كلمة سماحة الشيخ الصفار في مهرجان السيدة زينب بالمركز الثقافي العربي بالمزة – دمشق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين
قال الله العظيم في كتابه الحكيم.. بسم الله الرحمن الرحيم ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾ صدق الله العلي العظيم.
بورك للشام وبورك للأمة والإنسانية جمعاء ميلاد هذه البطلة، المرأة العظيمة، عقيلة الهاشميين.. ميلاد سيدتنا زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام
كل امة من الأمم تهتم بتاريخها وتحتفي برموز حضارتها ولكن الفارق بين الأمم الواعية والأمم المتخلفة هو: إن الأمم الواعية تقرأ تاريخها للاعتبار والاستفادة ولكن الأمم المتخلفة كثيرا ما تقرا التاريخ من اجل الانشغال عن واقعها المعاصر، تتناسى واقعها بالحديث عن أمجادها الغابرة وتتحدث عن أحداث التاريخ ورموز التاريخ بشكل يثير الفتنة بين شرائحها وفئاتها، قراءة التاريخ وإحياء سير العظماء رسم القرآن الكريم منهجه بقوله تعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة﴾
إذ يجب أن يُقرا التاريخ وان تُقرا حياة السابقين من اجل اخذ العبرة.. ولكن من الذي يقوم بهذا الدور؟ _ من يقرا التاريخ لأخذ العبرة؟
هم أولو الألباب، ولكن حينما تُجمِّد امة لبها (عقلها) وتسودها حالة العاطفة والانفعال فإنها ستقرأ التاريخ وقصصه بطريقة تثير الفتنة والانشغال عن الواقع المعاش..
التاريخ مصدر غني للتجربة.. تاريخ كل امة هو الذي يحدد هويتها ويحدد معالم مسيرتها، فإذا وعت تاريخها ودرسته دراسة صحيحة استطاعت أن تحافظ على سيادتها واستقلالها، لكن بعض الأمم تنشغل بالتاريخ عن الواقع المعاش وخاصة حينما تعيش في مستنقع التخلف فإنها تتسلى بالتغني بأمجاد الماضي.. كانت حضارتنا.. وكان عظماؤنا.. واكتشف علماؤنا في الماضي..... لكن ماذا عن الحاضر؟
روي عن رسول الله انه قال لبني عبد المطلب: ايتوني بأعمالكم لا بأحسابكم وأنسابكم..
الأمم تفاخر بواقعها وليس بمجرد أمجاد تاريخها...
ومن ناحية أخرى يجب أن نقرأ التاريخ بطريقة تنشر المحبة في صفوف أبناء الوطن وأبناء الأمة وليس بطريقة تثار بها الفتنة والخلافات.. حينما نتجه إلى سير عظماء الأمة وقادتها، فان علينا أن نلتقي على قيم الخير في سيرهم وحياتهم وان ننشر من خلال السير العطرة أجواء التسامح والوئام والمحبة..
من هنا ينبغي أن نقدر ما يقوم به الأخ الدكتور عصام عباس حفظه الله، من جهد كبير لإحياء ذكرى ميلاد السيدة زينب عليها السلام بهذه الطريقة المنبثقة من منهج القرآن ــ لقد كان في قصصهم عبرة ــ
هذا المهرجان، مهرجان لأخذ العبر والقيم وما يفيدنا في واقعنا وحياتنا من سيرة وحياة هذه المرأة العظيمة.
كما انه بتنوع الأطياف والجهات المشاركة في هذا المهرجان يصبح إحياء هذه الذكرى العطرة ساحة لقاء، وفرصة تعارف وانفتاح، ومنطلق تأكيد على الوحدة والتعاون.
