زينب عليها السلام بركة وعطاء
في ذكرى ميلاد السيدة زينب ابنة علي بن أبي طالب عليها السلام الموافق للخامس من شهر جمادى الأول عام 1424هـ - 5/7/2003م اقيم احتفال كبير في حسينية الزهراء بمنطقة السيدة زينب في دمشق الشام حضره جمهور كبير من الرجال والنساء وشخصيات من أهل السنة ومن الإسماعيلية والدروز وقد تضمن الحفل فعاليات عديدة من ضمنها كلمة لسماحة الشيخ حسن الصفار بعنوان «زينب عليها السلام بركة وعطاء»بدأ سماحته الكلمة بالآية الكريمة: ﴿وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا﴾
وأوضح أن هذه الآية تعبر عن واقع وحال أي ولي من أولياء الله المصطفين المختارين. ثم تطرق سماحته إلى معنى البركة في الآية: ﴿وجعلني مباركا﴾ حيث قال:
«البركة هي النماء، المبارك كما يقول المفسرون النفّاع للناس، الذي له نماء وعطاء بنفع الناس، ﴿وجعلني مباركا﴾ أي جعلني معطاءاً للناس أينما كنت، هذه هي سمة الأولياء ومن اصطفاهم الله سبحانه وتعالى من الأنبياء والأوصياء، أنهم نفاعون للناس، معطاءون». ثم صنّف سماحته الناس إلى أقسام فقال:
«لو تصفحنا حياة الناس المعاصرين معنا، أو قرأنا سير الماضين في التاريخ لوجدنا أن الناس أصناف في هذا الجانب، قسم من الناس لا نمو لهم حتى في ما يرتبط بذاتهم، هو غير نام، يقف عند حد معين، واقصد النمو هنا بمعناه المعنوي والعملي أما النمو الجسمي فهو حالة طبيعية إلا أن تكون حالة مرضية تمنع النمو الجسمي.
قسم من الناس لا ينفعون أنفسهم، يقصرون تجاه أنفسهم، كما يقول القرآن الكريم عن نموذجهم «وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير» يعيش عالة على غيره، لا ينفع نفسه ولا يفيدها.
وقسم آخر ينفع نفسه ولكن عطاءه ونفعه يتوقف عند حدوده الذاتية، أناني يعطي لنفسه فقط، ويعمل من أجل نفسه فقط، ولا يهمه الآخرون.
القسم الثالث يتوفق للعطاء فيعطي الآخرين ويساعدهم، ولكن ضمن حالة محدودة، زمنية أو مكانية، أو ضمن واقع معين، فهو قد يكون معطاءاً للناس في بلده، أما حينما تفرض عليه الظروف الهجرة والابتعاد، فلا يكون في ظروف الهجرة قادراً على العطاء، أو لا يتجه بهذا الاتجاه.
أو يعطي في فترة شبابه، فإذا كبر سنه توقف عن العطاء، أو يعطي في فترة ارتياحه النفسي، فإذا تأزم نفسياً لمصيبة أو مشكلة لم تعد له قابلية للعطاء، وفي أفضل الفروض فإن بعض الناس يكونون معطائين في حياتهم، فإذا انتهى أجلهم في هذه الحياة توقف عطاؤهم».
وأوضح أن للأولياء عطاءاً دائماً ومستمراً، في جميع مراحل العمر، وفي كل مكان جغرافي، وفي أي حالة من الحالات التي تعتور أجسامهم أو نفوسهم، بل ويمتد عطاؤهم إلى ما بعد وفاتهم ورحيلهم عن هذه الحياة.
ثم انتقل سماحته إلى الحديث عن بركة السيدة زينب فقال: «كانت ولا تزال مباركة أينما كانت، عندما كانت تعيش في المدينة المنورة كان لها عطاء، وحينما انتقلت مع أبيها إلى الكوفة تجدد عطاؤها، وحينما رافقت أخاها الحسين في كربلاء تدفق عطائها الثر، وحينما كانت في الكوفة سبية أسيرة، وحينما دخلت الشام مصابة مكلومة، وحينما آبت إلى المدينة محزونة مفجوعة، وحتى حينما التحقت بالرفيق الأعلى وتشرفت أرض الشام بجسدها الطاهر فإن عطائها مستمر، ووجودنا هنا، وهذه الحوزات العلمية هنا، وهذا الوجود الديني والإيماني والعلمي والمعرفي هنا، إنما هو تجل من تجليات عطاء السيدة زينب».
