فسخ العقد من قبل الزوجة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
إذا فقد الانسجام والرضا المتبادل في الحياة الزوجية، فإن الطرفين يتضرران بذلك، لكن الزوجة قد تبدو أكثر تضرراً، لأن الزوج يستطيع فك ارتباطه بها أي وقت شاء عبر الطلاق، الذي جعله الله تعالى بيده، أما الزوجة فلا مجال لها للخروج من هذا الارتباط إلافي موارد محدودة.
لذلك أعطاها الشرع المقدس حق فسخ العقد إن وجدت في الزوج بعض العيوب الأساسية، كما أعطى للرجل نفس الحق إن وجد فيها عيوباً محددة، ويبدو من بعض المسائل الفقهية أن هناك جانب مراعاة في هذا الموضوع. سنشير إليها خلال البحث.
بل ذهب الحنفية إلى أن خيار فسخ العقد بسبب العيب يثبت للزوجة فقط، لأن الزوج يستطيع دفع الضرر عن نفسه بالطلاق الذي ملكه الله إياه، ولا داعي لرفع الأمر للقضاء لما فيه من التشهير بالمرأة، أما الزوجة فلا تملك الطلاق فيتعين إعطاؤها حق طلب التفريق لتدفع به الضرر عن نفسها.[1]
وبينما لا يحق للزوج فسخ العقد إذا حصل في المرأة عيب بعد العقد، فإن المرأة يحق لها الفسخ إذا حدث بعض العيوب في الرجل وإن كان بعد العقد، بل وحتى بعد الدخول، كالجبّ مثلاً،فإنه يثبت لها الخيار سواء كان سابقاً على العقد أم كان حادثاً بعده، أو بعد العقد والوطء معاً [2] وكذلك العنن المطلق وإن استجدَّ بعد العقد، ويرى أكثر الفقهاء أن الجنون في الرجل يعطي المرأة حق الفسخ في أي وقت حصل.
هذه المسائل وأمثالها فيها رعاية وتقدير لظروف المرأة ومصلحتها.
موارد الفسخ:
تحدث الفقهاء المسلمون عن موارد محددة يجوز للمرأة فيها أن تأخذ بخيار الفسخ من زوجها بعد العقد، إذا كان فيه أحد العيوب التالية، ولم تكن تعرف عن ذلك من قبل.
1- الجَبُّ: والجَبُّ لغة القطع، وفي الاصطلاح الفقهي: قطع عضو التناسل عند الرجل بحيث لا يبقى منه ما يتأتى به الوطء.
وقد أجمع فقهاء المسلمين على أن المرأة إذا اكتشفت بعد العقد أن زوجها يفقد عضوه التناسلي، فلها خيار الفسخ.
ولو كان عند العقد سليماً لكن حصل له الجبُّ بعده ،يرى فقهاء السنة وأكثر فقهاء الشيعة أن لها حق الفسخ أيضاً.
أما لو حدث له ذلك بعد دخوله بها ووطئه لها فيرى الحنفية والمالكية والحنابلة في أحد الوجهين: أن حدوث الجبّ بعد الدخول لا يثبت للزوجة الخيار. وذهب الشافعية والحنابلة في وجه آخر إلى تخيير الزوجة بين فسخ النكاح وإدامته بالجبّ مطلقاً قبل الدخول أو بعده.[3]
واختلف علماء الشيعة في ثبوت حق الفسخ لهاإذا تجدد الجبّ بعد الوطء، فأكثرهم يرى سقوط الفسخ حينئذٍ، وبعضهم يرى أنه (( يثبت الخيار للزوجة في الجبّ سواء أكان سابقاً على العقد أم كان حادثاً بعده، أو بعد العقد والوطء معاً))[4] وهو رأي السيد السيستاني.
2- العُنّة: لغة عجز يصيب الرجل فلا يقدر على الجماع. وفي اصطلاح الفقهاء: هي العجز عن الوطء لعدم انتشار العضو التناسلي.
وقد اتفق فقهاء المسلمين أنها من العيوب التي تعطي للمرأة حق الفسخ إذا اكتشفت ذلك في زوجها بعد العقد فإن اختارت إمضاء العقد والبقاء معه، ثبت زواجهما ولا خيار لها بعد ذلك، وإن اختارت الفسخ، رفعت أمرها إلى الحاكم الشرعي،فيؤجله سنة كاملة من حين المرافعة، فإن زال عنه العنن، لم يكن لها حق الفسخ، وإن استمرت به الحالة، بعد انتهاء السنة، كان لها مفارقته، ولا يحتاج الفسخ حينئذٍ الى مراجعة الحاكم الشرعي، عند فقهاء الشيعة، وقال جمهور علماء السنة بالرجوع إلى الحاكم أو القاضي حينئذٍ ليحكم بالفسخ والفراق.
العلم قبل العقد:
ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة والشيعة إلى أنها إذا تزوجته وهي تعلم أنه عنين لا يصل الى النساء، لا يكون لها حق الخصومة، ولا حق الخيار، كما لو علم المشتري بالعيب وقت البيع، فهي صارت راضية به حين أقدمت على العقد مع علمها بحاله.
