الشيخ الصفار في الليلة السادسة من المحرم يدعو للاهتمام بالتواصل الإجتماعي
وسط حضور غفير من أبناء المنطقة تحدّث سماحة الشيخ حسن الصفّار عن ضرورة تجديد أطر التواصل الاجتماعي ضمن الإرشادات والتوجيهات الإسلامية السمحة، منطلقًا من الآية القرآنية الكريمة: ﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ (سورة النساء آية: 36)، حيث ترشد هذه الآية إلى أهمية تفاعل الإنسان مع محيطه، وبالخصوص أسرته بدءًا بوالديه وامتدادًا للشرائح المحرومة في مجتمعه يتحسّسهم ويتفقّد احتياجاتهم مبتدئًا بالقريب منهم (الجار).
لتكون هذه الآية منطلقًا للحديث عن دور التواصل الاجتماعي في حياة الإنسان وما يشكّله من ضرورة حياتية لدى كل فرد.
وقد أشار سماحة الشيخ حسن الصفّار في سياق حديثه إلى أن الإسلام يبغي من وراء هذا التواصل تحقيق: التقارب النفسي والروحي بين الناس. والتعاون فيما بينهم لتسيير شؤون الحياة (التعاون على البرّ والتقوى). ومن ثَمَّ الوصول للأهداف المشتركة.
ولتحقيق ذلك نبه الشيخ الصفّار إلى ضرورة تجديد أُطُر التعاون والتواصل لتتناسب وأسلوب الحياة المعاصرة، الأمر الذي يدعو إلى التفكير في الأطر الجديدة والمتاحة ومن ثَمَّ السعي لتحقيقها وتفعيلها.
وفي هذا الجانب شدّد على ضرورة وجود مؤسّسات المجتمع المدني من خلال أشكالها المتاحة والممكنة، ومن أبرز ما تحتاجه مجتمعاتنا الصغيرة هو تشكيل مراكز الأحياء ضمن برامج وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي عبارة عن مجالس منتخبة من قبل أبناء كل حيّ، يجتمع أفرادها لمناقشة احتياجات حيّهم والسعي لتوفير هذه الاحتياجات من خلال قنواتها الرسمية.
وفي الختام ذكّر سماحة الشيخ الحضور بالجانب الاجتماعي في اثنتين من أهم العبادات الإسلامية، وهما: الصلاة والحج. حيث تمثّلان تظاهرة اجتماعية دينية عبادية، خصوصًا صلاة الجماعة منهما، حيث استفاضت في فضل حضورها والمواظبة عليها الروايات الكثيرة، وهي ظاهرة يشكو مجتمعنا من ضعف التوجّه إليها.
قال الله في كتابه الحكيم:
﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾[1] .
يرتكز البحث على ثلاث محاور:
طبيعة حياة الإنسان البشرية تفرض عليه نوعاً من التواصل مع المجتمع الذي يعيش فيه.
أولاً- لأن الإنسان يأنس بأبناء جنسه، ولا يستطيع أن يعيش من دونهم أو بعيداً عنهم. وقد ذكر بعض اللّغويين أن كلمة الإنسان مشتقة من الأنس على اعتبار أن الإنسان يأنس بمثله. ولو أنك وفّرت لإنسان كل ما يحتاجه في حياته وعزلته عن الناس بحيث يعيش بمفرده، فإن ذلك بالتأكيد لن يريحه، ولهذا فإن من أقسى أنواع العقوبات السجن الانفرادي.
فالإنسان بشكل طبيعي يميل إلى أبناء جنسه ويأنس معهم، وبالتالي لديه دافع طبيعي للتواصل مع الناس.
ثانياً- حاجات الإنسان الحياتية تفرض عليه أن يتواصل مع الآخرين، فهو لا يستطيع أن يوفّر حاجاته بنفسه، فقد يمرض فيحتاج إلى الطبيب، وهو بحاجة إلى العامل في البناء وغيره، وهو يشتري من السوق، وقد يعمل لدى أحد أو يعمل لديه أحد، وبالتالي طبيعة الحياة تجعل المصالح مشتركه والحاجات متداخلة بين الناس، وهذا يفرض على الانسان حالة من التواصل مع الناس.