ثم تطرق سماحته إلى بعض العينات والنماذج من عطاءات السيدة زينب في مختلف المجالات المادية والمعنوية فقال: «على الرغم من صغر سنها لكنها كانت قد دخلت مرحلة العطاء، بأن تفيض من حنانها، وعطفها على الآخرين، يذكر المؤرخون أن السيدة زينب قد فقدت أمها فاطمة الزهراء «ع» وهي لتو قد أكملت الخامسة من عمرها، وغابت فاطمة الزهراء بجسدها عن البيت العلوي، أصبح بيت علي مظلماً لفقد الزهراء، علي وابناه الحسنان وزينب وأم كلثوم ووحشة البيت لغياب فاطمة الزهراء، كان البيت العلوي في حاجة لمن يملأ هذا الفراغ، ويأخذ دور الزهراء، يتحدث المؤرخون كيف أن زينب الصغيرة في السن ملأت فراغ أمها بشكل أو بآخر، فكانت هي سيدة بيت علي وكانت هي ملجأ تلك العائلة، على صغر سنها، صحيح أن علياً قد تزوج بأمامة تنفيذاً لوصية الزهراء ولكن أمامة مع مكانتها وفضلها، لا تكون شخصيتها ولا تكون نفسيتها كالغصن المتفرع من شجرة فاطمة الزهراء أي كزينب، زينب هي من ملأت هذا الفراغ.
وبعد ذلك في حياة أبيها علي في الكوفة، كان بيت زينب مدرسة في العطاء العلمي، النساء كن يقصدن بيت زينب أيام خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الكوفة ليستلهمن منها العلوم والمعارف، فكان بيتها مدرسة ينهل الناس منه العلم والمعرفة، في تفسير القرآن، وفي الحديث النبوي، وفي أخلاق الحياة، وفيما يحتاجه الناس في شؤونهم المختلفة، وفي كربلاء تجلى عطاء زينب العظيم والكبير، والذي يعجز الإنسان عن وصفه أو التحدث عنه، حتى أنه يمكن القول وبدون مبالغة أن ثورة كربلاء العظيمة صنعتها شخصيتان، شخصية الحسين، وشخصية أخته زينب، شخصيتان رئيسيتان في صنع هذه الثورة العظيمة وفي صنع تفاعلاتها ونتائجها على مر التاريخ، زينب والحسين، فهي شريكة الحسين في ثورته ونهضته، هي بطلة كربلاء.
عطاؤها السياسي واضح، كانت لسان الثورة الناطق، هي التي نقلت صوت الثورة إلى مختلف المدن والبقاع والآفاق، هي التي عبرت عن مواقف الثورة والنهضة الحسينية بشكل واضح صريح، ما هي أهداف هذه الحركة؟ وكيف حصلت أحداثها؟ وما هي نتائجها المرجوة والمتوقعة؟ أول وأفضل من بيّن كل ذلك هو زينب، موقفها هز عروش وصروح الحكم الأموي.
أما عطاؤها العلمي المعرفي، فقد كانت محدِّثة تحدث الناس تروي عن أمها الزهراء، هذه الخطبة العصماء، حول قضية فدك إنما وصلت إلى الأجيال بواسطة زينب، هي التي حفظت خطبة أمها وروتها للأجيال وحفظتها للبشرية جمعاء، وروت عن أبيها علي بن أبي طالب، وعن بعض أمهات المؤمنين، وبعض الصحابيات الجليلات، وروى عنها عدد من الصحابة والأعلام.
أما عطاؤها المادي، فقد كان بيتها بيت الجود والسخاء، وكان من تقدير الله سبحانه وتعالى لها أن تكون قرينة لجواد قريش المعروف، عبد الله بن جعفر، وهو من الأجواد المشهورين في تاريخ العرب، المعروفين بالكرم والسخاء، لذلك يذكر المؤرخون كيف كان بيت زينب محجة وملجأ للفقراء والمحتاجين. زينب طبيعتها العطاء، حتى في أحلك الظروف وفي أصعب الأوقات، إن الزهرة الفواحة، إن الوردة العطرة، لا تتوقف روائحها الطيبة في أي مكان وضعتها وفي أي زمان كانت، وهكذا كانت زينب «ع»، ينقل المؤرخون عنها أنها كانت تتنازل عن حصتها من الماء والغذاء لصالح أطفال أخيها الحسين الأسارى، وتبقى مضطربة الجسم لا تقدر على الصلاة من قيام لما أصابها من جوع إضافة إلى آلام المصيبة، وينقل المؤرخون كيف أن زينب حينما عادت إلى المدينة وكان المسؤول عن قافلة عودتها من قبل الأمويين، النعمان بن بشير، أخذت ما تبقى لديها من حلي وما تبقى عند أختها وقدمته للنعمان، قائلة: «هذه جزاء إحسانك معنا في رحلتنا» قال إني لم أفعل ذلك من أجل أجر مادي، ولكنها أصرت عليه أن يتقبل ذلك هدية منها مع الاعتذار أنها لا تملك أكثر من ذلك.
