الجرأة في طرح الآراء الإصلاحية

الشيخ حسن الصفار *
قال الله العظيم في كتابه الحكيم: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (الأحزاب: 37)

هذه الآية الكريمة تتحدث عن قضية حدثت في السنة الخامسة للهجرة في المدينة المنورة، ذلك أن الرسول كان له غلام وهبته له زوجته خديجة بنت خويلد ، هو «زيد بن حارثة بن شراحبيل الكلبي» كانت قد تملّكته بالطرق التي كان يُتملَّك بها الأرقّاء والعبيد من خلال المعارك، حيث يؤسر الأفراد ويباعون من قبل القوّة المنتصرة الغازية التي تأسرهم. وزيد كان غلامًا صغيرًا حينما أسر في إحدى المعارك، بيع فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، ثم وهبته للرسول بعد زواجها به ، وكان عمر زيد آنذاك ثماني سنوات.

وبعد فترة جاء أهله يبحثون عنه حتّى يستعيدوه بأي ثمن، فخيّر رسولُ الله زيدًا بين أن يبقى معه أو يذهب مع أهله، فاختار زيد البقاء مع الرسول قائلاً: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً.

فقام الرسول بتبنيه ضمن ما هو سائد في الجاهلية.

وكان متعارفًا في الجاهلية أن الرجل إذا تبنى شخصًا يصبح هذا الولد بالنسبة له بحكم الولد الصلبي، أي تترتّب عليه ـ عندهم ـ جميع الآثار للأبوّة والبنوة.

ولذلك فإن زيدًا بعد هذه الحادثة أصبح يطلق عليه زيد بن محمد.

وقد أطلقه الرسول وحرّره من الرقّ. و زوّجه أم أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد ثم طلقها، فزوجه الرسول زينب بنت جحش الأسدي وهي ابنة عمةّ النبي أميمة بنت عبد المطلب.

وحصلت حالة من عدم الانسجام بين زيد وزوجته زينب، وكان زيد يشكو زوجته إلى رسول الله ويهدّد بتطليقها، ولكنّ الرسول كان ينصحه بأن لا يطلّقها، وأن يمسك عليه زوجته.

والآية توضّح أن الرسول كان يعلم ـ من قبل الله تعالى ـ بأن زيداً في النهاية سيطلّق زينب، وسيتزوحها الرسول ، وذلك لحكمة تشريعية من أجل نقض العرف الاجتماعي السائد الذي يقتضي بأن الرجل إذا تبنّى رجلاً يصبح بمكانة ابنه بحيث لا يستطيع أن يتزوّج مطلقته.

إن التشريع يريد أن ينقض ذلك العرف، إضافة إلى أن زيداً كان عتيقًا، ورسول الله في مكانته وعظمته، فكان مستهجنًا في عرف الجاهلية أن يتزوج شخص بهذه المكانة طليقة عبد معتق.

ولذلك يريد الله سبحانه وتعالى أن ينقض هذا العرف الطبقي كذلك، فيتزوّج الرسول من ابنة عمته زينب بنت جحش.

مع معرفة الرسول بهذا الأمر إلا أنه كان يشجّع زيداً على أن لا يطلّق زوجته، فكلما جاء زيد يتحدّث عن مشكلته مع زوجته كان الرسول ينصحه بالإبقاء عليها وعدم تطليقها.

وهنا نزلت هذه الآية الكريمة تعالج هذه القضية، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، حيث أنعم الله على زيد بنعمة الإسلام والوجود وغيرها من نعم الله التي لا تحصى، وكذلك أنعم الرسول على زيد أن أعتقه وتبنّاه وقرّبه وربّاه.

﴿وَاتَّقِ اللهَ بالصبر على زوجتك، فالطلاق أمر غير محبَّب عند الله سبحانه.

﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ: فالرسول في علمه أن زيدًا سيطلّق زينب بنت جحش، لكنّه أخفى هذا الأمر ولم يتحدّث عنه، ولم يسهّل أمر تحقيقه، ترك زيداً ينفذ رغبته في الطلاق.

