أهل البيت ليسوا لنا ولكن...
انتقل أهل بيت النبي محمد من دائرة النسيان والغياب عن قلوب طال زمان سُباتها، وتحولوا في السنوات الثلاث الماضية من الغياب المعتم إلى دائرة الضوء، وأصبحوا محلاً لتنازع المسلمين، كلّ يدّعي محبتهم والانسجام مع منهجهم بطريقة قشرية في مظاهرها، وغير عميقة في جذورها، لما يشاهد من تمظهراتها الخارجية التي لا تتعدى العمومات المبهمة.
نقول الحمد لله على هذا القرب من أهل البيت الذي ساهم فيه بشكل كبير ومباشر حضور أتباعهم ومحبيهم السياسي في ملفات ساخنة ومصيرية كملف الصراع الإسلامي الإسرائيلي، ووقوف الجمهورية الإسلامية في إيران في وجه العنجهية الأميركية المنبوذة من قبل أحرار العالم، والحضور التضحوي والإعجازي لهم في لبنان. وساهم فيه من جانب آخر الخطاب الوحدوي الجاذب والمسئول للواجهات الشيعية الرئيسة والفاعلة والمنفتحة في ساحاتها بنَفَس جامع، وروح تجاوزت خصوصيتها لتتعاطى في الشأن العام والمشترك، هذا الخطاب الذي ما لبث أن تحول من خطاب محدود التداول إلى خطاب حاضر في الفضائيات المؤثرة على تشكيل التفكير، وصياغة الموقف الاجتماعي العام من هذا المختلف الذي بدأ يعلن عن ذاته بثقافة تحتمل الآخر، وتحاوره وتراه أخاً وشريكاً، وتتوخى الدقة باحثة عن المحامل الخيّرة التي يمكن أن تحمل عليها بعض تصرفاته ومواقفه.
ضمن هذا الإطار يمكن الحديث عن مؤثر ثالث وهو العشرات من الفضائيات الموالية لأهل البيت التي ظهرت في فترة قياسية وبتكاثر متسارع، لتبدد الكثير من الأراجيف والاتهامات التي عُبّئ بها الوجدان العام لباقي المسلمين ضد الموالين لأهل البيت، ولتتحدث بصراحة واضحة عن نهجهم وعلاقتهم بقرآنهم ورسولهم وأئمتهم.
أعود للموضوع الأساس لأقول: لا يمكن لأحد أن يكذّب أحداً يدّعي حبه لأهل البيت عليهم السلام، فهم ليسوا ملكاً لأحد من البشر، بل هم للبريّة جمعاء، من سلك نهجهم آخذاً ما فيه من خلق وروحانية ومسلكية عبادة وحياة رَبِحَ وغَنِمَ، ومن تركه خَسِرَ مائدتهم الزاخرة بعطاياها وكنوزها.
نعم لا نكذّب أحداً يدّعي حبهم، وليس من حقنا ذلك، وإن كانت صحوة ذكرهم والحديث عنهم متأخرة جداً، ولكن ما يمكن الحديث عنه في هذه العُجالة يرتبط ببعض الملازمات الصعبة الانفكاك عن الحبّ الحقيقي لأهل البيت التي يمكن من خلالها تمحيص ومعرفة جدية الادّعاء.
أولاً: حضور أهل البيت برواياتهم ومعارفهم ومواقفهم في مختلف الحقول العلمية والبحثية، وحضور وصاياهم الأخلاقية والروحية في المواعظ الخطابية والكتب التوجيهية. إن التفكيك بين حبهم وحضورهم بهذا النحو صعب للغاية، فلا يقبل أن يدّعي أحد حبهم وهم نهج وطريقة حياة، ومسلكية إيمان وأخلاق، ثم يغيّبهم ويتناسى رواياتهم فقهياً، وآراءهم عقدياً، وما يرتبط بتفاصيل توجيهاتهم للإنسان في مختلف شئونه، بل يكون ذلك الادّعاء مجرد مزحة مقصودة.
كذلك، أن يكتب كاتب مقالاً، أو يقدّم خطيب خطاباً يمجّد فيه أهل البيت، ويسبغ عليهم من الصفات ما هم أهله وأكثر، ثم يجمّد التعامل معهم فيمرّ العام والعامان ومؤلفاته وخطبه تخلو من الذكر الجادّ لهم، ففي الأمر ألف توقف واستفهام، مضافاً إلى أنه يترك باب التحاليل والاحتمالات مشرعاً على مصراعيه.
مثل هذه الصورة تحمل حباً جامداً، لا شك أن المحبوب في غنى عنه، لأنه لا يمتد إلى أطراف الحياة ونواحيها من عبادات ومعاملات، ووصايا وأخلاقيات وعلوم ومعارف.
ثانياً: الموقف من أتباعهم ومحبيهم، فالتنظير لعلاقة الآل والأصحاب يبقى حبراً على ورق إذا كان الموقف قاسياً وقائماً على الاتهام والتهميش والظلم لأتباعهم ومحبيهم، إذ لا يمكن أن يستخدم الإنسان نفوذه والقدرات التي بين يديه لإيقاع الأذى بأتباع أهل البيت، واتهامهم وتخوينهم ونبذهم وحرمانهم من مواقعهم الطبيعية، وإصدار فتاوى التحريض عليهم، ثم يزامن كل هذا الحيف الموجّه لهم بأحاديث عن المودّة والمحبّة لأهل البيت، يقول الإمام الصادق : «من توَلّى مُحِبَّنا فقد أحبَّنا».
لقد كانت تجربة الدولة العباسية قاسية على أهل البيت، فحركة التعبئة للأجواء العامة التي قادها العباسيون ضد الدولة الأموية كانت تحت شعار «الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله»، ولكنهم سرعان ما انقلبوا عليهم ونكلوا بهم أشد تنكيل.
ثالثاً: العدل والموضوعية في دراسة الحوادث التاريخية، فأهل البيت ظلموا، ومن محبتهم ونصرتهم أن ندع العبارات الفضفاضة والخادعة التي نختبئ وراءها، وأن نشير بصراحة إلى الإخفاقات التي وقع فيها تاريخ المسلمين وانزلق فيها رجاله، فلا يمكننا أن نتستر (ونحن ندرس وقائع التاريخ ونكتب عنها) على الظالم والمعتدي بعبارة سيّدنا (فلان) قتله سيّدنا (فلان)، لابدّ أن أحدهما سيّد لنا والثاني خانع خاضع لأهوائه، وقاتل للنفس المحترمة بغير حق.