ولكن هذا التواصل يبقى في مستواه الأدنى وفي حالته البسيطة الساذجة. إذ أن المجتمع يحتاج إلى نوع من التواصل بشكلٍ أرقى، وهذا يختلف من مجتمع إلى آخر.
وقد كنا نعيش تواصلاً مكثفاً في مجتمعنا حينما كانت الحياة على بساطتها، وكان الناس يعيشون في مناطق جغرافيه محدودة، وضمن اهتمامات محدودة بسيطة، لكننا الآن، ومع هذا التطور الذي حصل على واقع حياتنا، لم نعد نعيش درجة التواصل الاجتماعي السابقة. ولعلّ من أبرز الأسباب:
1- انتشار الناس جغرافياً، فما عاد الإنسان مقيماً في نفس الحي الذي نشأ فيه.
2- انشغالات الناس واهتماماتهم تشعبت في هذا العصر، بعكس ما كانت عليه حياتهم في الماضي، إذ أنهم بمجرد أ، يحلّ الظلام تنتهي جميع أعمالهم ويُصبح الوقت متاحاً للتواصل، وحتى في النهار فإن دائرة الاهتمامات محدودة. أما في زمننا المعاصر فقد انشغل الإنسان باهتمامات مختلفة، معرفيه وثقافيه وعمليه ومختلف أنواع الاهتمامات، ما قلل من حصة العلاقات الاجتماعية.
3- انخفاض الروح الاجتماعية عند أكثر الناس لصالح الاهتمام الفردي، حيث أصبح كل واحدٍ مشغولاً بنفسه، وفي بعض الأحيان ينشغل حتى عن عائلته وأسرته، وبعض الانشغالات الجديدة ليست بالمستوى الذي يدفع الإنسان للتقصير في حق أسرته من أجلها، كمتابعة بعض الأفلام على التلفاز، أو الانغماس في المتابعة على الإنترنت. وقد أثّر هذا حتى على علقة الآم مع أطفالها، إذ لم تعد العلاقة وثيقة وحميمة كما كانت عليه في الماضي. والأب كذلك أصبح بعيداً عن أسرته بسبب هذه الاهتمام ذات الطابع السلبي في حالات كثيرة.
هذه الاهتمامات التي بعضها صحيح وبعضها غير صحيح زادت عند الناس على حساب توجههم الاجتماعي، وإن كنا لازلنا نحتفظ بدرجة من التواصل، لكنه في الغالب تواصل مناسباتي وخاصة في مناسبة الزواج ومناسبة العزاء. وهذا التواصل شكلي، وما نحتاج إليه التفكير في التواصل ذي المضمون.
وأشير هنا إلى أبرز معالم التواصل الاجتماعي المطلوب:
الحياة بطبيعتها فيها ضغوط ومشاكل، خصوصاً في هذا العصر، فيحتاج الإنسان إلى من يتضامن معه نفسياً، وإلى من يقترب منه روحياً ليخفف عنه الآلام، ويرفع من معنوياته. ويحتاج الإنسان إلى من يستشيره ويأخذ برأيه. وتُشير روايات أهل البيت إلى هذا المضمون، وتُعبّر عنه بإدخال السرور إلى قلب الأخ المؤمن، عن رسول الله قال: «من لقي أخاه بما يسره سرّه الله يوم القيامة»[2] ، وعن الإمام جعفر الصادق : أنه قال: «من سرّ مسلما سره الله يوم القيامة»[3] ، وعنه قال: «لا يرى أحدكم إذا أدخل على مؤمن سروراً أنه عليه أدخله فقط، بل والله علينا، بل والله على رسول الله »[4] .