واسمحوا لي هنا أن أشير إلى نقاط سريعة حول ما يمكن أن نستفيده من العبر من سيرة السيدة زينب وهي كثيرة.. لكني أشير إلى ثلاثة نقاط:
نحن حينما نقرا شخصية السيدة زينب وسيرتها تتجلى لنا عظمتها، ولكن هل يكفي أن نتغنى بأمجاد امرأة عظيمة كانت تعيش في تاريخنا أم أن علينا أن نتساءل هل المرأة الآن في مجتمعنا هي امرأة عظيمة أم لا؟
هل المرأة المعاصرة الآن تسير في طريق العظمة؟ تسير على نهج السيدة زينب في تحمل مسؤوليتها تجاه المبادئ والقيم والمجتمع؟
إننا حين نقرا سيرة زينب وشخصيتها علينا أن نستهدف هذا الأمر، كيف نرتقي بالمرأة المعاصرة لكي تكون في ذرى المجد والعظمة؟
في المجتمعات الأخرى شقّت المرأة طريقها ومع كل ملاحظاتنا على بعض الجوانب مما تعيشه تلك المجتمعات الغربية لكننا لا نستطيع إلا أن نكبر هذا الاتجاه في إتاحة الفرصة للمرأة حتى تشارك شقيقها الرجل في صناعة الحياة وبناء الوطن وقيادة التنمية، هذه الفرصة المتاحة للمرأة في المجتمعات الغربية صحيح انه تكتنفها بعض والشوائب مما نتحفظ عليه في المستوى الأخلاقي لكننا نُكبر ونقدر هذا الانجاز الذي جعل المرأة تأخذ موقعها إلى جانب الرجل في قيادة الحياة وصناعة التنمية..
وسيرة السيدة زينب تذكرنا بهذه الحقيقة، فثورة كربلاء الحسينية، هذا الحدث الهام في تاريخ الأمة الإسلامية لم يصنعه الرجل وحده بل كانت المرأة إلى جنبه فكانت زينب إلى جانب الإمام الحسين في صناعة هذه الثورة وكانت شريكته في ثورته..
إن دور السيدة زينب قد يزيد على دور الإمام الحسين كما قال احد علمائنا الأعلام وخاصة في مساحة الزمن فان زينب قد رافقت الحسين، ولكن بعد ظهر العاشر من المحرم انتهت مسؤولية الإمام الحسين (ع ) بشهادته ومصرعه واستمرت السيدة زينب في تحمل المسؤولية ومواصلة المشوار...
وهذا يعني أنه يجب أن تكون المرأة جنبا إلى جنب مع الرجل بشكل دائم في صناعة التاريخ وفي قيادة تنمية المجتمع.
ترتبط بالتكوين النفسي والتربوي للسيدة زينب والذي يجب أن يكون مصدر عبرة وتجربة لنا..
نحن نعيش في عصر أصبح الإنسان فيه شيئا من الأشياء يُتعامل معه تعاملا ماديا، وحتى في أحضان الأسرة التي هي مكان تكوين مشاعر الإنسان وتنمية وجدانه، هذه الأسرة أصبحت تعاني من الجفاف والجفاء، فالإنسان المعاصر الآن ينشا في أسرة لا تهتم به اهتماما كافيا فالأب مشغول والأم منشغلة والكل مهتم بذاته ونفسه، الحياة أصبحت خاضعة للنوازع المادية والأنانية والشهوانية عند الأب وعند إلام في الغالب وتُرك الأبناء حتى تقومهم أفلام الكارتون والمسلسلات، وحتى تكوّن وجدانهم وسائل الإعلام المختلفة.. هذا جفاء وهذا هو الذي انشأ إنسانا تكاد تنعدم الرحمة في قلبه.
ما تعاني منه البشرية الآن من عنف وعنف مضاد، وخاصة ما نعانيه في بعض بلداننا من الإرهاب الداخلي، والإرهاب الدولي الذي يريد أن يُخضعنا لهيمنته وهو الأكثر عُنفا وقسوة..
ماذا يصنع المحتل الأجنبي في بلداننا كفلسطين والعراق وأفغانستان..
المسالة ليست مسالة قرارات سياسية فقط وإنما هي تنشئة نعيشها مع جيل من البشر ينشا نشأة جافة لا يُنمّى فيها الوجدان والمشاعر الإنسانية.. وهنا ما أحوجنا إلى حياة السيدة زينب(عه )، هذه المرأة التي صنعت شخصيتها من خلال تربية إنسانية دافئة في أعلى مستوى، ذلك لأنها ربيبة رسول الله وتربت في أحضان فاطمة وعلي وعاشت مع الحسنين سيدي شباب أهل الجنة فتكونت شخصيتها بشكل متكامل، تربت بدفء وحنان جدها رسول الله حيث عاشت خمس سنوات في ظل جدها رسول الله إذ فتحت قلبها على أفاق الرحمة والمحبة ثم توالت هذه الأجواء في ظل أمها الزهراء وتحت رعاية أبيها علي الذي اهتم بعزتها وإجلالها فعندما تريد أن تخرج لزيارة قبر جدها رسول الله يخرج معها أبوها وإخوتها لأجل احترام ومهابة هذه المرأة.. ما أحوج نسائنا وأولادنا إلى أن يشعروا منا بالعطف والحنان والإكرام والاحترام.
