الجـمـعـــة والاستثمار الروحي
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
إن لكل لحظة من زمن يوم الجمعة قيمة عظيمة لا ندرك مداها، كما لا يعرف الواحد منا القيمة الحقيقية لشيء لا خبرة له به، فلكل عالَم خبراؤه المتخصصون في فهم معادلاته.
فحين تُعرض - مثلاً- تحف وآثار تاريخية نادرة على إنسان خبير بها، فإنه مستعد لبذل أغلى الأثمان لاقتنائها، لكن من لا يعرف قيمتها، ولا خبرة له بعالمها، قد يرى صرف تلك المبالغ عليها نوعاً من الجنون أو الإسراف.
لذلك يوجد خبراء ومستشارون في مختلف ميادين الحركة الاقتصادية، يُرجع إليهم في فهم حركة السوق، وتقويم الفرص.
وحين نريد معرفة قيمة أي زمن، بلحاظ مدى البركة التي أودعها الله تعالى فيه، فإن علينا أن نعود إلى الخبراء العارفين، الذين أطلعهم الله تعالى على الأسرار المودعة في الطبيعة والحياة، وهم الأنبياء وحملة علومهم من الأئمة والأولياء.
وهؤلاء لا يبخلون علينا بشيء من تلك المعارف التي تفيدنا وتسعدنا، بل يبذلونها ابتداءً دون طلب، ولا يسألون عليها أجراً، ولا يريدون منا جزاءً ولا شكورا، إنهم مكلفون ومأمورون من قِبل الله تعالى بتوجيهنا، وإلفات أنظارنا إلى فرص التقدم، ومنابع الخير، وموارد البركة والنجاح.
ونظراً لما ينطوي عليه يوم الجمعة من فرص استثمار هائلة، حيث طرح الله تعالى في آنائه عظيم البركة، وجعل لساعاته وافر القيمة، فقد توالت الأحاديث والروايات عن النبي وعن الأئمة الكرام ، في بيان فضل هذا اليوم العظيم، والحث على استثمار أوقاته بأفضل البرامج والأعمال.
وتنوعت البرامج التي عرضتها تلك النصوص، لإثراء مختلف الأبعاد في شخصية الإنسان وجوانب حياته، حتى يستفيد من بركات هذا اليوم على الصعيدين الشخصـي والاجتماعي، وفي المجالين الروحي والمادي، وضمن إطار الفكر والعاطفة.
قال الشاعر:
وأقبل على النفس واستكمل فضائلها | فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
إنما تتحقق إنسانية الإنسان بتكامل فضائله الروحية، وحسن صفاته النفسية، فبمقدار ارتقائه الروحي والنفـسي تتجلى قيمته، وتتجسد إنسانيته.
وتوثيق الصلة بالله تعالى هو منبع الثراء الروحي، حيث يشعر الإنسان أنه ارتبط بالقدرة المطلقة المهيمنة على كل شيء، فيستمدّ من الله تعالى القوة والثقة، ويستلهم منه التفاؤل والأمل، ويتجه للتخلق بأخلاق الله، ويعاهده على التزام نهجه القويم.
والإقبال على الله تعالى من قِبل العبد مطلوب في كل وقت، نافع في كل زمن، لكنه في يوم الجمعة أكثر تأثيراً وأكبر نفعاً، لأن الله تعالى قد اختار هذا الزمن، ومنحه البركة، واختصه بالفضل، ورغب إلى عباده أن يتقربوا إليه فيه بالطاعة، ووعدهم فيه بقبول الأعمال، ومضاعفة الأجر والثواب، وإجابة الدعاء، ورفع الدرجات.
من هنا جاءت النصوص الدينية طافحة بالحث والتشجيع، على اغتنام أكبر قدر ممكن من أوقات يوم الجمعة، في أعمال العبادة والتقرب إلى الله تعالى. وجاء التركيز فيها على المظاهر العبادية التالية:
تمثل صلوات الفرائض الحد الأدنى من الارتباط والالتزام العبادي للإنسان أمام الله تعالى، ومن شاء تكثيف التواصل مع الله، ومزيد التقرب إليه بالصلاة، فإن أبواب التعبد بصلاة النافلة مشرعة مفتوحة، وكما ورد عن أبي ذر أنه سأل رسول الله عن الصلاة فأجابه : (خير موضوع فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر)[1] .
وورد عن الإمام علي أنه قال: ( لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله ما سره أن يرفع رأسه من السجود)[2] .
وعن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبدالله جعفر الصادق عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم، وأحب ذلك إلى الله عز وجل ما هو؟ فقال: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة)[3] .
وصلاة النافلة هي ما زاد على الصلاة الواجبة المفروضة، مأخوذة من النفل بمعنى الزيادة، فالصلاة الواجبة على الإنسان يومياً هي الفرائض الخمس، الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وعدد ركعاتها سبع عشرة ركعة، وإلى جانبها هناك صلوات مستحبة هي النوافل الرواتب اليومية، وتصل عدد ركعاتها إلى أربع وثلاثين ركعة، منها نافلة الظهر ثمان ركعات قبلها، ونافلة العصـر ثمان ركعات قبلها.