كل مجتمع يواجه مشاكل، كل قوم في منطقتهم لهم احتياجات، ولا يستطيع الإنسان بمفرده أن يحلّها ويعالجها، وإنما يحتاج أن يتعاون مع الآخرين. وكمثال تقريبي: تربية الأبناء في عصرنا الحاضر في الغالب تكون عملية شاقّة إذا أراد الأب أو الأم وحدهما القيام بهذا الدور، ولكن عندما تكون هناك برامج ولجان تخلق الأجواء الصالحة وتسعى من أجل بناء الجيل الجديد بناءً سليماً، فهذا يكون أكبر دعامة للأسرة على تربية أبنائهم. ويؤكد القرآن الكريم على هذا المضمون في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾[5] .
كل مجتمع لديه تطلعات وأهداف مشتركة، دينية أو سياسية أو اجتماعية. هذه الأهداف المشتركة تحتاج إلى تعاون وتواصل اجتماعي يحمل هذا المضمون، ويساعد المجتمع على تحقيق الأهداف والتطلعات المشتركة التي يبحث عنها ويسعى من أجلها. والإمام علي يُوصي بهذا المضمون في آخر وصيةٍ له، فيقول : «وعليكم بالتواصل والتباذل وإياكم والتدابر والتقاطع»[6] ، والتباذل هنا بمعنى البذل والعطاء.
المجتمعات المتقدمة تبحث عن الأطر التي من شأنها أن تُحقق تطلعاتها، ونحن كمجتمع متدين ينبغي أن يكون الأولى بنا السعي لذلك، لكي تكون في المجتمع أطر للتواصل الاجتماعي من شأنها أن تُحقق المضامين التي سبق الحديث عنها.
ومن المناسب هنا الإشارة إلى أنه في المملكة هناك توجه نحو بناء مؤسسات المجتمع المدني، ففي مجلس الشورى يتم التطرق لهذا الموضوع، وكذلك وزارة الشؤون الاجتماعية أصدرت كتاباً يضم (176) مشروعاً مقترحاً للتنمية الاجتماعية ترتبط بالأطفال والشباب والنساء وكبار السن، ولمختلف المجالات المعرفية والتربوية والاجتماعية تحت عنوان (دليل المشروعات الاجتماعية في لجان التنمية الاجتماعية) 1425هـ بإعداد نخبة من المختصين والمختصات.
والعالم اليوم يزخر بالأطر الجديدة والناجعة في هذا المجال، وقد نشرت (جريدة اليوم) في الثاني من ذي القعدة المنصرم (1427هـ، 23 نوفمبر 2006م) تقريراً عن إطارٍ جديد تشكّل في نيو دلهي بالهند قبل 6 سنوات، تحت عنوان (مشروع بها جيتاري) ويعني المشاركة. هذا الإطار تبنته مجموعة من المتقاعدين، وهدفه متابعة الأجهزة والدوائر الحكومية، ومراقبة سير الإدارات فيها، وتوجيه الملاحظات التي يرون أنه من الضروري الانتباه لها. في بداية الأمر لم يكن هناك تجاوب معهم، بل لم يكن يسمع لهم، ولكن فيما بعد أصبح معهم (14) ألف عضو، وحققوا خلال 6 سنوات ألف قصة نجاح، وفي عام 2005م خصصت الأمم المتحدة لهم جائزة باعتبارهم أفضل جماعه في العالم في خدمه النشاط الاجتماعي. حيث يعقد الأعضاء اجتماعات مع أعضاء البرلمان ومسؤلين كبار في الحكومة والوكالات المدنية لحل مشكلات الخدمات، ومناقشة الخطط المطروحة في موضوعات منها توفير إمدادات الكهرباء والمياه، وعزل المواد الصلبة في القمامة، وقضايا الصحة، وتمكين المرأة من ممارسة حقوقها، والاهتمام بالبيئة كتنمية الحدائق مما زاد المساحة الخضراء في نيودلهي عشرة اضعاف.
وهنا كلمة أوجّهها للمتقاعدين بأن يُفكّروا كما الآخرون، لماذا نجد في العالم مؤسسات للمتقاعدين، وفي مجتمعنا الكثير من المتقاعدين غاية ما يقومون به تكرار الحج وزيارة المراقد المقدّسة، وهذه الأمور مع أهميتها إلا أن خدمة المجتمع لا تقل ثواباً عنها إن لم يكون ثوابها أكبر.