وبالنسبة لعطائها المعنوي، فإن زين العابدين علي بن الحسين إمام معصوم ولكن زينب أغدقت عليه من عطائها، كانت ترفع معنوياته، وكانت تسليه، حينما رأته مضطرباً عندما مرّ على جسد أبيه الحسين في يوم الحادي عشر من المحرم، التفتت إليه لترفع معنوياته «مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي» بل إنها حمت زين العابدين من القتل أكثر من مرة حيث كان يوشك أن يقتل يوم عاشوراء وفي مجلس ابن زياد لكن العقيلة زينب هي التي قدمت له الحماية.
هذه صور وعينات من عطاء السيدة زينب وسخائها في حياتها، وبعد التحاقها بالرفيق الأعلى استمر عطاؤها في النمو والتدفق، وما نعيشه الآن في الشام في هذه المنطقة وظلاله وأشعته في سائر المناطق إنما هو من بركة السيدة زينب». ثم اوضح سماحته كيفية الاستفادة من هذا العطاء قائلاً
«أشعة الشمس تسطع على الجميع، ولكن هناك من يحول أشعة الشمس إلى طاقة، هناك من يحولها إلى نور وإلى ضياء، وهناك من قد تصبح أشعة الشمس ضارة عليه، تصيبه بالمرض والألم في رأسه، كيف تتعامل مع النعم؟ الأمطار حينما تنهمر من السماء هناك من يستفيد منها زرعاً وسدوداً، وتوفير للمياه، وهناك من تصبح الأمطار سبباً في تهديم بيته وشقاء حياته، كيف تتعامل أنت مع هذه النعم والخيرات؟
نحن بجوار السيدة زينب وفي ضيافتها، كل لحظة من اللحظات نعيش عطاء هذه السيدة، بركة هذه السيدة، ولكن كيف نتعامل مع هذا العطاء؟ كيف نحوله إلى طاقة محركة؟ كيف نحوله إلى ضياء وإلى نور نستفيد منه؟ وكيف نبتعد عن أساليب سوء الاستغلال وسوء الاستخدام لهذه الطاقة ولهذه الأشعة؟ بالتأكيد هناك من يسيء الاستخدام والاستغلال ولكن الصالحين المؤمنين هم من يستفيدون من هذا العطاء الثر، وهذا السخاء الكبير».
وأشاد سماحته في ختام كلمته بالنشاط الكبير الذي يقوم به الدكتور عصام عباس في الاحتفاء بهذه المناسبة العظيمة حيث قال عنه: «إنه وانطلاقاً من حبه العميق لهذه السيدة، ومن معرفته الواعية بدورها وبتأثيرها وبأبعاد عطاءها، حمل على عاتقه هذه المهمة الكبيرة، إنه ليس مرجعية دينية ولا حوزة ولا مؤسسة ولا منشأة معينة حتى يكون هذا العمل جزءاً من برنامجه الطبيعي الاحترافي، إنه مشغول بعمله الخاص كطبيب ولكن ما يقوم به من هذا النشاط، إنما هو انطلاق وانبثاق من وعيه ومن إيمانه، فحياه الله وبارك له هذا النشاط وتقبل الله منه وجعله قدوة للآخرين، حتى يتحمل كل إنسان بأي صفة كان وفي أي موقع كان، طبيباً أو مهندساً أو رجل أعمال، يتحمل مسؤوليته تجاه هذه الكنوز المعنوية العظيمة، التي نفخر بها ويجب أن نستفيد من عطائها، بارك الله في جهود أخينا الكريم ووفقه، وإن شاء الله أن تستمر هذه الاحتفالات وهذه المناسبات كل عام، مع زيادة في النمو، ومع تطوير، كما هو شأن سيدتنا زينب «ع» ومن يرتبط بها وينتمي إليها يصبح مرتبطاً بشلالها المبارك وبعطائها المتدفق».