الآلام والأمال بين الأقوال والأعمال

الشيخ حسن الصفار *
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [1] 

مدخل:


احتكاك الإنسان بهذه الحياة يُنشأ لديه رغبات وتطلعات، كما أن طبيعة الحياة فيها عوائق أمام ما يطمح إليه الإنسان ويرغب فيه. وهنا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام.

القسم الأول: هو من يلتزم الصمت؛ يرغب في شيء ما ولكن تبقى هذه الرغبة حبيسة في نفسه لا يظهرها لأحد. يواجه كذلك عوائق تعترض طريق تقدمه فيتألم منها، ولكن يبقى ألمه حبيساً في نفسه، لا يشرك أحداً بما يحس.

القسم الثاني: هو من يحترف الحديث والتعبير عما بداخله؛ يتحدث عن آلامه التي يعاني منها، وعن آماله التي يتطلع إليها ويريد تحقيقها، يفصح عما بداخله في أي فرصة تتاح له. وهذا القسم يعتبر درجة متقدمة عن القسم السابق.

القسم الثالث: هو من يسعى ويجتهد لتحقيق تطلعاته ولإزالة العوائق من طريقه، وهذا هو الأفضل. لا يُبقي الرغبة حبيسة في نفسه، ولا يكتفي بالتحدث عما بداخله، وإنما يجتهد لتحقيق تلك الرغبة، ويفكر كيف يحققها، ويخطط، ويكثف جهده العملي حتى يحقق ما يريد.

العوائق ليست حتمية، حتى يقف الإنسان أمامها مكتوف الأيدي. والمؤمن في صورته الحقيقية الصحيحة هو من الصنف الثالث.

الآية الكريمة تقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون لماذا تكون التطلعات أمامكم مجرد حديث وكلام، لماذا لا تسعون وتجتهدون لتحقيق ما تصبون إليه؟ ﴿لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله

والمقت هو الغضب الشديد.



هذا من حيث الأفراد، وبما أن الأفراد في مجموعهم يشكلون المجتمع، فالأصناف الثلاثة ذاتها تنطبق على المجتمعات وهو ما نريد الحديث عنه.



مجتمع الصمت:


بعض المجتمعات تبقى أمالهم وآلامهم حبيسة في نفوسهم، لا يصرحون بها إما لسبب سياسي أو اجتماعي، أو لأي سبب آخر، وفي بعض الأحيان ينكرونها، فإذا ما سئلوا عن أوضاعهم أجابوا بعكس ما يريدون وما يشكون، بأن أوضاعهم طيبة ولا ينقصهم شيء، فيبدو للسائل أن حالهم على ما يرام.

مجتمع الكلام:


هي مجتمعات تحترف الحديث عما بداخلها، في أي مجلس تجد حديثاً واسعاً ومفصلاً عما يريدون ويتطلعون إليه، وعن المشاكل التي يواجهونها، ولكن كل ذلك يبقى مجرد أحاديث في المجالس ومنتديات الإنترنت واللقاءات، ليس هناك خطة عملية يتحركون من خلالها. وقد أصبحت بعض منتديات الإنترنت مجلساً عامراً للتحدث والكتابة وبلا مسؤولية غالباً عندما يكون الاسم مستعاراً، حتى أنك تحس أن من يكتب لن يرضى إلا بحل المشكلة وقمعها من جذورها، ولكن بمجرد أن ينهي حديثه يحس بأن دوره انتهى، ويمضي لينام قرير العين.

مجرد الحديث من دون عمل لن يحقق لنا شيئاً. جاء في الرواية عن رسول الله يوصي الإمام علياً : «يا علي! لا خير في قول إلا مع الفعل»[2]  تتحدث عن مشكلة ما، إذاً لا بد أن تضع لها برنامجاً عملياً لحلها.

مجتمع الفعل:


هي المجتمعات ذات الفاعلية والنشاط. مجتمعات تجتهد لتحقيق آمالها، وتعمل المستحيل لمعالجة آلامها. وهي المجتمعات التي تريد التقدم وتحسين أوضاعها، يقول أمير المؤمنين علي : «زيادة الفعل على القول أحسن فضيلة، ونقص الفعل عن القول أقبح رذيلة»[3] . أي أن المجتمعات التي يكون فعلها أكثر من قولها تعيش حالاً حسناً، بخلاف من يكون قولها أكثر من فعلها.

مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية:


الآية الكريمة تريد أن تنقل مجتمع المؤمنين إلى المرحلة الصحيحة، مرحلة العمل والسعي الحثيث، أيها المؤمنون! لا تحترفوا الحديث عن آلامكم وآمالكم، وإنما يجب أن تباشروا العمل من أجل تحقيق تلك الآمال، وتجاوز تلك الآلام.

إذا نظرنا في ضوء هذه الفكرة إلى واقع مجتمعاتنا الإسلامية وقارناها بواقع المجتمعات الغربية المتقدمة، سنجد الفرق بيننا كبيراً جداً.

لو كُلف باحث بإعداد قائمة يرصد فيها آلام وآمال بلد ما من بلاد المجتمعات الإسلامية فلا شك أنه سيحصل على قائمة طويلة لتلك الرغبات والمشاكل. لكنه لو أراد أن يحصي المشاريع العملية فيم يخص الآمال والآلام فلن يجد إلا شيئاً بسيطاً لا يستحق الذكر.

بينما حين يطلع الإنسان على واقع المجتمعات المتقدمة ذات الفاعلية والنشاط، فلن يرى هناك مسافة كبيرة بين الآمال والأعمال، لأنها مجتمعات تتحرك فور نضوج أي فكرة لأي أمل أو ألم.

في مجتمعاتنا هناك مشاكل مزمنة لها سنين ولم يتم السعي بعد لحلها. وأبسط مثل واضح؛ الأمراض. نحن نعاني من الأمراض، والآخرون يعانون كذلك كما نعاني ولربما أكثر منا. ولكن في المجتمعات الغربية تجد سعياً حثيثاً لإيجاد العلاج، أما نحن فنتظر أن يأتينا هذا العلاج!

في المجتمعات الغربية ترصد مبالغ كبيرة لعلاج الأمراض الخطيرة كالأيدز، والسرطان، فضلاً عن الأمراض البسيطة، أما نحن فنبكي منتظرين رحمة الله تعالى وفرجه، منبهرين بما وصل إليه الغرب من تقدم ناظرين إلى وقت يجودون علينا بما توصلوا إليه!

تلك المجتمعات لا تكتفي بايجاد العلاج فقط، بل بعمل بحوث ودراسات لتطوير ذات العلاج، ونحن نبقى هكذا لا نقدم ولا نؤخر!

لو اقتربنا إلى مشاكلنا الاجتماعية و السياسية، نرى أن مجتمعاتنا احترفت فن الحديث حول المشاكل، ولو سألَنا أحد عن مدى معاناتنا لهذه المشكلة؟ سنقول بملئ الفم: من زمن بعيد!

ظواهر سلبية:


يمكننا أن نرصد الظواهر التالية التي تبرز في مجتمعاتنا:

ـ الاستغراق في وصف المشكلة وفضفضتها:
حينما تتحدث عن مشكلة ما تجد من يزيدك من الشعر أبياتاً، ومن الرواية فصولاً. تفاصيل كثيرة ولكن دون أن نستثمرها للوصول إلى حل. كل أحاديثنا تنصب ضمن قائمة المشاكل وتوصيفها، ولكن قوائم الحلول مغيبة، أو بالأصح ملغية، لا تفكير، ولا بذل، ولا تخطيط، ولا تطوير، هذا ما يكون في الغالب الأعم. ﴿يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون لماذا تجترون الكلام فقط، ﴿كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن غضب الله يشتد على من يكون قوله خلاف عمله.

الخطباء مثلاً ـ وهذا نقد ذاتي ـ يصفون المشكلة بحذافيرها وفي بعض الأحيان يضفون عليها بعض المحسنات البديعية لشد انتباه المستمع، والناس ينبهرون مما يسمعون ويتشكرون من الخطيب لحسن عرضه للمشكلة، ولتلمسه ما يحسون به. ونستمر هكذا في كل سنة نتفنن في عرض المشكلة ذاتها أو مشاكل أخر، ولكن هل نطرح حلولاً لهذه المشاكل؟

هناك اشباع في توصيف المشاكل والمبالغة في الوصف وهذه حالة سلبية، فهي تستهلك طاقة الإنسان النفسية، ورد عن الإمام الباقر عن أبيه زين العابدين يقول: «ما أكثر الوصف وأقل الفعل إن أهل الفعل قليل، إن أهل الفعل قليل»[4] .

