عقد الزواج
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
حينما تتوفر رغبة الزواج بين طرفين دون مانع شرعي، فإن تحقيق تلك الرغبة، وإرساء العلاقة الزوجية بينهما، يتوقف على إجراء عقد الزواج، ولا تكفي الرغبة والإرادة لإقرار مشروعية العلاقة بينهما دون إجراء العقد بل ولا إقامة العلاقة الزوجية بالفعل فإنها من دون العقد تصبح علاقة غير مشروعة في نظر الدين، لأن الزواج لا يتم بالمعاطاة، كالبيع والشراء، والذي يكفي فيه أن يأخذ البائع الثمن، ويتسلم المشتري البضاعة، دون حاجة إلى صيغة عقد، هذه المعاطاة لا تصح في الزواج، بل لا بد فيه من إجراء صيغة العقد. ولا قيمة ولا اثر للعقد إذا لم ينبثق عن قصد وإرادة لمضمونه، وإذا لم تتوفر الرغبة والرضا من قبل الطرفين.
فلو تلفظا بصيغة العقد دون قصد حقيقي لإنشاء تلك العلقة الخاصة، كما لو كان على سبيل المزاح، أو الحكاية، أو ضمن تمثيل مسرحي، فإنه لا اثر له ولا يترتب عليه شيء.
سئل الإمام علي الرضا : ما تقول في رجل ادعى أنه خطب امرأة إلى نفسها، ومازح فزوجته نفسها وهي مازحة؟ فقال :« ليس بشيء»[1] .
ولو حصل العقد دون رضى واقعي من الطرفين أو أحدهما، بأن كان هناك إكراه وإجبار، فالعقد باطل، إلا إذا حصل الرضا بعد ذلك وأجازا العقد أو أجازه الطرف الذي كان غير راضٍ.
معنى العقد:
العقد في اللغة: الربط والشد والضمان والعهد، ويطلق على الجمع بين أطراف الشيء، يقال: عقد الحبل إذا جمع أحد طرفيه على الآخر وربط بينهما[2] .
ويشرح الأستاذ الزرقاء مفهوم العقد فقهاً بقوله: إن العقد هو من قبيل الارتباط الاعتباري في نظر الشرع بين شخصين نتيجة لاتفاق إرادتيهما، وهاتان الإرادتان خفيتان، فطريق إظهارهما التعبير عنهما، وهو في العادة بيان يدل عليهما بصورة متقابلة من الطرفين المتعاقدين، ويسمى هذا التعبير المتقابل: إيجاباً وقبولاً[3] .
الإيجاب والقبول:
يتقوم العقد بركنين هما الإيجاب والقبول، والإيجاب هو ما صدر من أحد العاقدين أولاً دالاً على ما يريده من إنشاء العقد، ويسمى الشخص الذي صدر منه الإيجاب موجباً، والقبول هو ما صدر ثانياً من الطرف الآخر دليلاً على موافقته على ما أوجبه الأول، ويسمى الشخص الذي صدر منه القبول قابلاً، فأول الكلامين إيجاب سواء صدر من جانب الزوج أو من جانب الزوجة، وسمي إيجاباً لأنه أوجد الالتزام، وسمي الثاني قبولاً، لأنه رضا بما في الأول من التزام وإلزام[4] .
والأفضل أن يكون الإيجاب من جهة المرأة بأن تنشئ العقد فتقول: زوجتك نفسي على الصداق المعلوم، فيأتي القبول من الزوج: قبلت أو رضيت.
ويجوز عند فقهاء الشيعة والحنفية أن يكون الإيجاب من قبل الرجل والقبول من جهة المرأة، فيقول الرجل: زوجتك نفسي على الصداق المعلوم. وتقول: المرأة قبلت. قال في العروة الوثقى: الأحوط أن يكون الإيجاب من جانب الزوجة والقبول من جانب الزوج وإن كان الأقوى جواز العكس[5] . ويقول السيد الخوئي معلقاً: لأن الزوجية مفهوم في مقابل الفردية، وهي عبارة عن انضمام أحدهما إلى الآخر، مع وحدة علاقتها إليهما. وعليه فلكل منهما إنشاؤها واعتبار الآخر زوجا له أو لها، فإذا تحقق ذلك من أحدهما وتحقق القبول من الآخر صدق العقد والمعاهدة ومن ثم شملته أدلة اللزوم. والحاصل أنه لا موجب للقول بلزوم كون الإيجاب من الزوجة خاصة والقبول منه، فإنه لا دليل عليه وإن كان هو الغالب خارجا[6] . ويجوز تقديم القبول على الإيجاب، فيقول الرجل: قبلت التزويج بك على الصداق المعلوم، فتقول المرأة: زوجتك نفسي.
أما فقهاء سائر المذاهب فاعتبروا الإيجاب هو ما يصدر من جهة المرأة، لأنها هي التي تملّك الزوج حق الاستمتاع،والرجل يقبل ذلك والقبول لا معنى له قبل الإيجاب فلابد من تقديم الإيجاب[7] .