وقال الشافعية: إن علمت الزوجة قبل أن تتزوج العنين، ثم رضيت أن تتزوجه، فإنه لا يسقط حقها في الخيار، لأنها رضيت بإسقاط حقها قبل ثبوته فلم يسقط.[5]
العُنَّة بعد الوطء:
إذا جامع الزوج امرأته ولو مرة واحدة، ثم أصابته العُنَّة فليس لها حق الخيار، عند فقهاء جمهور السنة.[6]
واتفق فقهاء الشيعة على أن للمرأة الخيار بعنن زوجها سواءً كان مصاباً به قبل العقد أو تجددله بعد العقد، أما إذا أصابه بعد الوطء ولو مرة واحدة فقد اختلفوا في ثبوت الخيار لها.
نقل صاحب الجواهر عن ابن زهرة والشيخ المفيد أن لها الفسخ، وقال صاحب المسالك مانصه بالحرف: (( ذهب المفيد وجماعة إلى أن لها الفسخ أيضاً، للاشتراك في الضرر الحاصل باليأس من الوطء، واطلاق الروايات بثبوت الخيار للمرأة من غير تفصيل - بين الدخول وعدمه - كصحيحة محمد بن مسلم، ورواية الكناني، قال: ( سألت الإمام الصادق عن امرأة ابتلي زوجها، فلا يقدر على الجماع أبداً، أتفارقه؟ قال:« نعم إن شاءت»)، وغيرهما من الروايات الكثيرة المعتبرة الإسناد[7] ويميل إلى هذا الرأي السيد الشيرازي من المعاصرين قال في (( الفقه)): (( وحتى أنه إذا لم نقل بأن لها الفسخ كان للإمام أن يأمر بالطلاق لوضوح أن المرأة تحتاج إلى الرجل فبقاؤها بدون الجماع في غالب النساء من أشد العسر والحرج والضرر، وإن كان حقها في الفسخ أقرب.
يجب أن يراعى الاحتياط من الجانبين جانب الرجل بعدم فسخها، وجانب المرأة بعدم وقوعها في الضرر والحرج وما أشبه، بل الاكتفاء بوطئها ولو مرة واحدة خلاف جملة من الروايات.
والظاهر أن حكم العنين جار فيما إذا شلّ الرجل في أعصابه، بحيث لم يتمكن من الجماع أيضاً، فإنه وإن لم يُسمّ عنيناً إلا إن مقتضى بعض العمومات المتقدمة، والمناط، وحدة الحكم، بل يشمله بعض الروايات المتقدمة أيضاً مثل ما عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبدالله عن امرأة ابتلي زوجها فلا يقدر على الجماع أبداً أتفارقه؟ قال: «نعم إن شاءت»))[8] ، اما السيد السيستاني فقد استشكل في المسألة: (( وأما – العنن- المتجدد بعد الوطء ولو مرة ، ففي ثبوت الخيار لها بسببه إشكال، وإن كان الثبوت لايخلو من وجه، ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالطلاق لو اختارت الفسخ))[9]
3- الخِصاء والوجاء: والخصاء هو استئصال الخصيتين، والوجاء هو رضهما، وذلك يضعف الدافع الجنسي، وغالباً ما يمنع إفراز المادة المنوية.، وقد ذهب الحنفية إلى أن الخصاء والوجاء كالعنة يعطي المرأة حق الفسخ بعد تأجيل الحاكم الشرعي سنة كاملة. وعند المالكية لها الخيار إذا كان لا يمني، وللشافعية قولان بالفسخ وعدمه، أما الحنابلة فلا يرون لها الفسخ مادام قادراً على الوطء.[10]
ويرى أكثر فقهاء الشيعة أن لها الخيار. واستشكل فيه السيد السيستاني.
4- الجنون والجذام والبرص: الحنفية لا يرونها عيوباً موجبة الفسخ لا في المرأة ولا في الرجل، وبقية المذاهب تراها موجبة لحق الفسخ للرجل إذا كانت الزوجة مصابة بأحدها، أما لو كان الرجل هو المصاب، فيرى المالكية والشافعية والحنابلة أن لها الخيار وحق الفسخ، وأنكر ذلك الحنفية.
أما الشيعة فيرى أغلب فقهائهم أن جنون الزوج يعطي المرأة حق الفسخ، سواء كان جنوناً دائماً، أو يصيبه في بعض الحالات، وسواء كان بعد العقد أو بعد الوطء، وحتى لو رزق منها العديد من الأولاد.، وعلى العكس من ذلك بالنسبة للجذام والبرص، حيث يرى أغلب فقهائهم أنه لا يحق لها الفسخ بسببهما، لكن بعض فقهائهم السابقين والمعاصرين قالوا بأنه يحق لها الفسخ إذا كان الزوج مصاباً بهما، قال السيد الشيرازي: (( لصحيح الحلبي عن أبي عبدالله :« إنما يرد النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل.» وهو متناول بإطلاقه للرجل والمرأة، ولأن ثبوتهما عيب في المرأة ، مع أن للرجل وسيلة إلى التخلص منها بالطلاق، يوجب كونهما عيباً في الرجل بالنسبة إليها، بطريق أولى، لعدم قدرتها على التخلص لولا الخيار، وحصول الضرر منه بالعدوى باتفاق الأطباء وأهل المعرفة، مضافاً إلى ما اشتهر من قوله :« فر من المجذوم فرارك من الأسد»، ولأن النفرة الناشئة من ذلك، المنافية للمقصود من الاستمتاع أزيد من غيره من العيوب المتفق عليها. فلا يبعد القول بذلك- حق الفسخ- في الجذام والبرص، للغرر وللأضرار، وغيرهما وللصحيحة المتقدمة، فمقتضى الصناعة خيارها بهما وإن كان المشهور ذهبوا إلى عدم الخيار))[11] .