الشيخ الصفار: الصوم دورة تدريبية وبرنامج تأهيلي للروح والفكر
دأب مأتم الإمام علي بقرية «بوري» بمملكة البحرين على إصدار كتيبه السنوي «الرمضانية»، وتحت عنوان: «أهمية شهر الصيام عبادياً واجتماعياً» تمحورت الأسئلة التي قُدمت لسماحة الشيخ حسن الصفار لتكون ضمن الإصدار الجديد لعام 1427هـ وهي السنة السادسة لهذا الإصدار المبارك.
وهذا نص الحوار:
مجتمعاتنا الآن في مرحلة نهوض وتحفز للإصلاح والتغير، ومن ضرورات هذه المرحلة الانفتاح والتواصل بين التيارات الاجتماعية في تنوعها الفكري والسياسي.
إن عوامل تاريخية كالخلاف المذهبي، وأخرى سياسية كتطورات الأحداث في المنطقة، أنتجت حالة من التباعد والفتور في العلاقة بين فئات مجتمعاتنا، ولابد من تجاوز هذه الآثار، فصناعة المستقبل وبناء الوطن ومواجهة الأخطار والتحديات، لا يتم كل ذلك إلا بالتوافق والتلاحم الوطني، والانفتاح والتواصل هو الذي يخلق أرضية الوحدة والتوافق.
إن من بركات شهر رمضان الكريم ما ألفته مجمعاتنا من توفير فرص التلاقي والتواصل الاجتماعي.
والمطلوب استثمار هذه الحالة وتطويرها بوضع برنامج للتواصل بين التوجهات المذهبية والفكرية والسياسية.
مثلاً أن يتزاور ويتواصل علماء الدين من السنة والشيعة، وكذلك قادة التجمعات السياسية، والتيارات الفكرية.
على أن يكون ذلك تأسيساً لتواصل دائم وليس حالة موسمية فقط.
كما أن مجالس ومحافل الخطابات الدينية الرمضانية ينبغي أن يستفاد منها في تعزيز حالة التواصل، بمشاركة علماء وخطباء من مختلف التوجهات، وبالتأكيد على ثقافة التسامح والانفتاح.
أهم سمة للشخصية المسلمة التزامها بإطاعة أوامر الخالق جلّ وعلا، كما تتميز بالقدرة على ضبط الانفعالات والسيطرة على الرغبات، في مقابل الشخصية الأنانية الشهوانية، التي تنطلق في حركتها من المصلحة الذاتية الضيقة، ومن الاستجابة للأهواء والرغبات.
وعبادة الصوم بما تعنيه من تقيّد والتزام بترك الطعام والشراب والجنس، وسائر المفطرات التي يمارسها الإنسان طوال أيام السنة، لكنه يتوقف عنها فجأة منذ أول أيام شهر الصوم،استجابة لأمر الله تعإلى، وبالتزام دقيق.
هذه العبادة تستهدف تأكيد وتثبيت أهم سمات الشخصية الإسلامية التي اشرنا اليها وهي الالتزام بطاعة الرب تعإلى وإرادة التحكم والسيطرة على النفس.
لو تأملنا أحكام فريضة الصوم والبرامج المرافقة لها من تلاوة القرآن وقراءة الأدعية المأثورة، وسائر المستحبات الواردة، لوجدنا أن هذه الفريضة تمثل دورة تدريبية، وبرنامجاً تأهيلياً،على مستوى الروح والفكر.
إنها تدفع الإنسان للتأمل الذاتي ومحاسبة النفس والاعتراف بمواقع الخطأ ونقاط الضعف، والتصميم على الإصلاح والتغيير، وذلك هو ما توحي به الأدعية الشريفة الواردة في مختلف أوقات الشهر الكريم كدعاء الافتتاح ودعاء السحر.
كما أن تلاوة آيات القرآن، والتدبر فيها، تحرر فكر الإنسان من هيمنة الآراء السائدة، والأفكار التبريرية الخاطئة، وتطلق له العنان للبحث عن الحق، واكتشاف الصواب.
مما يعزز الأمل ويبشر بالخير انبثاق مبادرات واعية، لتقديم برامج توعوية، فيها تجديد وتطوير، وملامسة لحاجات الساحة الاجتماعية، فهناك الآن في بعض مناطقنا ندوات ومحاضرات وحوارات تعالج مختلف المشاكل والقضايا الفكرية والاجتماعية.
لكن الفضائيات والشبكة العنكبوتية أصبحت تنافس هذه البرامج في استقطاب الجمهور، مما يوجب علينا الارتقاء إلى مستوى التحدي في المنافسة، كما أن هذه الفضائيات ومواقع الانترنت تحتاج منا إلى توجه لاستثمارها في تفعيل أجواء هذا الشهر الفضيل.
من أهم ما يجب التركيز عليه في أداء عبادة الصوم استحضار جهة الأمر والقرار، ودافع التنفيذ والالتزام، فنحن إنما نصوم استجابة لأمر الله تعالى، وبدافع نيل رضاه.
