على المثقف أن يتحمل مسؤولية الجهر بالرأي
نشرت جريدة المدينة في ملحقها االأسبوعي (الأربعاء) الصادر يوم الأربعاء الماضي الموافق 8 ذو القعدة 1424هـ (31 ديسمبر 2003)، وفيما يلي نص ما نشرته الجريدة:إقصاء الآخر أزمة تعاني منها أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، لكنها تتفاوت في درجة الكثافة والشدة. وترتبط هذه الأزمة بثلاثة عوامل أساسية، تنتج هذه الأزمة وتغذيها وتفرضها على المجتمع.
العامل الأول: الفهم الديني السائد في هذه المجتمعات والذي يعتبر الرأي الآخر ضلالاً ومنكراً تجب محاربته وإزالته.
والعامل الثاني: سياسات الأنظمة الحاكمة والتي ترفض وجود الرأي الآخر المختلف مع توجهاتها ومواقفها، وهذا ما مارسته شتى الأنظمة في البلاد العربية والإسلامية، من اشتراكية وقومية وليبرالية وإسلامية، إن بعض العلمانيين والناقدين للحالة الدينية يتحدثون عن إقصاء الآخر، وكسمة للتوجه الديني فقط، وهذا تجاهل للواقع، فالماركسية في مواقع تسلطها مارست أشد القمع لمخالفيها، والبعثيون في العراق مثلاً فتكوا بالحوزة العلمية في النجف، وخنقوا كل النشاط الإسلامي للسنة والشيعة. وكذلك فعلت القومية الناصرية في مصر.
أما العامل الثالث: فيتمثل في التربية والأعراف الاجتماعية التي تربي الفرد على أساس أن إبداء الرأي المخالف للأب أو لشيخ القبيلة أو للرئيس في الإدارة أو لعالم الدين هو إساءة أدب وخلافاً للاحترام والتقدير. وقد تترتب عليه ردود فعل غاضبة وإجراءات عقاب.
إنه لا يمكن تجاوز هذه الأزمة إلا بمعالجة العوامل التي أنتجتها وفرضتها على واقع مجتمعاتنا.
لابد من إعادة النظر في هذا الفهم السائد للدين في أوساطنا، فإذا كان المسلم يثق بصحة عقيدته ورأيه الديني، ويرى أنه مطالب شرعاً بمحاربة الضلال الذي يمثله الرأي الآخر، فعليه أن يعرف أن مواجهة الرأي تكون بالرأي، أما المنع والقمع والإلغاء والإقصاء، فهو يؤدي إلى نتيجة عكسية، حيث يمارس الرأي الآخر دوره في الخفاء ويتقوى بعامل التحدي، وقد تفاجأ بانتشاره وكسبه لمقومات القوة التي راكمها بعيداً عن الأضواء.
لقد دعا القرآن الكريم إلى مواجهة الرأي الآخر بأفضل أساليب الحوار وأخلاقيات التعامل:﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، بل نهى عن استخدام لغة الإساءة للآخر عند الحوار معه ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. إن القرآن الكريم يدعو الآخرين لإبداء رأيهم وإظهار حججهم وأدلتهم ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا
من ناحية أخرى فإن باب الاجتهاد في فهم الدين مفتوح، ولا يصح لأحد أن يحتكر تفسير الدين وفهمه، ويتهم كل رأي آخر بأنه ضلال وابتداع، لأن من حق الآخرين أن يواجهوه بنفس المنطق، وإذا كان يعتقد أنه يمتلك الأدلة القاطعة على صواب وصحة رأيه فإن الآخرين يعتقدون لأنفسهم ذلك أيضاً.
من ناحية أخرى فإن سياسات الحكومات هي المؤثر الأكبر في واقع مجتمعاتنا، فإذا ما أتاحت الحكومة فرصاً متكافئة لجميع الأطراف، وخاصة في مجال الإعلام والعمل الثقافي والاجتماعي، فستكون التعددية والتعايش السلمي بين فئات المجتمع هو الحال القائم. كما نجد ذلك في كثير من البلدان.
أما الانحياز لجهة ما ووضع كل الإمكانات تحت تصرفها وحرمان الآخرين من التعبير عن رأيهم ووجودهم فستكون النتيجة الحتمية كذلك هي الأحادية والاستبداد الفكري.
بعض الجهات تمارس دوراً قمعياً يكرس الاستبداد والأحادية ويغذي التطرف والتشدد من خلال مصادرة ما يخالف التوجه السائد.
ووسائل الإعلام في بلداننا كلها رسمية فالتلفزيون والإذاعة يعملان بنهج آحادي لا مجال فيهما إلا لرأي اتجاه واحد.
هنا لا بد أن يتحمل المثقف مسؤوليته بالاجهار برأيه والاستعداد لدفع الثمن، مشكلتنا أن مثقفينا معظمهم لا يريد أن يدفع ثمناً للحرية التي يتشدق بها ويدعو إليها، فهو يخشى أن يفوته مكسب من المكاسب.
إن مجتمعاتنا في مرحلة خطيرة حاسمة وعلى المثقفين أن يقفوا عملياً إلى جانب تطلعاتهم ومجتمعاتهم فيكونون أكثر جرأة وشجاعة في مجال التعبير عن الرأي.
أما الجمهور فيجب أن يتجاوز موقف السلبية والتفرج على معاناة المفكرين والمثقفين وذوي الاجتهادات الإسلامية المختلفة.
المسألة ليست شخصية ترتبط بالكاتب أو المؤلف أو المكتبة التي تنشر الكتاب، بل ترتبط بحق الجمهور في المعرفة والإطلاع.
لقد دفعت مجتمعاتنا ثمناً باهظاً لاتجاهات التطرف والإرهاب ولا يمكن مواجهة التطرف إلا بإقرار التعددية وحرية الرأي.