أما في يوم الجمعة فتزيد النافلة أربع ركعات ليكون مجموعها مع نافلتي الظهر والعصر عشرين ركعة.
ورد عن الإمام علي الرضا أنه قال: (إنما زيد في صلاة السنّة يوم الجمعة أربع ركعات تعظيماً لذلك اليوم، وتفرقة بينه وبين سائر الأيام)[4] .
ويصلي نافلة الظهر يوم الجمعة قبل الزوال عدا ركعتين منها عند الزوال.
وجاء عن الإمام محمد الباقر : (إن الأعمال تضاعف يوم الجمعة، فأكثروا فيه من الصلاة والصدقة)[5] .
حاجات الإنسان في هذه الحياة كثيرة، وطموحاته المادية والمعنوية لدنياه وآخرته كبيرة، وهو يواجه مختلف المشاكل والصعوبات، فلا بد له من الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، لطلب عونه ومساعدته، فإن بيده كل شيء، وهو مالك الدنيا والآخرة والقادر على كل شيء.
وحين يتجه الإنسان إلى ربه داعياً مستغيثاً فإنه يحقق بذلك مكاسب كبيرة، حيث تمتلئ نفسه بالثقة، ويعمر قلبه بالأمل، ويستلهم من الله القوة والصمود أمام تحديات الحياة. كما يكسب محبة الله تعالى ورضاه وينال ثوابه ورحمته، حيث يسـره تعالى تضرع عبده إليه وإلحاحه في الطلب والدعاء.
روي عن الإمام محمد الباقر أنه قال: (ما من شيء أحب إلى الله من أن يُسأل ويُطلب مما عنده)[6] .
وعنه: (لا تحقروا صغيراً من حوائجكم فإن أحب المؤمنين إلى الله أسألهم)[7] .
وقد وعد الله تعالى عباده باستجابة دعائهم، قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾[8] .
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا﴾[9] .
وجاء عن رسول الله:( ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليست فيها قطيعة رحم، ولا استجلاب إثم، إلا أعطاه الله تعالى بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجّل له الدعوة، وإما أن يدّخرها في الآخرة، وإما أن يرفع عنه مثلها من السوء)[10] .
ولا شك أن لبركة الزمان والمكان مدخلية في قيمة الدعاء عند الله تعالى، فالدعاء في البقاع والأزمنة التي باركها الله واختصها بالفضل عن سواها، يكون أقرب إلى الإجابة والقبول، وتكون عوائده وآثاره أعظم وأكبر.
من هنا حثت الأحاديث والروايات على الإكثار من الدعاء في يوم الجمعة، باعتباره الزمن الأبرك واليوم الأفضل.
بل أكدت الأحاديث على أن في يوم الجمعة ساعة محددة تكون الإجابة فيها للدعاء من قبل الله تعالى مضمونة. لكن معرفة تلك الساعة المخصوصة مورد اختلاف، ولعل من أسباب عدم النص عليها، بعث المسلم للدعاء في كل ساعات يوم الجمعة.
جاء في صحيح البخاري عن رسول الله أنه ذكر يوم الجمعة، فقال: (فيه ساعة، لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً، إلا أعطاه إياه)[11] . ومثله جاء في وسائل الشيعة [12] .
وروى جابر قال: كان علي يقول: (أكثروا المسألة في يوم الجمعة والدعاء، فإن فيه ساعات يستجاب فيها الدعاء والمسألة، ما لم تدعو بقطيعة أو معصية أو عقوق، وأعلموا أن الخير والشر يضاعفان يوم الجمعة)[13] .
وعن الإمام جعفر الصادق : (إن المؤمن ليدعو فيؤخر الله حاجته التي سأل إلى يوم الجمعة ليخصه بفضل يوم الجمعة)[14] .
من أجل أن يتأسى المسلم برسول الله ويقتدي به، ومن أجل أن تتجذّر محبة الرسول 7 في القلوب، وتنشدّ إليه النفوس، ويكون في أعلى موضع للتقدير والتعظيم عند أمته، أمر الله تعالى المؤمنين بالصلاة على نبيه، فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [15] .
روى البخاري من حديث كعب بن عجرة عند تفسير هذه الآية: قيل لرسول الله : يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)[16] .
انطلاقاً من هذا الأمر الإلهي للمؤمنين بالصلاة على النبي 7، ولورود أحاديث مستفيضة في السنة الشريفة، ذهب فقهاء الإسلام إلى وجوب الصلاة على النبي في مواطن، كالتشهد في الصلاة، وبعد التكبيرة الثانية في صلاة الجنازة، وفي خطبة الجمعة والعيد، وإلى استحبابها الخاص في مواطن أخرى، واستحبابها المطلق في كل وقت وآن.
وتشير الأحاديث والروايات إلى أهمية هذه الشعيرة العظيمة، ومدى بركاتها وآثارها الدنيوية والأخروية.
فقد ورد عنه أنه قال: (ما من عبد يصلي عليّ إلا صلت عليه الملائكة ما دام يصلي عليّ فليقل العبد من ذلك أو ليُكثر)[17] .
