المختل والمغرر به
المهارة في إغلاق الملفات الشائكة ولملمة القضايا المتشظية ووضع النقطة على آخر السطر لنهاية جملة وبداية أخرى بعيدة ومنفصلة عنها، من الملكات والقدرات التي يقل ممارسوها في هذا العالم.
على مدار 105 أيام كانت معركة نهر البارد في لبنان تتصدر إعلام العالم العربي والإسلامي، وكادت المواقف منها تجر الأطراف المتباعدة إلى مبارزة مبكرة، كما أن بعض المواقف كادت تمزق تحالفات قائمة في الداخل اللبناني.
الحدث خطر للغاية، المحللون العسكريون والسياسيون والإعلاميون كل قرأ الحدث من زاويته وشفّعه بالقرائن والأدلة، واستعان بالمجاراة للداخل والخارج اللبناني القريب والبعيد، الفاعل على أرضه وغير الفاعل، ليستنتج مسار الحدث وأهدافه والمستفيد منه في الداخل اللبناني وحواليه.
كانت بعض التحليلات مقنعة، وبعضها متهافتا يسقط بالتأمل والنقاش والحوار، والنوع الثالث منها له مرونة تستطيع إنتاج تحليلها بشكل يواكب أحداث البارد يوميا، وسواء قبلت تلك الآراء والتصورات أم لم تقبل، فإنها تصورات وتحليلات تحاكي عاقلا، وتخاطب عقلا يرى ويسمع ويقرأ ويعي ما يدور حوله، فتحترمه أشد الاحترام، وتقدم له الزاد الذي عندها بعد جهد وعناء ولمسات إخراجية.
لقد تعالت في الفترات القريبة في مصر صيحة المختلين عقليا، وارتفعت يافطاتهم حتى راجت نكت وطرائف عن معاهد وكليات تعلم فن إلصاق الأحداث بالمختلين عقليا وربما أصبحت منتجا خاصا في ظروف وفترات مضت، طبقا لما يكتبه المصريون في مواقع الانترنت ، فالكثير من الأحداث التي حصلت هناك شاءت الصحافة وغيرها من الأجهزة الفاعلة، ربطها بالمختلين عقليا، حتى وان كان هدف الجريمة واضحا، وانتقاء الفاعل لأهدافه دقيقا، والتخطيط لها فضلا عن تنفيذها صعبا، ومع ذلك يوفق لها دائما أصحاب الاختلال العقلي كما يؤكد هذا المعنى أرشيف القضاء في بعض القضايا.
فالذي قام بمهاجمة عدة كنائس في مدينة الإسكندرية الساحلية كان مختلا عقليا، ومرتكب مذبحة بني مزار مختل عقليا، والعديد من الهجمات التي استهدفت سياحاً أوروبيين وغربيين نسبت لمختلين عقليا.
أحداث نهر البارد وتواجد العشرات من أبناء جلدتنا من الشباب اليافع فيها، وقبلها أحداث العراق ، وشراسة الاستبسال.
مثل هذه الأحداث كانت تلح في السؤال على كل متابع لماذا يندفع هؤلاء من بين شباب المسلمين ليقوموا بهذا الدور؟ ولماذا هم الأكثر حضورا في مختلف البقاع والمناطق الساخنة في العالم؟
إن القول بأن هؤلاء شباب مغرر بهم أمر سليم وصحيح بمقدار، لكنه كما يقال(وفسر الماء بعد الجهد بالماء).
هب أننا اقتنعنا أن في الأمر تغريرا مؤكدا، لكن تسويق القضية برمتها باعتبارها تغريرا والسكوت عن إيضاح منابت هذا التغرير وسواكنه ومحركاته ومفاعلات تخصيبه، وتداخله مع شبكة واسعة تسمح بتنقله من دولة إلى أخرى أمر لا يحتمل هذا التحليل المضغوط، وإن قبل الكلام جدلا في حضور عوامل التغرير وصدارتها.
هذا شبيه برسالة وصلتني من عزيز أرسلها للمفاكهة عبر الهاتف النقال، ليلة عيد الفطر المبارك، بينما كنا في انتظار خبر يبشرنا بالعيد، ومفادها «أخي المسلم أختي المسلمة كل عام وأنتم بألف خير لقد ثبت أن يوم العيد هو أول أيام شهر شوال».
كلام صحيح لكنه للمفاكهة والدعابة، أما الحقيقة فلا يسمن فيها ولا يغني من جوع.
الشباب المغرر بهم عبارة شاعت واستلطفت على أكثر من لسان، وجرّتها أقلام عديدة ومهمة، حتى كأنها أصبحت مسلمة من المسلمات التي تلخص قضية نهر البارد في مجموعة من الشباب الصغار أو المراهق - ما شاء الإعلام فليعبر - غرر بهم فواجهوا الجيش اللبناني لثلاثة أشهر ونصف وبرباطة جأش نادرة وبسالة مشهودة.
لو كان التحليل وحيداً في تفسير الحدث الكبير الذي حصل لما استطاع أن يسوق نفسه في مساحة يعتد بها، كيف وعشرات التحليلات تفترض الأمر بعيدا كل البعد عن هذه البراءة المختزلة في التغرير بهؤلاء الشباب.
ما أريد قوله أن هناك بعضاً من هؤلاء الشباب غرر بهم، لكن الحدث برمته ليس تغريراً، كما أن البقاء في ميدان المواجهة مع تدخل الوسطاء، ومعرفة الجهة المقابلة في النزال، وتوافر وسائل الإعلام، وابسطها التلفاز والمذياع في المنازل والمواقع التي تحصن فيها هؤلاء الشباب ولمدة ثلاثة أشهر ونصف، كانت كفيلة برفع هذا التغرير الواقع عليهم.
الكشف الوضوح الشفافية والواقعية هي وحدها الطرق السليمة في معالجة الأحداث وهي وحدها السبل الناجعة في الاحتراز من تكرارها والتغرير بالشباب وسوقهم دون وعي إليها في المستقبل، وهذا كله لا يتم في عموميات التحليل وتعمية الحقائق، والتعامل بالألفاظ كما في أسواق الجملة، بل دونه خرط القتاد.
إن الأمرَّ من ذلك هو أن تستطيع هذه التحليلات السطحية أن تغرر بالشباب، أو أن تساعد في صنع أرضية تغريرية منبسطة وسهلة تنبت مجاميع متكاثرة من الشباب المخلصين والأبطال(المغرر بهم).