ويتعجب الإنسان من طبيعة الأطر التي تُطرح في تلك المجتمعات، ومنها ما نشرته (جريدة الحياة) في يوم الخميس 9/2/1422هـ عن تأسيس نادي في (مدينة نيم) الفرنسية، اسمه: (نادي الأغبياء الفخورين بغبائهم)، ومن شروط الانضمام لهذا النادي أن يكون الشخص غبي ويفتخر بغبائه، ولديهم شعار: الغبي ذكي يجهل ذكاءه.
ونشرت (جريدة الحياة) أيضاً في 23/12/1423هـ خبراً عن مسيرة للدفاع عن كرامة القطط في روما، تجمع فيها نحو (2000) شخص.
في تراثنا الإسلامي هناك أوقاف كبيرة تهتم بمثل هذه القضايا، ومنها أن أحد التجّار أوقف قطعة نخلٍ من أجل إطعام القطط الجائعة عند مرقد الإمام علي بن موسى الرضا ، والسبب أنه عند زيارته للمرقد الشريف ترك قطعة لحم خارجاً وعند خروجه لم يجدها، سأل عنها، فأجيب بأن القطط الموجود في تلك المنطقة أخذتها[7] .
وما نخلص إليه من هذا الطرح، أنه في مجتمعنا ينبغي التفكير في أطر جديدة لمعالجة قضايا المجتمع، وحل مشاكله، ولا يكفي أن نجلس في المجالس وننتقد الأوضاع دون أن يكون لنا أي تحرك. ثم إن الدولة تتحمل جزءً كبيراً من معالجة المشاكل، والمجتمع بجميع فئاته يتحمل جزءً أيضاً، فليس هناك دولة تستطيع أن تُعالج كل المشاكل التي تواجهها ما لم يكن هناك تعاون من قبل المواطنين.
من هنا على الجميع تحمل المسؤولية في هذا الجانب بأن يتعاون المجتمع مع الأطر القائمة كالجمعيات الخيرية واللجان الاجتماعية، والأندية الرياضية، والمجلس البلدي، ولا يُبرر أحد بأنه لا وقت لديه لهذه الأمور، فنحن نجد أن الكثير من أبناء المجتمع يصرفون غالب أوقاتهم على قضايا هامشية كالسهر مع الشلل وذلك على حساب عوائلهم ومجتمعهم وأعمالهم أيضاً.
وأذكر هنا بعض النماذج لأطر جديدة:
ومن الأطر الجميلة (مجالس العائلة) والتي بدأت تتشكل وتقدم تجارب ناجحة على هذا الصعيد، وهذا الإطار مهم جداً لما فيه من تأصيل لصلة الرحم، والتي يؤكد عليها الإسلام تأكيداً بالغاً، وأحاديث رسول الله وأهل بيته الكرام تزخر بالعديد من النصوص التي تؤكد أهمية صلة الرحم، يقول رسول الله : «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم»[8] . وفي حديث آخر عنه أنه قال: «إن الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين، فيصيرها الله عز وجل ثلاثين سنة، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيصيرها الله عز وجل ثلاث سنين، ثم تلا ﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾»[9] .
وفي رواية أن الإمام الصادق التفت إلى أحد أصحابه وهو ميسّر وقال له: «يا ميسر لقد زيد في عمرك، فأي شيء، تعمل»؟ قال: كنت أجيراً وأنا غلام بخمسة دراهم، فكنت أجريها على خالي[10] . وفي رواية أخرى: «يا ميسر لقد حضر أجلك غير مرة كل ذلك يؤخرك الله لصلتك لقرابتك»[11] .
وسأل أحدهم الإمام الصادق وهو الجهم بن حميد قال: قلت لأبي عبد الله : تكون لي القرابة على غير أمري، ألهم علي حق؟ قال : «نعم حق الرحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقان: حق الرحم، وحق الإسلام[12] .
