نبي الرحمة ونهج حركات التطرف
في هذه اللحظات التاريخية العصيبة من وجودنا نواجه تحديات مختلفة متفاوتة في ضغطها وشدتها واستحقاقاتها السياسية والثقافية والحضارية. الأمر الذي يفرض على كل المؤسسات والنخب المتنوّرة في الأمة مراجعة ومعالجة متأنية تستهدف الواقع وحركياته، والآخر وإمكانياته واستعداداته وثقله وأهدافه كما يتطلب الأمر الإنفتاح الواقعي على قدرات الشعوب العربية والإسلامية وإمكانياتها وإشاعة المبادئ والمفاهيم الإسلامية الأساسية التي تحث على الصبر والتبشير بثقافة الرحمة والتواصي بها وعبرها لخلق نموذج الأمة الواحدة ومتحدها الحضاري العظيم.
إنها لحظات من عمر تاريخنا ووجودنا العربي والإسلامي يجري فيها من التأسيسات والظواهر والصياغات السياسية والعسكرية الدولية ما لم تكن الأمة وشعوبها قد شهدته من قبل، من هنا كان لزاماً على كل الفئات المسؤولة عن المصير والتاريخ المشترك فهم المتغيرات والتحولات الجيوپولتيكية الجديدة والخروج بمعالجات تستنهض الهمم وتستثير الإرث القيمي والحضاري لمواجهة الاستحقاقات الكامنة وردع كل الذين يحاولون الإساءة لدور هذه الأمة. ومن بين المفاهيم المرشدة مفهوم الرحمة عبر الإيمان بأن الإسلام نقيض الإرهاب والقسوة، فلا يجتمع الإيمان واليقين بالله عز وجل مع القسوة والبطش، والتعاليم الإسلامية واضحة في هذا السياق، فقد بعث الله تعالى نبيه محمداً ﴿رحمه للعالمين﴾ وقال : «إنما أنا رحمة مهداة»، وسيرته وتعامله داخل أمته وهو في موقع الزعامة والقيادة، بل وتعامله حتى مع أعدائه ومناوئيه، في مرحلة الدعوة والتبليغ، ثم في معارك الجهاد والدفاع العسكري. سيرته العطرة كانت تفيض رحمة وشفقة وإنسانية حتى على أعدى أعدائه وأشد مناوئيه. عكس ما يفعله بعض الحكام في البلاد الإسلامية وأكبر شاهد ما يتكشف الآن وبعد سقوط النظام في العراق من مقابر بشرية جماعية. أن حكام العراق كانوا – وكما ظهر في الفضائيات وشاشات التلفزة العربية والعالمية- يعدمون الإنسان المتهم بالمتفجرات وما ظهر يكشف غيضاً من فيض تاريخ إجرام سلطة النظام البائد بحق الشعب العراقي، كما أنها تكشف حجم المشهد المأساوي والجنائرية المقيمة في بلاد الحضارة والثقافة والتنوع والأديان، أنها مآسٍ يندى لها الجبين والأغرب أنها تجري في أمة تنتسب لمشروع ودين نبي الإسلام نبي الرحمة. ألا نخجل من أنفسنا؟ أين هو التواصي بالرحمة وبحق الإنسان في الحياة والحرية – أين حقه في الإختلاف وحصته في الحكم والمشاركة؟ يبدو أن بعض ولاة أمورنا في البلاد العربية والإسلامية لا يمنحون الحرية لإنسانهم وشعوبهم إلا على حطام المقابر وعظام الضحايا!.
إن الله تعالى يصف المؤمنين بأنهم ليسوا رحماء فقط وإنما ينشرون نهج الرحمة ويكرسونه فيما بينهم، يقول تعالى: ﴿ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة﴾.