الحديث عن السيدة زينب أفق واسع رحيب لما تعنيه سيرة السيدة زينب من ممانعة وصمود، فان كون العدو يمتلك القوة وكونه مدججا بالسلاح وقاسيا في عدوانه، كل ذلك لا يبرر لك أن ترفع رايات الاستسلام والهزيمة وإنما عليك أن تُشهر أمام العدو أمضى وأقوى سلاح وهو سلاح الإرادة والصمود وان تكون متمنعا في وجه بطش العدو مهما تمادى في البطش والعدوان، فعليك إن كنت زينبيا إن كنت إنسانا تعرف دورك في هذه الحياة عليك أن تتمسك بحقوقك وإرادتك.
الجيش الأموي آنذاك كان مدججا بالقوة والسلاح، وزينب بعد ظهر عاشوراء أصبحت أسيرة وقد قتل كل حماتها ورجالات أسرتها وبقيت مع جمع من الصبية والأيتام والنساء الثكالى، لكن عزيمتها لم تضعف ولم تشعر بأي وهن.. بالعكس من تلك اللحظة تفجرت إرادة السيدة زينب وتجلى صمودها وتجلت بسالتها.. لو رمقناها بعيون قلوبنا وهي تسير سير الواثق المطمئن بين صفين من الجند يشهرون سيوفهم ورماحهم مسيرة واثقة حتى تصل إلى جسد أخيها الحسين ، وأمام الجسد الممزق وفي ذلك الجو المؤلم والحزين وقفت السيدة زينب على الجسد العزيز على قلبها ورفيقها، ورمقت الجيش فقالت دون أن تبكي أو تشق الجيب أو تتأوه بل رفعت رأسها للسماء قائلة (( اللهم تقبل منا هذا القربان)).
لم تعتبر ما حصل نكبة أو مصيبة أو فادحة وإنما اعتبرته كرامة واعتبرت الحسين قربانا في سبيل الله، وقالت أيضا (( اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى)) هذا يعني أن هذه ليست آخر تضحية تقدمها السيدة زينب بل هي مستعدة لتقديم المزيد من التضحيات في سبيل الله عز وجل، في سبيل الأمة، في سبيل القيم.
وحينما أخذت إلى الكوفة والشام وأحضرت في مجلس الحاكم الذي أعلن العيد والشماتة، يلتفت إليها ابن زياد قائلا – كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين؟
فأجابته بلغة الواثق المطمئن الذي لا يمكن أن تسلك الهزيمة والرعب إلى قلبه:(( والله ما رأيت إلا جميلا ))!
هذه زينب التي علمت المقاومين أن ينظروا إلى آثار العدوان في لبنان والخراب الدمار الذي فعله الصهاينة نظرة الجمال فمنطقهم كان منطقا زينبيا – والله ما حصل في الضاحية والجنوب إلا جميلا بمعنى أنه أظهر جمال التضحية وفضح وحشية العدو – ولاغرو فهم أبناء زينب وهم استمرار لمسيرة الحسين وزينب.
ونرى مثل هذا الصمود في فلسطين والعراق وبلاد الشام وما حولها.. الشام التي باركها الله تعالى بهذه المقدسات العظيمة وباركها الله بمقام عظيم هو مقام السيدة زينب الذي يستلهم الناس منه صمودهم وبسالتهم.
بارك الله الشام وأهل الشام ولمن حول الشام نسال الله أن يبارك لهم وان يبارك لجميع العرب والمسلمين هذه المناسبة العطرة.
ومع تجديد الشكر للدكتور عصام عباس وللمتجاوبين معه والمؤازرين له في هذا المهرجان الولائي..
وشكرا لإصغائكم... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.