إن تعميق هذا التوجه في نفس الإنسان هو الذي يحقق له درجة التقوى التي هي غاية الصوم كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة:183)
والتقوى تعني اتقاء الإنسان من المعاصي، ووقاية نفسه من الذنوب، على المستوى الشخصي وعلى صعيد العلاقة مع الآخرين. من هنا تشير الأحاديث والروايات الشريفة إلى شمولية الصيام عن جميع الممارسات الخاطئة وليس عن الطعام والشراب فقط.
جاء في الحديث عن رسول الله قوله «يقول الله تعالى من لم تصم جوارحه عن محارمي فلا حاجة في أن يدع طعامه وشرابه من أجلي».
وورد عن الإمام علي: «الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب».
وفي نص آخر عن علي: «الصوم الإمساك عن كل ما يكرهه الله سبحانه».
شهر رمضان منطقة زمنية مقدسة متميزة على كل مناطق الزمن، ولذلك اختاره الله تعالى لنزول القرآن فيه ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ البقرة:185 ـ وكما تشير بعض النصوص الواردة فان جميع الكتب السماوية أنزلها الله تعالى في ليالي هذا الشهر الكريم.
ويكفي أن نعلم أن ليلة في هذا الشهر الكريم هي ﴿ليلة القدر خير من ألف شهر﴾.
وجاء في خطبة رسول الله عن فضل شهر رمضان قوله: «شهر هو عند الله تعالى أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات».
إن قداسة الزمن في شهر رمضان تجعل الأعمال الصالحة اقرب إلى القبول عند الله، وأكثر أجراً وثواباً، من هنا يحرص المؤمن الواعي بذلك على انجاز أكبر قدر من الأعمال الصالحة في هذا الشهر الكريم، مما يوفر اندفاعاً في المجتمع الإيماني لعمل الخير والإقبال عليه.
كما أن طبيعة أجواء هذا الشهر الكريم ذات عبق روحي، وجذب معنوي، تصنع الشوق للطاعة، وتخلق الاستعداد للبذل والعطاء، وتقوي الإرادة ومستوى الفاعلية في نفس الإنسان.
وحين تواجه الأمة الأخطار والتحديات يكون الجهاد فريضة لازمة، وأداء فريضة الجهاد في الزمن الرمضاني المقدس لها فضل لا يمكن تصويره وتصوره، فهي حينئذٍ أفضل عمل يؤدى في أفضل زمن. وهذا هو تفسير حصول كثير من معارك الدفاع عن الإسلام والأمة عبر التاريخ في هذا الشهر الكريم.
وما نراه الآن من حدوث حالة معاكسة في بعض مجتمعاتنا، بتحويل شهر رمضان إلى زمن للفتور والكسل، وانخفاض درجة الفاعلية والنشاط، هو نوع من الجناية والإساءة لهذا الشهر الكريم.
أداء العبادات بشكل جمعي، كصلاة الجماعة، ومناسك الحج، وأعمال ليلة القدر، تخلق في نفس الإنسان تفاعلاً عميقاً مع الممارسة العبادية، وتعطي للعمل العبادي هيبة وتأثيراً في المشاعر والأحاسيس، كما تبرز قوة الحالة الإيمانية، وتؤكد ثقة المؤمنين بمسلكهم الإيماني العبادي.
إضافة إلى كل ذلك فهي توجيه وتربية على العمل الجمعي، والذي يجب أن يكون نهجاً للمجتمع في مختلف المجالات، فالفردية التي نعانيها في مجتمعاتنا تعتبر من عوائق التقدم، والمجتمعات المتقدمة تكثر فيها المؤسسات والجماعات الفاعلة .
للمحافظة على المخزون الروحي والفكري لشهر رمضان المبارك، فانه يجب أن يتحول إلى برامج عملية في حياة الإنسان، وإلى قناعات فكرية راسخة.
وما نجده في الأحاديث والروايات من التركيز على أهمية التوبة والاستغفار، في أوقات الشهر الكريم، ومن ممارسة عمل الخير في أيامه ولياليه، ومن تكثيف تلاوة القران والأدعية المأثورة، إنما هو من اجل تثبيت برامج صالحة في سلوك الإنسان اليومي، وانجاز عصف ذهني يراجع به أفكاره وآراءه، ليتوصل إلى الرأي الأصوب.
وذلك يعني أن يكون شهر رمضان محطة تزود وتعبئة بالوقود الروحي، والصفاء الفكري، الذي يموّل ويغذّي حركة الإنسان طيلة السنة.
لكن الغريب جداً أن يصبح شهر رمضان وكأنه حالة استثنائية تنتهي بكل تفاعلاتها فور إعلان عيد الفطر. حيث تعود حليمة إلى عادتها القديمة -كما يقولون-.
إن انتهاء فترة التدريب تعني إتقان المهمة التدريبية، وكسب مهارتها، لتصبح جزءاً من كفاءة الإنسان ورصيده.
فليحرص كل واحد منا على الحفاظ على مكاسب الشهر الكريم في أعماق نفسه وجوانب عقله وبرامج سلوكه.
والحمد لله رب العالمين.