هل التدين سمة للعابسين والمتصارعين؟
المتدينون هم أكثر الناس دفئاً بعقيدتهم، وأخلصهم في العمل من أجلها، وأشدهم التزاماً بأوامرها ونواهيها.
هم في الغالب مواظبون على مستحباتها، بعيدون عن مكروهاتها، يبحثون على ثواب الله ورضاه، وإن أوجب لهم مشقة أو تعباً، كما أنهم يتميزون بالوقار والهدوء والأمانة والخلق الكريم.
البسمة على محياهم «فالمؤمن هشٌ بش» والطيب سمة قلوبهم، والتجاوز عن أخطاء الآخرين ديدنهم، هؤلاء هم المتدينون والمؤمنون كما أشارت لهم الآيات وتحدثت عنهم بإسهاب الروايات.
بيد أن الملاحظ «في بعض الأحيان» أن الإنسان أكثر انفتاحاً ووداً وقبولاً للآخرين قبل أن يلتصق بدينه، فهو يستطيع العيش والتآلف مع جميع الناس بطبيعته وسجيته وعفويته وإنسانيته، ويأنس أكثر حين يشتركون معه في قاسم آخر غير قاسم الإنسانية كما لو كانوا من المسلمين بمختلف توجهاتهم المذهبية، والأمر كذلك لو اقتربوا منه «بقاسم جديد» كأن يتلاقون معه مذهبياً إذ حينها تكون توجهاتهم واختلافات مشاربهم أموراً لا تعني بالنسبة إليه موقف عداء من هذا، والتصاق بذاك، بل كلهم سواسية كأسنان المشط في تعاطيه وتعامله معهم.
ينقل لي بعض الأصدقاء عن زملاء لهم يخالطونهم بكل محبة واحترام في العمل والمجالس والملتقيات العامة، وفجأة ينقلبون في تعاملهم ومواقفهم وبسمتهم وبشاشتهم، وحين يتقصون السبب وراء ذلك، يكتشفون أنه تغير يسميه المنقلبون دينياً والتزاماً هداهم الله له.
وهنا تكمن الحيرة فإذا كان الدين بحقيقته وجوهره يفرض سلوكاً راقياً على متبعه،ويملي على صاحبه التزاماً فاضلاً من شأنه تهذيب خلقه. فكيف يكون الإنسان قبل تدينه والتزامه بعقيدته أكثر رحمة ومحبة للناس، وكيف يكون أشد احتراماً للجميع، بينما يصبح حين التدين والالتزام حالة أخرى مغايرة ومعاكسة للحالة السابقة؟
كيف يتبدل الاحترام؟ وتتغير المحبة؟ ويبدأ بالتفريق بين توجهه والتوجهات الأخرى ضمن مجتمعه الخاص والعام؟ مع أن «العقيدة الدينية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحصّن الإنسان بالتقوى ومخافة الله، وتنمي لديه الشعور بمسئوليته الذاتية تجاه نفسه وتجاه آرائه عن أفعاله كافة، فيصبح هو الطرف والحكم فيما يقول ويفعل أي يصبح لديه الضمير الإنساني والاجتماعي الذي يحاسب على القول والفعل، الذي يأمر بالحسنى وينهى عن المنكر، يوجهه نحو الخير ويلجم عن الشر متطلعاً نحو إرضاء الخالق وإرضاء النفس بحيث تكون هذه النفس دائماً آمنة مطمئنة على نفسها من حساب الدنيا والآخرة» كما جاء في كتاب «الأمن الاجتماعي، مقوماته تقنياته،ارتباطه بالتربية المدنية» لمصطفى العوجي.
فهل الالتزام والتدين هما السبب في ذلك؟
قد يكون الأمر مختلطاً فيعتقد الإنسان أن الالتزام هو السبب، وأن التدين هو الممزق والمفتت للمجتمعات، والمفرق بين القلوب المتحابة، والداعي للكثير من الصراعات التي تحدث في أوساط المتدينين، ويعود هذا التصور لأسباب عدة منها:
ا- الواقع الذي رسمه المتدينون عن أنفسهم، فالصراعات محتدمة بينهم في كل الساحات، وعلى أمور لا تساوي مكانتهم وتدينهم واحترام الناس لهم، صراع على مسجد وحسينية ولقب وتقليد إلى آخر الآفاق المغلقة التي تتصاغر كلما تصاغر المفتعلون لها وإن كبرت مسمياتهم.
من جهة أخرى هناك الأسوار العالية الارتفاع التي ضربوها بينهم، وكأن كل توجهه فكري أو سياسي أو مرجعي هو كيان لا علاقة لها بالكيانات الأخرى من أهل وطنه وديانته، ولا بشركائه في الإنسانية، أسوار يرسمها في مخيلته بأدوات ظاهرها ديني وقيمي، ويُدخل المتأثرين بها من أتباعه في سياج يشعرون فيه بعد حين بغربة حقيقية عن الآخرين، فيصبح مع أتباعه معنياً بمصالحه، من دون أن يفكر بسعة في التقاطع مع مصالح الآخرين والفاعلين في ساحته وإن اختلفوا معه.
ب- صبغ المتدينين لخلافاتهم وتباين وجهات نظرهم بالصبغة الدينية، فما أن يحتدم الصراع السلبي بينهم، ويختلفون في شأن من الشئون، أو قضية من القضايا، حتى يسارع كل طرف لإلباس نفسه بلباس الدين، وتعرية الآخرين عن كل فضيلة، وأحياناً إخراجهم من الملة والدين والقيم والمبادئ، فهو ينطلق من ثابت ديني بحسب تصوره بينما ينطلق الآخرون من الهوى والشهوات، ويتحركون بإيماء مباشر من الشيطان ومن فساد العقيدة والضلال.
وعلى الضفة الأخرى حيث الخصم الآخر«المتدين» لن يقبل السكوت بل سيتماهى مسفاً في تبرير صراعه بالمنطلقات نفسها والأسلوب ذاته مستخدماً سلاح الدين في حسم صراعه مع خصمه.
لا أدري إن كنت مصيباً إذا قلت أن السبب يرجع إلى تصور كل طرف إنه إنما يقوم بهذا الدور انطلاقاً من الواجب الشرعي وإنفاذاً لأمر الله سبحانه وتعالى ﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها﴾ سورة الأعراف -آية 28.
هذان السببان «الواقع الفعلي لصراعات المتدينين، وصبغهم لصراعاتهم بالصبغة الدينية» هما اللذان أوحيا للناظر في الصراعات والاختلافات الدينية بنظرة مشوشة عن التدين والالتزام جعلته يعتقد أن سبب الصراع والتنازع هو الدين.
ولنا أن نتساءل: لماذا يلصق المتدينون صراعاتهم واختلافاتهم بالدين وبالقيم والمبادئ؟ ويحولون قضاياهم ومشكلاتهم وشجاراتهم حتى الطفولية منها إلى صراع بين الحق والباطل، فيتبدل الصراع والتقاتل، من شيء منبوذ في الشريعة الإسلامية، إلى واجب من واجبات الدين؟ السؤال مهم ولقاؤنا في الأسبوع المقبل إن شاء الله، مع شكري للقارئ الذي يقطع أنني لا أعمم مقالي على كل المتدينين.