حوار أتباع الأديان.. التزامات مختلفة
حوار أتباع الأديان السماوية المقبل بمدريد يختلف عمّا سبقه من الحوارات على أرضنا الحبيبة، فالمشتركات أقل، والتباينات أكثر، أقول هذا مع اعتقادي أن مشترك الإنسانية يكفي عن كل شيء لبدء حوار جاد، يفتح علاقات تعاونية رحبة بين أتباع الأديان خارجيا، ويساهم في ترسيخ توافق داخلي في الدائرة الإسلامية المشتركة بين المذاهب والأطياف المختلفة في عالمنا العربي والإسلامي.
وإذا كانت بعض الحوارات ذات نفع إعلامي صرف دون أن تتبنى أي التزامات على أرض الواقع وميادين الحياة بكل تفاصيلها الضاغطة إنسانية أو أخلاقية أو غير ذلك، فإن السبب كما أتصور لا يقتصر على امتناع أحد أطرافها عن التفاعل الإيجابي، بقدر ما هي طبيعة الحالة المختلة بين قوى تمتلك كل أدوات الفعل والمبادرة، وأخرى تفتقد ذلك كله.
ولأني لا أمتلك معطيات تجعلني متفائلا راهنا بوضع داخلي معافى بين المسلمين، بسبب سياقات الوضع الراهن في المنطقة الإسلامية والعربية بشكل عام، لذلك سيتكئ بعض تفاؤلي ولو صوريا على حوار أتباع الديانات السماوية المنعقد هناك بعيدا في اسبانيا.
وما قصدته باختلاف حوار أتباع الأديان عن غيره من الحوارات الداخلية السابقة، وإن كانت ذات دين واحد جامع بينها، هو أن الالتزامات الطوعية هناك يصعب أن تكون معلقة ومؤجلة، وفي أغلب الظن ستكون فعلية ومتابعة وجادة، وهذا في اعتقادي سيساعد في ليونة الحوارات الداخلية التي ما زالت بعض قنواتها متيبسة على أكثر من صعيد.
المحاور هناك هو آخر قادر ومتمكن وضاغط، له مؤسساته وقدراته وإعلامه وكوادره وكفاءاته، له حضوره في المسرح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والدولي، وهو إن لم يكن أقوى من حيث المكنة المادية فهو ندٌّ بامتياز، وعلينا تقدير الحال.
فالحوار هناك بين مقتدرين فرضت عليهم الظروف والقناعات أن يلتقيا خدمة لهدف مشترك، وسيسعى كل طرف لهذا الهدف بأجندته الخاصة، ومع افتراض الندية فإن الأجندات الخاصة ستسقط بوعي أتباع الديانات السماوية، وشعورهم بقوتهم، لكن لن يسقط الهدف الكبير بل سيسعى الجميع إليه بخطوات متوافق عليها بين الأطراف.
في الحوارات الداخلية قد يسهل التغيير والتبديل، وبين الأسرة الواحدة قد يسهل أن تعرض الأعذار والظروف للتأخر أو التباطؤ أو التلكؤ، وقد تعي الأسرة بالضغوط والظروف التي تضطر للتجاوب معها، وحينها يفرض عليها حالها أن تتلمس الأعذار الضاغطة وتتعامل مع المتغيرات بحثا عن بصيص أمل جديد.
والمتابع للحوار الوطني الذي بدأ بدعوة من ولي العهد آنذاك الملك عبد الله، واستمر تحت رعايته في عهد خدمته للحرمين الشريفين، يشعر بفارق كبير بين مواضيع الحوار في اللقاءين الأولين وما رافقهما من حديث عن أهداف الحوار وبين بقية اللقاءات الحوارية التي تلتهما متنقلة بين مدن المملكة.
وفي حوارات الأسرة الواحدة ليست هناك مطالب ندية تفرضها المعادلات وموازين القوى، فأغلب الحوارات تنطلق من العيش المشترك والاحترام المتبادل، ومحاولة المعالجة لكل عائق أو منفر، ومرجع كل ذلك سقف متوافق عليه يقرر ويحسم الأمور.
أما الحوارات الواسعة فكل مطلب يقابل بمطلب آخر، وقد لا يتأخر أحد المتحاورين بدعوة الآخر لتغيير بعض مفاهيمه وقناعاته كي تكون الاستجابة للمطالب متبادلة وتخدم مختلف الأطراف.
لا نغفل كذلك أن الحوارات الداخلية، قد لا تحركها وسائل إعلامية متاحة لكل الأطراف، والحال أن كل لقاء وحوار بحاجة إلى دفع إعلامي قوي، يحقق له أرضية التكوّن والتبلور في شكل برامج وقنوات عمل وتغيير حقيقية، لكنها(اللقاءات الداخلية) تتحرك إعلاميا ضمن وسائل إعلامية بطيئة لأنها تحرك أجهزتها ضمن أولويات قد تكون مرسومة بعيدا عن هم الحوار. وأحيانا تتعامل معه كحدث له مقتضيات تغطيته ضمن فترة وجيزة وكفى، ونحن نلحظ ذلك في وسائل الإعلام، فإن حركت شيئا شهدنا جميعا تموجاته وآثاره، وإن سكتت عن شيء تلاشى وصغر واندثر.
الاستفادة من مؤتمر حوار أتباع الأديان لن تقتصر على إرادة طرف واحد، ولن تخضع لحركته منفردا، بل ستحظى بدفع ورعاية عالمية كبيرة، حجمها الحقيقي هو السعة التي ينتشر عليها أتباع الديانات السماوية، ولذلك ستكون الالتزامات هناك ضاغطة، وطلبها لتنفيذ المتوافق عليه ملحا.
الأمل كبير أن تتحرك رياح الحوار هناك، لتهب علينا مؤكدة انفتاحا يتيح تداخلا بينيا أكبر بين أطياف العالم العربي والإسلامي، وأن تتوج بلادنا كمستفيد أول من هذا الحوار لا لأنها راعية الحوار فقط، بل لأن الأوان قد آن للتبني الحقيقي لقيم الحوار العملية على الأرض.