فصلة الرحم قضية مهمة جداً، واعتذار البعض بالانشغالات أمرٌ غير مقبول، وفيه ضياع للأجر والثواب الجزيل، وعدم استجابة لتعاليم الإسلام، ففي الحديث عن رسول الله أنه قال: أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء، إلى يوم القيامة، أن يصل الرحم وان كانت منه على مسيرة سنة[13].
فمجالس العائلة من الأطر التي ينبغي السعي باتجاهها، وليس بالضرورة أن يجتمع جميع أفراد العائلة، إذ يكفي تكوين لجنة تجتمع دورياً وهي تتفقد شؤون العائلة، ويُمكن عن طريق هذه اللجنة تجميع العائلة في فتراتٍ محددة.
تكونت في مجتمعنا الآن أحياء جديدة والساكنون فيها من مناطق مختلفة وفي بعض الأحيان لا يعرفون بعضهم، مع العلم أن الإسلام قد أوصى بالجار وأكد على حقوقه، يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾، و ﴿الْجُنُبِ﴾ تعني ليس من أقربائك، وبعض المفسرين قالوا: ليس على دينك. وبعض الروايات تُشير إلى أن حد الجوار (40) بيتاً من جميع الاتجاهات، ورد عن معاوية بن عمار أنه سأل الإمام الصادق : جعلت فداك ما حد الجار؟ قال: «أربعين داراً من كل جنب»[14] .
وفي الحديث عن رسول الله أنه قال: «والله لا يؤمن بالله، والله لا يؤمن بالله، والله لا يؤمن بالله» قالوا ومن يارسول الله؟ قال : «جار لا يأمن جاره بوائقه» قالوا: يا رسول الله وما البوائق؟ قال : «شره»[15] .
من هنا فإن وجود لجان لهذه الأحياء الجديدة أمرٌ في غاية الأهمية، وهذه اللجان من شأنها تفعيل النشاط الاجتماعي في هذه الأحياء، وطريق لتعارف أهل الحي مع بعضهم البعض. ووزارة التنمية الاجتماعية تعهدت بدعم هذه اللجان. ومن البرامج المطروحة: متابعة أمور ومصالح الحي، توثيق العلاقة بين ابناء الحي، إنشاء مكتبة عامة للحي، إنشاء نادي رياضي للنساء. وقد طبعت الوزارة كتاباً حول الموضوع بعنوان (مراكز الأحياء) 1427هـ / 2006م.
وخلاصة القول أن مجتمعنا بحاجة ماسّة لتجديد أطر التواصل الاجتماعي، فما عادت الأطر القديمة قادرة على تفعيل هذا الجانب بالشكل المطلوب.
العبادات الإسلامية فيها بعد اجتماعي واضح، ولعل أبرز هذه العبادات وضوحاً الحج، إذ أن المسلمين يحجون إلى بيت الله الحرام في زمن واحد، ويجتمعون على صعيد واحد.
ومن البرامج العبادية المهمة، ذات الطابع الاجتماعي: صلاة الجماعة، يقول تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[16] .
والتي يتّفق جميع المسلمين على أصل تشريعها في جميع الصلوات الواجبة، كما يتفقون على عدم صحة صلاة الجمعة والعيدين ـ في حال وجوب صلاة العيدين ـ إلاّ جماعة.
ووقع الخلاف بين الفقهاء في حكم صلاة الجماعة في الفرائض اليومية، والآراء في حكمها ثلاثة:
الأول: واجبة فرض عين: وهو رأي المذهب الحنبلي وبعض الأحناف[17] .
الثاني: واجبة فرض كفاية: وهو رأي الشافعية[18] .
الثالث: سنّة مؤكّدة:وهو رأي الجعفرية[19] ، والمالكية وبعض فقهاء الحنفية[20] .
هذا وقد وردت أحاديث وروايات كثيرة تؤكّد على أهمية صلاة الجماعة، ومنها ما جاء عن رسول الله في حديث ذكرته المصادر من الفريقين: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة»[21] أوكما في صحيح مسلم «صلاةٌ مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده»[22] .