الصيغة اللفظية:
كما سبق فإنه لا يكفي لتحقق الزواج الشرعي مجرد التراضي القلبي بين الطرفين، ولا القبول الفعلي منهما، بل لابد من إنشاء عقد مشتمل على الإيجاب والقبول اللفظيين، حيث لا يكفي الكتابة أيضاً، ولا الإشارة، إلا بالنسبة للأخرس غير القادر على الكلام فإن الإشارة المفهمة للقصد، والكتابة كافية من قبله، للإيجاب أو القبول.
ويمكن إجراء العقد هاتفياً مع الوضوح وعدم الالتباس.
واتفق فقهاء المسلمين على أن الإيجاب في عقد الزواج يكون بلفظ النكاح أو التزويج: أنكحتك أو زوجتك. ويرى الشافعية والحنابلة الاقتصار عليهما وما اشتق منهما، مستندين إلى أن الزواج عقد له خطره، إذ به تحل المرأة بعد أن كانت حراماً، وتثبت به الأنساب، ففيه ناحية تعبدية تجعلنا نتقيد بما ورد عن الشارع فيه من ألفاظ، ولم يرد في مواضع تشريعه في القرآن إلا بهذين اللفظين جاء ذلك في اكثر من عشرين آية منها ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء﴾[8] ، ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾[9] [10] .
وأضاف بعض فقهاء الشيعة إلى هذين اللفظين لفظ (( المتعة )) أيضاً في الزواج الدائم إذا اقترن بما يدل على إرادة الدوام. فتقول المرأة مثلاً: متعتك نفسي دائماً على الصداق المعلوم.
أما الحنفية والمالكية فتوسعوا في ذلك وأجازوا استخدام لفظ البيع والهبة والصدقة والمنحة والتمليك والجعل، كل ذلك بشرط نية أو قرينة تدل على الزواج كذكر المهر وإحضار الشهود، لأن المطلوب التعرف على إرادة العاقدين، وليس للفظ اعتبار، وقد ورد في الشرع ما يدل على الزواج بلفظ الهبة والتمليك. كقوله تعالى: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾[11] .
وما روي عنه أنه قال لرجل لم يملك مالاً يقدمه مهراً: « قد ملكتكها بما معك من القرآن » [12] .
صيغة الماضي:
والأفضل أن يكون الإيجاب والقبول بصيغة الماضي، بأن تقول المرأة: زوجتك نفسي على الصداق المعلوم، ويقول الرجل قبلت أو رضيت. ويرى المشهور من فقهاء الشيعة السابقين والمذهب الشافعي والحنبلي: الاقتصار على صيغة الماضي وعدم صحة العقد بصيغة المضارع والأمر. على أساس أن صيغة الماضي: زوجتك وقبلت صريحة في الإنشاء، والمقصود بالعقود إنشاء معنى في الحال لم يكن موجوداً من قبل، وهذا لم يوضع له في اللغة ألفاظ خاصة، فاستعملوا صيغة الماضي لأنها المعبرة عن حصول رضا الطرفين، وتوافق إرادتهما قطعاً، أما المضارع فهو يفيد الإخبار عن حصول الفعل في الحال أو الاستقبال، والأمر موضوع لطلب تحصيل الفعل في المستقبل.
لكن المعاصرين من فقهاء الشيعة والحنفية والمالكية لا يرون مانعاً من صحة العقد بصيغة المضارع أو الأمر. فلو قالت المرأة: أزوجك نفسي على الصداق المعلوم، فقال: قبلت صح العقد. وكذلك لو قال الرجل: زوجيني نفسك. فقالت المرأة: زوجتك نفسي صح العقد أيضاً.
اللغة العربية:
قال جمهور فقهاء السنة ينعقد الزواج بأي لغة كانت عربية أو غيرها، سواء كان العاقدان قادرين على العربية أو عاجزين عنها، لأن المقصود هو التعبير الواضح عن إرادة العاقدين. وهو يصح بأي لغة. ووافقهم على ذلك بعض فقهاء الشيعة.
لكن اكثر فقهاء الشيعة والمذهب الشافعي يرون أنه لا يصح العقد بغير اللغة العربية للقادر عليها.
أما غير القادر على اللغة العربية فيتفق الفقهاء المسلمون على صحة العقد من قبله بغيرها.
وهل يؤثر اللحن والتصحيف في اللفظ على صحة العقد؟
قال أكثر الفقهاء: (( إذا لحن في الصيغة بحيث لم تكن معه ظاهرة في المعنى المقصود لم يكف وإلا كفى. وإن كان اللحن في المادة، فيكفي (( جوزتك )) في اللغة الدارجة بدل (( زوجتك )) إذا كان المباشر للعقد من أهل تلك اللغة )) [13] .