عنيزة شموخ وتسامح
قد لا تلحظ في محافظة عنيزة «بمنطقة القصيم» عمارات شاهقة، ولا تشاهد أبراجاً، عالية ولا تحدثك هذه المحافظة عن جسور وأنفاق تزين داخلها، لكنك ستلحظ شموخاً يقل نظيره في النفوس، وتسامحاً رائعاً تحكيه سجية الناس بابتسامتهم وقسمات وجوههم، وانطلاقهم العفوي معك في الحديث وكأن المعرفة بينك وبينهم دهرية وليست وليدة للحظة اللقاء الآنية.
كل الصور والتصورات التي تملأ ذاكرتك وكل الأوهام التي تسيطر على مخيلتك، وكل الضجيج الذي قد يترك أثره على نفسك، كل ذلك يتعرض لزلزال شديد يقلب عالي تلك الذاكرة سافلها، فيتبخر كل شيء لتثبت حقيقة واحدة وهي انك أمام مجتمع شامخ ومتسامح.
شامخ بما يملك من العلم والمعرفة والكفاءات والشهادات العالية، مما ساعده على أن يتبوأ المناصب المتقدمة في إدارة البلاد، فحضورهم مميز في مجلس الشورى، ورئاستهم للكثير من الدوائر والمؤسسات الرئيسية في الدولة أمر لا يخفونه بل يفتخرون به، ويعتبرونه حصاداً طبيعياً للكفاءة التي سهروا وتعبوا وبذلوا من اجل نيلها بجدارة.
وهو مجتمع شامخ لما فيه من الثراء والغنى والتجارة وقد كتب الدكتور عبد العزيز بن صالح الشبل ترجمة بعض ما جاء في «يوميات شارلز داوتي في عنيزة» 1295هـ يقول «لقد تناقش شارلز مع صديقه عبد الله الخنيني عن مستوى ثراء التجار في عنيزة فقال له: إن أغنى شخص تقدر ثروته بأربعة وعشرين ألف جنيه انجليزي «24.000» يقول شارلز داوتي إذا أضفنا إلى ذلك العائد السنوي لهذا المبلغ وهو ضربه في 12 في المائة فان هذا الرقم ولو انه تقريبي لكنه يعادل عشر مرات ثروة تاجر في حايل».
إذا صدق ذلك في عام 1295هـ ودون، فان أغلب الأسماء اللامعة في مملكتنا اليوم، للتجار وأصحاب المصانع الكبيرة، غاية في الوضوح والانتماء إلى تلك المحافظة الصغيرة.
أما التسامح في محافظة عنيزة، فيتعبك توصيفه والحديث عنه، لن أكتب هنا ما سمعته من أحاديث أهالي عنيزة عن ثقافة التسامح التي يفتخرون بها ويحدثونك عنها كسمة من سماتهم، لكني سأتحدث عن لقطات عايشتها ولاحظتها بنفسي وأنا ألبي دعوة قدمها لي محافظ محافظة عنيزة المهندس مساعد بن يحيى السليم لحضور فعاليات مهرجان عنيزة الأول للثقافة والتراث في مركز صالح بن صالح الاجتماعي.
يتعامل أهل عنيزة مع القادم إليهم تحت عنوان واحد لا يزاحمه أي عنوان آخر وهو عنوان الضيف، الذي له في أعماقهم ما يجدّره ويؤكده من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، إلى التربية التي يؤكدها الآباء العرب في نفوس أبنائهم والتي تقوم على الكرم وحسن الضيافة، وبشاشة الاستقبال والإطراء والترحيب.
إذا أسعدك الحظ أن تكون ضيفا على أهل عنيزة فستعرف الفرق بين الدعوة التي يقدمها لك شخص كي تزوره في منزله من اجل إسقاط واجب الضيافة وبين الدعوة الملحة والمتواصلة التي تخجلك من الكرم والرغبة الأكيدة في الاحترام والتقدير والتي تلحظها في أهل تلك المحافظة، وليعلم القارئ إنني اكتب ما لاحظته وشاهدته دون زيادة أو مجاملة.
وستلمس كذلك عدم الرغبة عندهم في المفاصلة والتقاطع، انهم يحبون الحديث في المشتركات، ويجيدون التسامي في نقاشاتهم إلى ما كبر وارتقى من الأمور، ليبتعدوا كل البعد عن خصائص الضيف محتفظين له بحريته، ومتسامرين معه فيما يعم نفعه، وما يفيد تناوله من أمور إنسانية وقضايا مشتركة تعود بالخير والصلاح على أبناء المجتمع كافة.
وهم يرجعون السبب في ذلك إلى طبيعة انفتاحية تلقائية تمتاز بها هذه المحافظة، ويمثلون على ذلك بالتدخين الذي كان قبل خمسين سنة يعتبر من الكبائر في منطقة القصيم، لكنه في محافظة عنيزة يعتبر أمراً عادياً.
نعم يشير الكثير منهم الى أن احد أهم الأسباب في ثقافة الانفتاح والتسامح هو السفر والاستقرار في الكثير من الدول كالعراق والشام ومصر والهند، إما بغرض التجارة أو الدراسة، والى الآن هناك عوائل مستقرة في الشام والعراق ومصر وأصولها تعود إلى هذه المحافظة.
في محافظة عنيزة كذلك ستلاحظ المجمعات الأهلية الخيرية التي يتسابق في إقامتها التجار والأثرياء من اجل سد حاجات المجتمع ورفع مستوى فقرائه والمحتاجين فيه، وهذا تصديق لما كتبه معالي الشيخ الأستاذ عبدالله العلي النعيم رئيس مجلس إدارة الجمعية الخيرية الصالحية بعنيزة، في مشاركته في كتاب«ملامح العمل الاجتماعي في عنيزة».
يقول: «سُئل واحد من أهل عنيزة عادة ما يكون جنوب كل مدينة أقل تقدما من شمالها، فما هو الحال في جنوب عنيزة؟ فرد قائلاً: عنيزة ليس لها جنوب».
لقد قرأت ما كتبه الأستاذ عبدالله إبراهيم العقيد في صحيفة الرياض 17/7/2004م تحت عنوان «التماهي اللطيف بين عنيزة والقطيف» اظهر فيه انطباعاته حين زارها وهو ابن عنيزة، فأحببت أن أشاطره بكتابة بعض انطباعاتي بعد أن زرت عنيزة، تلك المحافظة التي يفخر بها أهلها ويزينون شوارعها ببيت شعري جميل يقول:
لك ياعنيـزة فـي القلـوب محبـة أصفى من الماء الزلال وأعذب