﴿وَتَخْشَى النَّاسَ: ما كان رسول الله يريد لزيد أن يطلّق زوجته بسرعة، فيطبّق أمر الله بأن يتزوّجها بعده، فقد كان هناك خشية عند الرسول أن هذا سيثير بعض الاتهامات في الوسط الداخلي تجاهه، فيتّهم ـ مثلاً ـ بأنه رغب في زوجة مولاه، كما تحكي هذه الفكرة بعض المرويات المدسوسة.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية هناك احتمال أن يتهم بأنه خالف القانون والعرف السائد اتباعًا لهواه ورغبته الشخصية.

أو يثار حوله ويعاب عليه أنه تزوّج مطلّقة مولى وهو في مكانة عالية في قومه وفي موضع الزعامة فيهم.

﴿وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ: أي لا ينبغي أن تهتم بهذه الإثارات، التي تكون في أوساط الناس.

النبي كان يخشى من الاتهامات حفاظًا على الرسالة:


هذه الآية لو تأمل فيها الإنسان يتَّضح أن خشية المبلّغ والمصلح من الاتهامات التي تكون في وسط المجتمع كانت موجودة بنسبة ما في نفوس الأنبياء، فالنبي ما كان يخشى على نفسه شيئًا، بأن يضرُّوه، لكن لأنه كان يحمل رسالة فكان يخشى أن يؤثّر اتهام الناس له على إتباعهم لهذه الرسالة، و على ثقتهم بحامل الرسالة ومبلغها.

هذه الخشية كانت موجودة بدرجةٍ ما، ولذلك فالآية تتحدّث عنها.

وفي آية أخرى تتحدّث عن نفس الفكرة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة: 67) ففي هذه الآية يتحدّث المفسرون حسب الروايات الصادرة بخصوص هذه الآية أن الرسول كان مأمورًا أن يبيِّنَ للناس ولاية الإمام علي ، ولكنه ظل لفترة متوقفًا، حتى لا يكون هناك شكوك واتهامات في أوساط ضعاف النفوس، أن الرسول إنما عينه في هذا الموقع لأنه صهره وابن عمّه ، وبينه وبين الرسول علاقة وثيقة، لذلك تأتي هذه الآية لتخاطب الرسول بهذه اللهجة المشددّة.

المصلح بين الجرأة والانكفاء:

نريد أن ننطلق من الآية الكريمة إلى هذه المسألة، والتي تدور حول المصلح الذي يحمل رسالة الإصلاح والتغيير في المجتمع، إذ قد يجد في بعض الأحيان نفسه في نفس الموقف الذي تعرضه الآية، وذلك حينما يتحدّث عن فكرة أو رأي أو حكم شرعي، وبعض الناس لا يتقبّلون طرحه، بحيث يشككون في هذا المصلح، فهذه مشكلة يعيشها كل المصلحين ولذلك نجد الكثير من المصلحين يكتمون بعض آرائهم وأفكارهم خشية أن يكون ذلك سببًا لردود أفعال من قبل الناس.

وليس بالضرورة أنهم يخشون من أن تتضرر بعض مصالحهم الشخصية، ولكن لأنهم يخشون أن يؤثر ذلك على تفاعل الناس معهم.

وهذا يحصل كثيرًا في التاريخ الماضي والمعاصر، فكم من العلماء كانت لهم آراء يتحدّثون بها لخواصّهم وفي الدائرة الضيّقة والقريبة منهم فقط، ولا يجهرون بها أمام الناس، لأن عامّة الناس لو سمعوا منهم هذا الرأي المخالف للسائد عندهم فإنهم سيفقدون الثقة تجاه هذا العالم الذي طرح هذا الرأي، وفي بعض الأحيان يكون صراع وتنافس داخلي فيستفيد من هذا الموضوع بعض الأشخاص بإثارة الناس على هذا الشخص أو هذه الجهة ضمن تصفية حسابات.