وعنه : (ما من عبد من أمتي يصلي عليّ صلاة صادقاً بها من قبل نفسه، إلا صلى الله عليه بها عشر صلوات، وكتب له بها عشـر حسنات، ومحا بها عنه عشـر سيئات)[18] .
وعن الإمام الباقر أو الصادق : (أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الصلاة على محمد وعلى أهل بيته)[19] .
ولخصوصية يوم الجمعة وعظيم بركته، فإن الصلاة على النبي وآله في ساعاته، لها ثواب مضاعف عند الله، وآثارها في نفس الإنسان أكبر وأعمق، حيث يعيش بها في رحاب شخصية الرسول العظيمة وآله الأطهار، ويستذكر سيرتهم العطرة، فيتحفّز للاقتداء بهم، والسير على نهجهم، مستمدّاً من أجواء بركة الجمعة ما يدفعه للالتزام والانشداد.
وفيما يلي بعض الأحاديث والروايات التي تؤكد على فضل هذه الشعيرة وخصوصيتها في يوم الجمعة:
جاء في سنن أبي داود، بسنده عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ)[20] .
وقال ابن قدامة في المغني: ويستحب أن يكثر من الصلاة على رسول الله يوم الجمعة، لما روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : (أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة) رواه ابن ماجة.[21] .
وفي وسائل الشيعة عن الإمام الباقر: (ما من شيء يعبد الله به يوم الجمعة أحب إليّ من الصلاة على محمد وآل محمد)[22] .
وفي كنز العمال: ( أكثروا من الصلاة عليّ في يوم الجمعة وليلة الجمعة فمن فعل ذلك كنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة)[23] .
وفي مستدرك الوسائل: عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي أن رسول الله قال: (أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة، فإنه يوم يضاعف فيه الأعمال )[24] .
عن النبي قال: (ومن صلى عليّ يوم الجمعة مائة مرة غفرت له خطيئة ثمانين سنة)[25] .
يوم الجمعة فرصة للمراجعة ومحاسبة النفس، فينبغي للإنسان المسلم أن يفكر في مستقبله الأخروي، وأن يخرج قليلاً عن انغماسه في هموم الدنيا وانشغالاتها، ليتذكر أن إقامته في هذه الدنيا مؤقتة محدودة، وأنه سينتقل يوماً ما إلى عالم الآخرة، ويكون مصيره إلى حفر القبور.
إن استحضار الإنسان لهذه الحقيقة الواقعة لا يستهدف صرف نظره عن ممارسة دوره وفاعليته في هذه الحياة، بل يوجهه إلى التوازن والتفكير في المستقبل القادم، ليتصرف على ضوء معادلاته في إدارة شؤون الحياة، فلا يقع في فخ الغرور والغفلة، ولا تقوده الشهوات والرغبات إلى الانحراف والظلم.
لذلك ورد أن من البرامج المستحبة يوم الجمعة زيارة القبور، لما في ذلك من الموعظة والاعتبار.
عن عبدالله بن سليمان قال: سألت الإمام الباقر عن زيارة القبور؟ قال : (إذا كان يوم الجمعة فزرهم)[26] .
وروي عن النبي أنه قال: ( من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر الله له وكتب برّاً)[27] .
القرآن هو رسالة الله تعالى إلى عباده، وفيه النور والهدى، وحين يقرأ منه الإنسان فإنه ينفتح على آفاق الخير، وتُضاء له دروب الحياة. لكنها القراءة الواعية التي تنطلق من التفكر والتأمل، ويصحبها التدبّر والتعلم، ويعقبها العزم على التطبيق والالتزام.
وبركة يوم الجمعة تجعل نفس الإنسان مهيأة مستعدة أكثر للتفاعل مع آيّ الذكر الحكيم، فهو يقرؤها في زمن يدرك قدسيته، وفي أجواء يعرف خصوصيتها، مما يجعل قابلية الهداية والتأثر بالقرآن أبلغ في نفسه.
وقد وردت بعض الأحاديث والروايات التي تحث على قراءة بعض السور القرآنية في يوم الجمعة، وخاصة سورة الكهف، حيث جاءت نصوص حول فضل قراءتها في مختلف مصادر الحديث.
قال ابن قدامة في المغني: ويستحب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، لما روي عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : (من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة فإن خرج الدجال عصم منه).
وعن أبي سعيد الخدري، أنه قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق.[28] .
وقال ابن تيمية: قراءة سورة الكهف يوم الجمعة فيها آثار ذكرها أهل الحديث والفقه[29] .
وفي وسائل الشيعة عن الإمام جعفر الصادق : ( من قرأ سورة الكهف في كل ليلة جمعة كانت كفارة له لما بين الجمعة إلى الجمعة)[30] .
ومعلوم أن سورة الكهف تبدأ بقصة الفتية المؤمنين الذين تحدوا فساد عصرهم، والتزموا إيمانهم، وفروا بدينهم، وكأن قراءتها يوم الجمعة لتذكير الإنسان بهذا الدرس العظيم، ليكون حريصاً على المحافظة على دينه، والابتعاد عن كل الأجواء المنحرفة السلبية.