسان حاملاً لسمة المرض ولكنه غير مصاب به وهنا لا تظهر عليه أي أعراض للمرض، وقد يكون مصاباً بالمرض.

فإذا كان أحد الأبوين مصاباً بالمرض، والآخر سليم منه، فإن الأولاد لا يصابون بالمرض، وإنما قد يحملون سمته فقط.

أما إذا كان كلاهما مصاباً فسيكون الأولاد أيضاً مصابين.

وإذا كان كلا الأبوين حاملاً لسمة المرض، فإن واحداً من كل أربعة أولاد لهما، قد يصاب بالمرض، واثنان من كل أربعة قد يحملان سمة المرض.

لذلك ينبغي أن لا يتزوج المريض أو الحامل لسمة المرض إلا من شخص سليم.

الفحص الطبي قبل الزواج:


عند اختيار الزوج أو الزوجة ينبغي التأكد عن طريق الفحص الطبي في مراكز الرعاية الصحية، من وجود هذه الأمراض الوراثية المنتشرة في منطقتنا، لأن المشكلة لا تكمن في الإصابة بالمرض فقط، والتي ستكون واضحة من خلال الأعراض والآثار، وإنما لأن مجرد حمل سمة المرض، والتي لا أعراض لها وبالتالي يجهل الإنسان وجودها، قد يسبب حدوث المشكلة للأولاد فيما إذا كان كلا الأبوين حاملين لسمة المرض.

وبالفحص الطبي يتبين ذلك فإذا كان كلاهما مصاباً أو حاملاً فعليهما إعادة النظر في قرار الزواج، أو أن يتزوجا مع قرار عدم الإنجاب، أو الاعتماد على الفحص عند تلقيح البويضة كمشاريع أطفال الأنابيب، أو أثناء الحمل.

وتتأكد أهمية الفحص الطبي عند زواج الأقارب، لأن احتمالات انتقال الأمراض الوراثية فيها أكثر.

رأي الشرع:


انطلاقاً من اهتمام التعاليم الدينية بالتفكير في مستقبل الذرية والأولاد، وتوفير أكبر قدر ممكن من ضمانات صلاحهم، ولأن الإسلام يمنع إيقاع الضرر على الآخرين وتسبيب الأذى لهم، فقد أفتى بعض الفقهاء بلزوم الفحص الطبي قبل الزواج في مثل هذه الظروف.

يقول المرجع الراحل السيد محمد الروحاني في الإجابة على استفتاء وجه إليه بتاريخ 12/8/ 1416هـ حول الموضوع ما نصه: (إن الأمر المذكور في المسألة من الأمور المهمة حيث يعد -على فرض تحققه- من موارد الظلم كان مقتضى الاحتياط هو الفحص).

وعلى نفس الاستفتاء أجاب المرجع السيد محمد الشيرازي بقوله: (احتمال الضرر الكثير يوجب الوقاية سواء كان بالنسبة إلى النفس أو الآخر ولو الولد المستقبل).

وكان أهالي قبرص يعانون من انتشار مرض الثلاسيميا، ولكنهم اعتمدوا برنامجاً للفحص الطبي والتزموا بنتائجه في قرار الزواج، فأثمر ذلك توقف ظهور المرض كلياً عندهم منذ سنوات.

وفي دول عديدة ومنذ أكثر من نصف قرن هناك إلزام بالفحص الطبي قبل الزواج.

وبالطبع فإن الفحص الطبي لا يعني ضمان سلامة الذرية من جميع الأمراض، وإنما هو للوقاية من الأمراض السارية المنتشرة في المجتمع، والتي يستهدفها الفحص فقط.

إن التساهل في موضوع الفحص الطبي لاستحكام الرغبة في الزواج من خيار معين، أو للحفاظ على السمعة الصحية، يعني القبول باحتمالات خطيرة تضر بمستقبل الأولاد، وتؤثر على وضع حياة الوالدين.

والبعض من الناس ينقصهم الوعي والإدراك لأهمية الموضوع، مما يعني الحاجة إلى المزيد من التوعية حول هذه الأمراض، وحماية الجيل القادم منها.

والفحص الطبي حول هذه الأمراض تقوم به مراكز الرعاية الصحية في المنطقة، ويتم أخذ عينة من الدم خلال ثوان قليلة، كما أن حمل الرجل أو المرأة لسمة المرض لا يعني وجود عيب أو خلل يمنع من الزواج، وإنما يعني ضرورة الاقتران بطرف سليم، حتى لا يكون الزوجان معاً حاملين للمرض، فتحدث الإصابة للأولاد، فيكفي إذاً التأكد من خلو أحد الطرفين وسلامته.

ونأمل أن يهتم كل راغب في الزواج بإجراء الفحص الطبي أولاً، من أجل سلامة ذريته وأولاده.

وقد صدر أخيراً بحث جميل للدكتور محمد علي البار بعنوان (الفحص قبل الزواج والاستشارة الوراثية)[8]  بلغة علمية سهلة، وهو متوفر في المكتبات، يمكن الاطلاع عليه والاستفادة منه.



[1]  الكليني: محمد بن يعقوب/ الكافي ج5 ص332.
[2]  المصدر السابق ص354.
[3]  المصدر السابق.
[4]  كنعان: الدكتور أحمد محمد/ الموسوعة الطبية الفقهية ص58 الطبعة الأولى 2000م دار النفائس- بيروت.
[5]  الجامع: الدكتور علي- الدبوس: الدكتور إبراهيم/ أمراض الدم الوراثية/ مجلة صحة الشرقية عدد11 يناير 1998م.
[6]  المصدر السابق.
[7]  المصدر السابق.
[8]  البار: الدكتور محمد علي/ الندوة العالمية للشباب الإسلامي 1420هـ.