وما يزيد الأمر سوءاً والمشهد ضبابية وسواداً وجود الحركات الإرهابية المتطرفة التي تمارس أساليب وتقوم بتصرفات مخجلة وبعيدة عن جوهر وروح الإسلام وثقافة الصراع والاختلاف، فعلى الرغم مما يفعله أعداء الأمة بها لكن ذلك لن يكون سبباً كافياً يبرر ما تقوم به تلك الجماعات من أفعال وممارسات مع أننا نتفهم خلفيات الجهاد وضروراته الفقهية والسياسية دفاعاً عن الأمة خصوصاً في لحظة تاريخية ملتبسة توجب التعاطي العقلاني مع تلك اللحظة بما لا يسيء للمفهوم وشرعيته ووجود الأمة ودورها وشرعية حقها في العيش والتعايش مع الآخرين.
إنهم يستهدفون المجمعات السكنية والأطفال والنساء كما حصل في تفجيرات الرياض والدار البيضاء. إن الجهاد والعمل من أجل الإسلام بريء من هذا المنهج.
لقد حولت الجماعات والحركات الإرهابية الإسلام إلى متهم تجب محاربته في نظر الآخرين وتحولت البلاد الإسلامية بعد عمليات التفجير إلى مستنقع لأخطر العمليات الأمنية وساحة حرب مفتوحة وأصبح المسلمون في نظر العالم نموذجاً للقسوة والبطش والإرهاب وتم تشويه صورة الإسلام والحضارة الإسلامية، ومع أننا نعي مكر الإعلام الغربي المسيء للإسلام لكن نهج الحركات الإرهابية قدم أكبر خدمة للغرب على حساب واقعيات الإسلام التي تحث على التواصل والحوار وحماية الأبرياء وصون النفوس والأعراض والمصالح المحترمة.
ولم يعد الأمر مقتصراً بين تلك الحركات المتطرفة والمصالح الغربية بل حتى بين أبناء الأمة الواحدة ونحن وأنتم كنا ولا زلنا شهوداً على المذابح والصراعات وإراقة الدم التي حدثت بسبب التباينات المذهبية ففي الباكستان مثلاً لا ينتهي الخلاف المذهبي إلا بإطلاق النار ووقوع المجازر، فأي دينٍ يسوغ هذه الأفعال الشنيعة ومتى كان السلاح وإراقة الدم هو الطريق في حل النزاعات المذهبية والاختلافات الفكرية؟
إنها الفظاعة بعينها.. إننا نمزق بعضنا حين نختلف في وجهات النظر ومثلما جرت البشاعة فصولاً دامية في الباكستان بسبب التباينات المذهبية جرت البشاعة بأقسى صورها في النجف بين أبناء المذهب الواحد، فقد قُطع السيد عبد المجيد الخوئي ورموا بجثته في الشارع!.
إن ثقافة التراحم والتسامح لا بد أن تتحول إلى نهج ردعي من قبل الأمة وطليعتها ومرجعياتها الدينية لكي يتم استيعاب ظاهرة التطرف السائدة، كما أن العنف لا يتدفق سكاكين وخناجر فجأةً في الشارع والمسجد وحرم الجامعة بل يبدأ من الأفكار المتطرفة وهنا لا بد من إلزام كل المؤسسات المسؤولة بضرورة تحديث المناهج والتأكيد على حق الاختلاف فما يحصل في العراق وغيره من البلدان الإسلامية اليوم يمثل تحدياً خطيراً على أمتنا ولا يواجه هذا التحدي إلا بالتلاحم والتعاون والإيمان بالقواسم المشتركة.
واستعرض سماحته مجموعة من الشواهد والنماذج من سيرة رسول الله التي تجسّد قمة التسامح والعطف والرحمة داعياً إلى تحويل هذا الخلق النبوي الشريف إلى منهج للتعاطي الداخلي في حياة الأمة بين الحكام وشعوبهم، وبين القوى المختلفة، وبين رب الأسرة وعائلته. وأن نهتدي بسيرة المصطفى في التعامل مع الآخر المختلف والمخالف دينياً أو سياسياً وحضارياً.. والحمد لله رب العالمين