ما دام الإنسان مندفعاً متحمساً فعليه أن يتحرك، لا أن يفرغ طاقة الحماس هذه في الكلام واخراج ما في النفس من هم، فذاك يوحي له بأن دوره قد انتهى، ويشعر براحة بعدما يفصح عما بداخله، وهذا أسلوب مستخدم في العلاج النفسي لحل المشاكل الشخصية.

السعي أمر ضروري لحل المشلكلات : ( يا عبدي منك الحركة ومني البركة ) اجترار الكلام هكذا من دون عمل لن يقدم ولن يؤخر. صفة المؤمن كثرة العمل وقلة الكلام، وإذا ما انعكست هذه الصفة صار في عداد المنافقين كما روي عن الإمام الكاظم في وصيته لتلميذه هشام بن الحكم: «يا هشام! قال رسول الله ... المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل»[5] .

ـ إلقاء المسؤوليات على الآخرين:
في كثير من الأحيان نقف مكتوفي الأيدي متوقعين الحل من جهة ما سواء كانت خارجية أو داخلية، وأحياناً نعلّق آمالنا على شخص معين أو تيار معين، تارة لحسن ظن، وتارة فقط لنلقي المسؤوليات على غيرنا بقصد الإحراج والتشويش، أو لكي نخلي أنفسنا من المسؤولية وهذا غير صحيح، رسول الله كان يوصي الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: «يا ابن مسعود! فلا تكن ممن يشدد على الناس ويخفف على نفسه، يقول تعالى ﴿لم تقولون ما لا تفعلون )([6]» لا تلزم الناس بمسؤوليات وتنسى نفسك.

المتصدي لحل مشاكل مجتمعه في تلك المجتمعات المتقدمه يلقى زخماً من التشجيع والشكر والعطاء، وكأنهم بلسان الحال يقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، خلاف من تعيبهم الآية الكريمة التي تنطبق على مجتمعاتنا الاتكالية: ﴿فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون [7] . من يتصدى لحل المشاكل في مجتمعاتنا يلقى الويلات، فعند حدوث أي مشكلة يحمّلونه المسؤولية وكأنه السبب فيها، وعندما يسعى لحلها وينجح في ذلك فلن تجد من يشكره ويبذل معه، إلا القليل! وويله إذا لم ينجح سعيه!!

المجتمع الطبيعي الفاعل لا يتلخص في شخص ما، أو جهة ما، أفراد المجتمع كلهم مسؤولون ومطالبون بالتحرك والعمل.

في الختام أقول إن مجتمعاتنا بحاجة إلى الانتقال للدائرة الثالثة، يكفينا حديثاً عن الآمال والآلام، نريد عملاً، نريد حلاً لما نشكو منه. لو استخدمنا 20% من الطاقة المبذولة في حديثنا عما نريد، وصرفناها في التفكير وإيجاد الحلول المناسبة والعمل والتحرك، لحققنا الشيء الكثير، ولأمير المؤمنين رواية جميلة نختم بها حديثنا يقول : «غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله»[8] .

نأمل أن تتحرك مجتمعاتنا لتحقيق ما تتطلع إليه، وحل ما تعاني منه. هذا ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يقولون ما يفعلون، وألا يجعلنا من الذين يقولون ما لا يفعلون. وأن يوفقنا للعلم والعمل به، إنه سميع الدعاء قريب مجيب. هذه وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

والحمد لله رب العالمين.
([1] ) سورة الصف، آية 2-3.
([2] ) الشاهرودي، علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، ج3، ص234، مؤسسة النشر الإسلامي، قم1419هـ.
([3] ) التميمي، عبدالواحد الآمدي، غرر الحكم والكلم، ج1، ص385، ط1 مؤسسة الأعلمي 1407هـ.
([4] ) الكليني، محمد بن يعقوب، فروع الكافي، ج8، ص190، ط3 دار الأضواءـ بيروت 1405هـ.
([5] ) الحراني، الحسن بن علي بن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، ص293، ط5 مؤسسة الأعلمي 1394هـ.
([6] ) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج74، ص109، ط3 دار إحياء التراث 1403هـ.
([7] ) سورة المائدة، آية24.
([8] ) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج1، ص160.