و ورد عن الإمام الباقر أنه قال: «من ترك الجماعة رغبة عنها وعن جماعة المسلمين من غير علّة فلا صلاة له»[23] .
وكذلك ورد عن الإمام الصادق: «مَنْ لم يصلِّ جماعة فلا صلاة له بين المسلمين، لأن رسول الله قال: لا صلاة لمن لم يصلَِّ في المسجد مع المسلمين إلا من علة»[24] .
وقد سأل زرارة الإمام الصادق: عن ما يروي الناس أن الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة، فقال: «نعم، صدقوا»[25] .
وعنه : «إن الله يستحي من عبده إذا صلّى في جماعة ثم سأله حاجته أن ينصرف حتى يقضيها»[26] .
وفي هذا المجال ينقل الشيخ الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين): روي أن السلف كانوا يعزّون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، ويعزون أنفسهم سبعاً إذا فاتتهم الجماعة[27] .
وقد تحدث الفقيه المعروف السيد محمد كاظم اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى عن الترغيب في صلاة الجماعة بشكل تفصيلي ومن عباراته ما يلي: (هي من المستحبات الأكيدة في جميع الفرائض، خصوصاً اليومية منها وخصوصاً في الأدائية، ولا سيّما في الصبح والعشاءين، وخصوصاً لجيران المسجد أومن يسمع النداء، وقد ورد في فضلها وذم تاركها من ضروب التأكيدات ما كاد يلحقها بالواجبات) إلى أن قال رحمة الله (وكلما كان المأمومون أكثر كان الأجر أزيد، ولا يجوز تركها رغبة عنها أو استخفافاً بها... فمقتضى الإيمان عدم الترك من غير عذر سيما مع الاستمرار عليه، فإنه كما ورد لا يمنع الشيطان من شيء من العبادات منعها)[28] .
لصلاة الجماعة فوائد جمّة في حياة المسلمين، نذكر منها:
1. تعزيز الحالة الدينية
حينما يحضر المسلمون المسجد ويصلون مع بعضهم البعض تتعزز الحالة الدينية في نفس كل واحد منهم وتتقوّى، فمن طبيعة الإنسان أنه عندما يرى كثرة من الناس تمارس عملاً معيناً يعطيه ذلك دافعاً للقيام بهذا العمل الذي يجد الآخرين يقبلون عليه، فالعمل الجمعي له وقع وقيمة في النفوس، وبما أن صلاة الجماعة هي في الأصل أداء للواجب والتكليف الشرعي ومظهر من مظاهر التديّن، فتعزيزها تعزيز للحالة الدينية الاجتماعية. وهذا هو ما أشار إليه الإمام علي الرضا بقوله: «إنما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلا ظاهرًا مكشوفًا مشهورًا، لأن في إظهاره حجّة على أهل الشرق والغرب»[29] .
2. تأكيد التداخل بين اتصال العبد بالله وصلته بالناس
فالمصلي عندما يأتي للجماعة في المسجد ينوي الصلاة مخلصًا لله سبحانه، ولكنه يؤديها مع جماعة المؤمنين، وهذا يؤكّد ـ وبشكل جليّ ـ أن للدين بعدين، البعد العبادي المتعلّق بالصلة بالله تعالى، والبعد الاجتماعي المتعلّق بعمق العلاقة بين الفرد وبني مجتمعه.
3. توثيق الروابط الاجتماعية
ففي صلاة الجماعة يلتقي المؤمنون ويتعرف بعضهم على بعض، وتكون فرصة للتلاقي اليومي وتبادل الأحاديث والأوضاع الاجتماعية، كما يعيش المصلون حينما يقفون خلف إمام واحد وبجانب بعضهم بعضاً حالة من المساواة وانعدام الطبقية بين مختلف فئاتهم وشرائحهم، وهو أمر يعزز حالة التوادّ والمحبة بين الناس.