لذلك ينقل الشهيد الشيخ مرتضى مطهري عن المرجع الراحل السيد البروجردي رحمه الله أنه تحدث مرة في أحد دروسه الفقهية أمام تلامذته عن معاناته الذاتية في اضطراره لإخفاء بعض آرائه تقية من المجتمع قائلاً: (ليس ثمة ما يدعو للعجب، فالتقية من أصحابنا أهم وأعلى، أنا نفسي في أوائل بلوغي مرحلة المرجعية العامة كنت أظن أن عليّ أن أستنبط الأحكام وعلى الناس العمل بها، فما أفتي به يعمل به الناس، رأيت أن الأمر ليس كذلك) (المطهري: مرتضى/ محاضرات في الدين والاجتماع ص 559 الطبعة الأولى 2000م الدار الإسلامية - بيروت).

وما ذكره الشيخ المطهري عن الساحة الشيعية ذكر مثله الشيخ يوسف القرضاوي عن الساحة السنية حيث قال في جريدة الشرق الأوسط (30/1/2001م) إن كثيراً من العلماء يحملون رأيهم في صدورهم، ولا يبوحون به خشية الوقوع في الخلاف والاختلاف. وضرب مثلاً على ذلك بقول الشيخ محمد أبو زهرة في أحد المؤتمرات: أنه عنده رأي كتمه عشرين عاماً ويريد أن يبوح به الآن وأضاف الشيخ القرضاوي: أنني كتمت بعض الفتاوى لسنين طويلة خشية أن يهاجمني المهاجمون ثم بدأت أفصح عن هذه الفتاوى وأنشرها.

لذلك فإن بعض المصلحين يخشى أن يطرح موقفه لئلاَّ تزايد عليه بعض الجهات في دينه ومواقفه الوطنية، أو أن تستفيد من طرحه هذا لتستثير عواطف الجمهور ضده، ولذلك أصبحت مشاعر الجمهور سلطة حتى على الرأي الديني والفقهي.

العلماء وسلطة الجمهور:

في كثير من الأحيان يكون العلماء عندهم آراء لا يبدونها، ومما يذكر في هذا المجال ما يشاع في القارّة الهندية وخاصة في باكستان عند جمهور الشيعة أنه لا يجوز للعامّي أن يتزوّج من هاشمية، بل تصل إلى أن يُهدر دم من يقوم بهذا العمل. ويتحفظ العلماء ويخافون من تكذيب هذا القول وتبيين بطلانه.

وقد أخبرت عن بعض المبلغين لما أراد أن يتوجّه إلى هذه المنطقة أوصاه أحد العلماء بأنه إذا سئل عن رأيه في زواج العامي من الهامشية أن يخبرهم بأن لا فتوى للمرجع في هذا الموضوع، وذلك حتّى لا يحصل ردّ فعل يؤثر على المرجع في أوساط ذلك المجتمع.

في بعض الأحيان يحاول البعض أن يبين أن التحفظ والحساسية منحصرة في مسائل العقيدة فقط، لأنها من المسائل الحسّاسة، والناس لا يتحمّلون طرحاً مخالفاً فيها، لكننا نجد أن نفس الحالة بالنسبة للمسائل الفقهية.

فالإمام الخميني حينما أصدر فتوى حول الشطرنج وأنه جائز ما لم يصحبه قمار، ظهرت بعض الأصوات المندّدة ولم تكن هذه المسألة عقدية. وكذلك أثيرت ضجة حينما أفتى الإمام الحكيم بطهارة أهل الكتاب وهي ليست مسألة عقدية.

والبعض الآخر يبرّر الانفعال الذي قد يحدث نتيجة طرح الآراء الناقدة الإصلاحية بأن الناس عادة لا تقبل إلا من الفقهاء، أما إذا كان المتحدث شخصًا لم يصل إلى رتبة الاجتهاد فالناس لا تقبل منه، لأن هذه المسائل لابدّ أن يبتَّ فيها الفقهاء.

وهذا التبرير غير صحيح أيضًا، فالسيد محسن الأمين ـ الذي لا يشك أحد في فقاهته ـ صدرت ضدّه البيانات والتصريحات الشديدة لأنه تحدث عن موضوع بعض الممارسات في الشعائر الحسينية.

