لا تغادر موقعك
أفتتح مقالي هذا بما ورد في الأثر :«سعة الصدر آلة الرئاسة».
وسعة الصدر هنا هي الحكمة في الفعل وردة الفعل والهدوء والتأني والتعامل برحمة ومحبة وتواضع مع جميع الناس من موقع المسؤولية.
فموقع المرء ومكانته ووجاهته تحمله مسؤولية كبيرة أمام الله سبحانه وتعالى وأمام عباده، لأنه في محل التأثير، وفي جهة القدرة على الأمر والنهي، فضلا عن أنه محط أنظار الناس من حوله، مما يجعله محلا للقدوة والتأسي.
كثيرون هم الذين يغادرون موقعهم ومكانتهم ووجاهتهم، وإن كانوا في نفس الموقعية كاسم وديكور، وأحيانا يغادر واقعهم العملي مواقعهم، فترى تصرفاتهم لا تليق بالمسميات التي هم فيها، بل يمكن أن تحسب في الجهة المضادة لدورهم ومكانتهم.
سألقي اللوم هنا على الانفعال والتشنج والتسرع لأنها جميعا عدو لدود لكل موقع ومسؤولية ووجاهة.
لا تغادر موقعك الأبوي والأخلاقي والديني بسبب التشنج والعصبية، حافظ عليه وتمسك به بما أوتيت من قوة، ولتكن قاعدتك الأساس، أن تنصح وتذكر وترشد وتعلم وتوجه ولكن ضمن قاعدة «إنك لا تهدى من أحببت».
(1)
لقد حضرت مواقف لآباء غادروا فيها أبوتهم بسبب انفعالهم الخارج عن الحد، لمجرد أن لمسوا من أولادهم خطأ أو تصرفا غير موزون.
وكم هي القصص عن آباء هم قمة في المثالية لكنهم يغادرون أبوتهم متسرعين ومخطئين في حساباتهم، لقد كان أحد هؤلاء الآباء لا يقبل تأخير أولاده خارج المنزل إلى ساعة محددة من الليل، خوفا عليهم من أخطار الشارع بعد هذه الساعة التي يعتبرها كافية للسهر خارج المنزل، لكنه يغلق الباب في وجه من يتأخر من أولاده بعد ذلك الوقت المعين ليبقى كل ليلته خارج المنزل، في حين يغرق هو في نومه حتى الصباح دون أن يسأل نفسه أين قضى أولاده ليلتهم؟ ودون أن يفكر بهدوء أن هذا التصرف يؤدي بهم إلى ما كان يحاول أن يفر بهم منه، لكنه الانفعال والغضب ونقطة الانزلاق بمغادرة الحكمة والهدوء.
وأنت أيها القارئ غني عن سرد التصرفات التي تحمل قدرا كبيرا من الإهانة للأبناء كالضرب المبرح واللطم على الوجه، على غير ذلك من التربية المؤلمة التي تمليها حالات الغضب والتشنج.
(2)
الدين رحمة وهدى ومحبة للناس وموقعك الديني يحمل كل هذه المعاني، وأنت معها بإذن الله ما دمت ملتزما بها، لكن الحذر الحذر من حالات التشنج التي تخرجك عن موقعك وتلقي بك في مكان آخر ربما يناقض الموقع الذي يفترض أن تكون فيه.
وللأسف فهناك من حاول الدفاع عن الإسلام وعن المسلمين لكنه لعنفه وتناسيه لتعاليم الدين مثل قوله تعالى ﴿فذكر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر﴾، راح يمزق شمل المسلمين، ويخرج أهله وقومه من اطار الدين ليراهم كفارا ومشركين إلى آخر القائمة التي لا يليق استعمال مفرداتها بين المسلمين.
وما علينا للوقوف أمام هذه الحقيقة سوى قراءة خطابات التشدد والعنف التي اتخذت الدين مطية لأهدافها المشبوهة، فراحت تقتل وتفجر في بلاد الإسلام، لتحصد أرواح الأبرياء والنساء والأطفال، لكنها تمارسه باعتباره حفاظا على الإسلام والمسلمين، ومن أجل عزتهم وكرامتهم كما تقول أدبياتها وخطاباتها، ولا فرق في ذلك بين موقفها من الدول الإسلامية وحكوماتها وبين موقفها من المسلمين المختلفين معها في الرأي والمذهب، فهي قد قررت مسبقا مغادرة موقع الرحمة والهدى، ونهجت نهجا آخر، أخلاقه العنف والانفعال والتشنج.
(3)
مهلا أيها الموجهون والمرشدون والخطباء لا تغادروا دوركم بالتهجم على الناس في حالة من الهياج والتشنج، فالمؤثر من القول هو ما كان حسنا لطيفا على النفس.
ففي عام 2006 وصف مفتي استراليا الشيخ تاج الدين الهلالي في خطبة ألقاها النساء غير المحجبات بأنهن لحوم مكشوفة تدعو الرجال للاعتداء عليها، وربما يكون المؤدى الذي أراده المفتي متفقا عليه بين المسلمين وبين آخرين من غير مسلمين، لكن الطريقة في العرض والتشبيه أثرت في الموضوع تأثيرا سلبيا انعكس مواقف رافضة من الشعب والحكومة الأسترالية ضد المفتي وضد الآراء الإسلامية.
ولعل بعض المنابر وخطب الجمع تصدم الشباب بقوة، وتنفر المجتمع من سماع كلماتها والاستفادة من توجيهاتها. بسبب الجرأة الانفعالية المتشنجة التي يمارسها الخطيب وإمام الجامع.
في موقع الأبوة هل لنا أن نربي دون أن يتغلب علينا الانفعال والتوتر فنخسر أبناءنا؟ وفي موقع التوجيه هل يمكن للهدوء والسكينة أن توجد لنا محبة في نفوس مجتمعنا، لنكون كما وصف الله نبيه بقوله ﴿ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾؟
وفي مواقعنا الدينية هل لنا أن ننشر رحمة الإسلام واحترامه لأرواح الناس وكراماتهم وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم، وننطلق في تبليغنا من تعاليمه وحكمته فلا نشتم ولا نجرح ولا نقتل باسم الدين؟