4. التربية على النظام
صلاة الجماعة تربي الإنسان على النظام والانضباط الجماعي، فإذا واظب المصلي على الجماعة، فسينضبط في أداء الصلاة في وقتها، وعلى العكس من ذلك الصلاة فرادى، حيث لا يكون هناك أي مُلزم لأدائها في وقتها.
وفي الجماعة تعويد على النظام، حيث يكبر المأمومون بعد الإمام ويؤدون جميع أفعال الصلاة بعده، إلى أن تنتهي الصلاة ويقفون صفوفا منتظمة متراصة.
5. التوجيه والمعرفة الدينية
توفر صلاة الجماعة فرصة جيّدة للتوجيه والمعرفة الدينية، حيث يستفيد المصلون من حضورهم للصلاة باستماع الخطب والمواعظ الدينية وعرض أسئلتهم واستفتاءاتهم الدينية على إمام الجماعة إذا كان من أهل المعرفة والعلم.
وقد يتساءل البعض: ما دامت لصلاة الجماعة هذه الفوائد والآثار الطيبة على المجتمع، إضافة إلى ما ورد من النصوص الدينية في الحث عليها وتبيين عظيم ثوابها عند الله تعالى، فلماذا نجد العزوف عند الكثيرين من حضورها، حيث لا يمثل الحضور لصلاة الجماعة إلا نسبة قليلة محدودة من المجتمع؟
لابدّ أن هناك أسباباً لعل من أبرزها ما يلي:
الأول: ضعف الاهتمام الديني:
فمن يهتم بتعاليم الدين لا يترك صلاة الجماعة، إذا كان عارفاً بقيمتها وفضلها عند الله، ومن يرغب في ثواب الله تعالى، لا يتأخر عن صلاة الجماعة، مع ما ورد فيها من الأجر العظيم والثواب الكبير.
لكن يبدو أن الكثيرين يفتقدون رغبة الإقبال على هذه الشعيرة العظيمة، بسبب ضعف الاهتمام الديني في نفوسهم.
الثاني: ضعف التشجيع:
حيث لا نجد في المجتمع حثاً وتشجيعاً كافياً على أداء صلاة الجماعة، فالكتابات حولها قليلة، والخطباء نادراً ما يتعرضون لفضل صلاة الجماعة ولحث الناس على المواظبة عليها.
بل إن بعض الخطباء وطلاب العلوم الدينية قلّ أن يرى الناس حضورهم في صلاة الجماعة في ماعدا تصديهم للإمامة، وكأن طالب العلم لا صلة له بهذه الشعيرة إلا إذا كان إماماً وليس مأموما.
الثالث: الكسل
إن قسماً من الناس يستثقل الذهاب إلى صلاة الجماعة، لأنها تأخذ جزءاً من وقته، وتصرف شيئاً من جهده، فيرى صلاته منفرداً في البيت أسهل وأيسر، مع أن الوقت والجهد اللذين تستلزمهما صلاة الجماعة محدود ضئيل، وهو يصرف أضعاف ذلك الوقت والجهد على سائر شؤون حياته من الكماليات والرفاهيات.
يحتاج مجتمعنا إلى حملة مكثفة من التوعية والتوجيه لحث الناس على صلاة الجماعة، بنشر الكتب والمقالات التي تتناول فضلها وأهميتها، وينبغي أن تفتح المنتديات على مواقع الانترنت باب النقاش والبحث حول أسباب العزوف عن صلاة الجماعة في المجتمع، وطرق التشجيع على المواظبة عليها، والعلماء والخطباء عليهم أن يكرروا الدعوة إليها والحث على الاهتمام بهذه الشعيرة العظيمة.
ويمكن الاستفادة من الجوال، بإرسال رسائل قصيرة إلى الأصدقاء والأقرباء، لدعوتهم لصلاة الجماعة.
ولو تشكلت في كل مسجد لجنة للدعاية والإعلام لصلاة الجماعة، وابتكار الوسائل والأساليب المؤثرة في جذب الناس لها، فإنها ستحقق نتائج جيدة.