وكذلك الإمام الخميني ـ وهو فقيه مسلّم باجتهاده ـ حينما أصدر فتوى مخالفة للسائد بالنسبة للشطرنج، والإمام الحكيم حين أفتى بطهارة الكتابي.

إذًا المسألة لا ترتبط بالمسائل العقدية أو الفقهية، أو أن يكون المتحدّث فقيهًا أو لم يصل للفقاهة، أو أن تكون المسألة مختصة بالموضوعات أو بالأحكام.

وللتدليل على ذلك أشير إلى ما كتبه المرحوم الشيخ الدكتور الوائلي (ره) في مذكراته «تجربتي مع المنبر»، كيف أنهم عندما أرادوا أن ينشئوا معهداً ومنتدى لتجميع الخطباء ولترشيد الخطابة المنبرية، قامت ضدّهم الأصوات في النجف وحوصروا، لدرجة أن بعضهم بقي في منزله لم يغادره خوفًا من الناس وخشية من الإثارة التي صارت عليهم، فهذه الحادثة لا تدور حول مسألة عقدية أو فقهية، وإنما هي مسألة أسلوبية عملية.

إن هذه القضية يواجهها المصلحون والعلماء، حيث أن هناك آراء ينبغي أن تطرح يؤمن بها هذا العالم أو ذلك المصلح، ولكن طرحها في المجتمع يواجه بعواطف الناس، والأشد من ذلك أن يواجه باستغلال من أطراف منافسة تثير عواطف الجمهور ومشاعرهم، ولذلك يضع المصلحون أنفسهم أمام معادلة معقّدة، هل يتجرأون في طرحهم وبالتالي يدفعون الثمن، أو يبقون منطويين على آرائهم وأفكارهم؟

والوضع هنا يختلف من مجتمع لآخر، فالأصل أن الإنسان إذا كان لديه رأي من المفترض أن يعبر عنه، وبخاصة إذا كان هذا الرأي يتوخّى منه صلاحًا وإظهارًا لفكرة مفيدة.

ميزة هذا العصر:

في بعض الأحيان تكون المضاعفات التي ستحصل أشد من المكاسب، ففي هذه الحالة قد يتردّد البعض في طرح رأيه، ولكنّ ما يبدو أننا الآن نعيش عصراً يختلف عن العصور السابقة، وذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى: في السابق كانت حالة الجهل هي السائدة، فأكثر الناس لا يملكون مستوى تعليميًّا متقدّمًا، ولا يمتلكون انفتاحًا وثقافة، لذلك كانت العواطف والمشاعر تحركهم، أما الآن فنحن نعيش عصر الانفتاح والوعي والمعرفة، وهذا التغيّر الموجود في المجتمع ينبغي أن يستثمره المصلحون في التعبير عن آرائهم وطرح أفكارهم النقدية الإصلاحية.

الناحية الثانية: في الماضي كان من يحمل الآراء الإصلاحية هم أشخاص محدودون، والأغلبية مع الرأي السائد، أما الآن هناك تطور في الوسط العلمي والحوزوي والديني والثقافي، ولذلك أعتقد أن من يحملون الآراء التطويرية والإصلاحية ما عادوا قِلَّة، لكن المشكلة أنهم لا يعرفون بعضهم بعضًا، ولا يتعاونون مع بعضهم، ولذلك فإن كل واحد منهم يبدو كأنه يمثّل موقفًا ضعيفًا أمام الحالة العامّة، أما لو جهروا بآرائهم الإصلاحية للمجتمع والناس لأصبحت هناك شريحة واسعة تؤمن بهذه الأفكار والآراء وبالتالي تتغير المعادلة.

قد لا يكون التغير فوريًّا وحاسمًا، لكن ذلك لصالح حرّية التعبير عن الرأي والتغيير في بعض الآراء والأفكار.

إنني أعتقد أن هذين المتغيرين:

- سعة رقعة الوعي الاجتماعي.

- سعة شريحة حملة الآراء التطويرية

ينبغي أن يكون عاملاً دافعًا للمصلحين حتى يكونوا أكثر جرأة في طرح آرائهم وأفكارهم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الباحثين عن الحق والعاملين به، ومن الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا.

والحمد لله رب العالمين.