فلا اقتحم العقبة
هذه الفتوى صدرت من الزعيم والقائد الديني الكبير غيرة منه على الدين وحفاظاً على المبادئ، لا يستحيل أن تصدر عنه هذه الفتوى فهي في محتواها وموضوعها لا تليق بمقامه، إذاً من يقف وراءها؟ وراء هذه الفتوى لفيف من الحاشية المحيطة به من طلابه وإدارة مكتبه، لا، لا يمكن أن تصدر لولا موافقته.
هذا القرار صدر من الزعيم والمرجع السياسي أو الإداري الكبير خوفاً منه على الوطن وأمنه، لا لا يمكن أن يصدر هذا القرار عنه فهو أسمى من أن يصدر قراراً كهذا، لأن هذا القرار يفسد الوضع برمته، إذاً من وراء هذا القرار؟ وراءه صغار الموظفين وبعض المتنفذين الذين يعملون باسمه والمحسوبين عليه، لا يمكن أن يقبل هذا الكلام فالأمور ليست سائبة ولو لا موافقته ما صدرت تلك التعليمات.
هذه عينة من الحوارات الدائمة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهي تشير إلى حجم الثقل الذي تمثله البطانة في نفوس الناس بحيث تشتبه عليهم الجهة التي تصدر الرأي وتمارس الفعل الميداني.
لقد تمثل الفن بعض ذلك في مسلسلات كان الجمهور يتابع حلقاتها بشغف، كـ(يوميات مدير عام) وهو مسلسل درامي سوري برز فيه الممثل «أيمن زيدان» كمدير نظيف يخدعه من حوله، ومسلسل الاسكافي الذي تشبه فيه الممثل الكويتي عبد الحسين عبد الرضا كوال يعمل المحيطون به على استغلال مناصبهم باسمه.
وإذا كان ثمة لوم يوجه للزعيم أو للحاشية من حوله، فإن لوماً مثله أو أكبر منه يوجه للمجتمع الذي يكبل نفسه بالأغلال التي تمنعه من الوصول إلى معرفة الحقيقة، وتشكيل تصور سليم حول مختلف أموره وقضاياه سياسية كانت أم دينية.
إن الذي لا شك فيه ولا ريب أن الحقيقة أحياناً صعبة بسبب الطوق الذي تفرضه البطانة على رأس الهرم، كي تمارس بحريتها تقنية الفلترة للأخبار التي تصل الرأس، وللآراء التي تقترح كحلول للازمات والمشاكل القائمة، وتزداد صعوبة ذلك في الدول التي لا مجال فيها للقاء الحر والمفتوح بين الرأس وباقي الشعب، ولتوضيح الصورة فإن بعض المجتمعات المعروفة والعريقة في ممارسة الديمقراطية لا تجد حاجزاً مانعاً يحول بينها وبين التعاطي الواضح مع المسئول الأول في أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع أو الدولة، لأن هناك حالة من المأسسة والقانونية تنظم هذا النوع من العلاقة والحركة الصاعدة في الرأي والمقترح والتساؤل من المواطن إلى الجهة المسئولة.
في القسم الآخر من العالم هناك مجتمعات عريقة في معايشة الدكتاتورية والتسلط والرأي الواحد، هذه المجتمعات تتحرك علاقتها باتجاه واحد فقط وهو الحركة النازلة والقرار الصادر من المسئول إلى المواطن، ولا يوجد خط آخر ينقل انطباعات المواطن إلى المسئول لان الحركة الصاعدة معطلة وممنوعة وأحياناً تكون جريمة يقع فاعلها تحت طائلة المسؤولية.
بين هذين النوعين من المجتمعات هناك تنظيرات وآراء وممارسات ارتأتها أكثر من دولة متناسبة مع أوضاعها وقوانينها وطبيعة الأنماط العلاقاتية القائمة بينها، فبادرت بفتح أبوابها لمواطنيها، ليجد المواطن أكثر من باب وأكثر من مسئول يمكنه أن يوصل رأيه أو مطلبه أو تظلمه إليه، وهذا ما يعرف بسياسة الباب المفتوح.
وهذه السياسة تبقى اجتهاداً بشرياً (كبقية السياسيات) له ما له وعليه ما عليه، ولا يمكن لأحد أن يدعي له ولا لغيره من الأنماط الكمال والسلامة من المؤاخذات لكن ما أود الحديث عنه أننا مقصرون كمجتمعات في الاستفادة من هذه الأبواب المفتوحة، تماماً كما هو حجم التقصير عندنا في الاستفادة من مجالس الزعماء الدينية المفتوحة وقلوبهم المنشرحة لأسئلة الناس وقضاياهم ومشاكلهم.
إن الدردمة والتباكي في المجالس بسبب فتوى الديني (أحياناً) وقرار السياسي (في أحيان) أخرى لا تجدي نفعاً، ولا تنبئ عن مجتمع يبحث عن الفهم والمعرفة والحل لأموره وقضاياه، والبديل الواقعي هو التواصل مادام ممكناً والحديث بوضوح عمّا يختلج في النفس، والوصول إلى أبواب الزعماء الدينيين والسياسيين بهدف الخير للمجتمع وتغيير السيئ -لا سمح الله- من أوضاعه ومشاكله.
هناك تقصير اجتماعي سببه ضعف الثقة بالذات، وشعور الناس بالدونية.
هناك تقصير في السعي لتوضيح الواقع والحقيقة لتكون حاضرة مع أي صورة مشوهة أو منقوصة تجد من يسارع ويبادر إلى إيصالها، وهناك تقصير في تعدد الحديث والرسائل الباحثة عن الحل بدلاً عن الحديث الذي يضخم المشاكل ويوحي بالسوداوية القاتمة، وهناك تقصير في المتابعة الحقيقية والجادة سعياً وراء الخير والأمن والسلام والاحترام، فلا يكفي أن يكون سياق المبادرة لإسقاط ما في الذمة فقط من دون المتابعة والملاحقة. وهناك تقصير في الفهم فالمعادلات ليست دائماً مفروضة، بل إن قسماً منها نابع من عدم تفعيل الممكن من السبل والطرق لعلاجها. هناك تقصير اجتماعي ذاتي والقول به لا يعني أن كل المسؤولية محصورة في المجتمع فقط وليس على غيره شيء.