وعلى كل فرد منا أن يحث ويشجع أقرباءه وأصدقاءه، ولا يسأم من دعوتهم لصلاة الجماعة، فإن الدال على الخير كفاعلة. وذلك مصداق من مصاديق الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف.
وأما شرط العدالة الذي يشترطه الإمامية في إمام الجماعة فليس بمستوى التعقيد الموجود، وهي لا تعني العصمة، بل تعني أن لا يفعل الإمام المحرمات ويترك الواجبات، يقول السيد اليزدي: العدالة ملكة الاجتناب عن الكبائر وعن الإصرار على الصغائر، وعن منافيات المروّة الدالة على عدم مبالاة مرتكبها بالدين، ويكفي حسن الظاهر الكاشف ظنا عن تلك الملكة[30].
وقد ترتفع العدالة عن إمام الجماعة بفعل المحرّم وتعود إليه بالتوبة، يقول السيد السيستاني: ترتفع العدالة بمجرد وقوع المعصية وتعود بالتوبة والندم[31] .
ويكفي في إثبات العدالة للإمام شهادة عادلين، قال السيد اليزدي في العروة الوثقى ووافقه السيد السيستاني ما يلي: بل يكفي الاطمئنان إذا حصل من شهادة عدل واحد، وكذلك إذا حصل من اقتداء عدلين به، أو من اقتداء جماعة مجهولين به[32] ، وهناك بعض المذاهب الإسلامية لا يرون شرط العدالة.
وأسوأ ما في الأمر أن ترتبط صلاة الجماعة في مجتمعنا بالانتماءات وبمراجع التقليد والتي لا دخل لها في صلاة الجماعة، ولا تؤثر على إمام الجماعة لا من قريب ولا من بعيد. والقصص في هذا الجانب كثيرة: وقد كنا في مجلس المرجع الراحل الإمام الشيرازي (رحمه الله) ووجّه إليه سؤال من الحاضرين قالوا: سيدنا في مجتمعنا إمام مسجد عادل، ولا نجد عليه مأخذا سوى أنه يُعلن أن تقليد سماحتكم غير جائز، فهل نُصلّي خلفه؟ السيد أجابهم: إذا كان ما يتحدث به عن قناعة، وهو يُبّر بذلك عن رأيه، فهذا لا يخدش عدالته، فلا مانع من الصلاة خلفه.
ورائع جداً موقف الفقيه المحدّث الشيخ يوسف البحراني صاحب (الحدائق الناضرة) توفي سنة 1186هـ، والذي كان على خلاف شديد مع العلامة الشيخ محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني، في موضوع الأصوليين والإخباريين، فالشيخ البحراني زعيم مدرسة المحدثين الإخباريين، والوحيد البهبهاني، زعيم المدرسة الأصولية، وكان يردّ آراء الشيخ يوسف بعنف، ووصل به الأمر إلى أن أفتى ببطلان الصلاة خلف الشيخ يوسف البحراني، لكن الشيخ يوسف أفتى بصحة الصلاة خلف الوحيد[33] . والعجيب أنه في وصيّته أوصى بأن الذي يُصلي خلف جنازته هو الشيخ البهبهاني.
وفي الأخير تجدر بنا الإشارة إلى أن صلاة الجماعة لا تقتصر على أن يكون إمام الجماعة من مذهبك، حيث أفتى فقهاؤنا بأنك إذا كنت في مكان أقيمت فيه صلاة الجماعة لأخوانك المسلمين، وإن لم يكونوا على مذهبك فعليك بالمشاركة معهم في صلاة الجماعة حيث تقرأ لنفسك الفاتحة والسورة، وأي حكم يختلف عنهم كالتكتف والسجود على ما لا يصح السجود عليه في المذهب لك أن تتركه إذا كان في التزامه حرج، وصلاتك صحيحة ومجزية، من هنا لا ينبغي الخروج من المسجد الحرام، أو المسجد النبوي وقت صلاة الجماعة، كما لا ينبغي لمن يعمل أو يتواجد في أي مكان أن ينفرد بصلاته عند أقامة الجماعة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.