علت الأشياء وتصاغر الإنسان
للأغنياء أن يبذخوا وأن يزايدوا على بعضهم، وأن يستعرضوا أمام المجتمع ما عندهم من خير ونعمة، ليكونوا في أعين الناس ما يريدون كبارا أثرياء راقين كرماء، وإذا غفلوا كيف سيكونون في عين الرقيب الحسيب، فهم سيفوزون بنصف المعادلة، أعني سيكسبون اعتبارا ما في أعين الناس، الذين سينظرون إليهم نظرة ثراء تتوق لها نفوسهم.
لكن ما هو القول في مظاهر البذخ التي يحاول الفقراء الاقتراب منها ليحاكوا الأثرياء في مظاهرهم وزينتهم؟
ساكتفي ببعض الأمثلة التي توضح حالة الكثير من العوائل والأسر البسيطة التي بالكاد تستطيع تسيير حياتها الضرورية في الزمن الذي لا يرحم بغلائه وارتفاع أسعاره وتغيير أحواله.
بعض أقرباء الزوج والزوجة من النساء يستأجرن ملابس الحفلة من أماكن أصبحت معروفة لدى الجميع، وقسم منهن يستأجرنها من صديقاتهن كي لا يكون الثوب والموديل معروفا ومحرجا لهن أمام الأخريات، لتكون الصورة في أغلب أفراح الزواج هي أن أكثر من 70% من النساء في حفلات الزواج والأفراح التي تعنيهن لقرابة أو صداقة قوية لا يظهرن في فرحهن ومناسباتهن بما يملكن ، بل يحاولن البروز بملابس وزينة ومقتنيات أخرى يرهقهن شراؤها فيلجأن لاستئجارها.
وإذا كان هذا المنطق مقبولا عند البعض لأنه هروب وتحايل ذكي على ما هو أكثر تكلفة ومشقة وهو الشراء فسنكون مهيأين ومقبلين على عادات وظواهر أخرى لا تختلف في جوهرها عن هذه الظاهرة.
لا أتحدث في هذا الاحتمال من الفراغ، فقد نقل لي أحد الأشخاص عن نظرة التفاخر والمظاهر التي تعيشها زوجته أمام الآخرين، موضحا أنه دعا إلى منزله مجموعة لا تتعدى أصابع اليدين من أصدقائه على وجبة طعام، اشترطوا (للأخوة والميانة بينهم وبينه) أن تكون من عمل زوجته، فتفاجأ حين دعاهم إلى غرفة الطعام بأشكال وألوان الصحون والملاعق والشوك الموجودة على المائدة، وبعد ذهاب الضيوف علم أنها استعارة من إحدى صديقات زوجته.
أخبرني صاحب مكتب لتأجير السيارات، أن نمطا جديدا بدأ يسود بين الناس وهو الاستئجار لا للحاجة، بل لضرورات المظهر كما يقول، فسألته في أي أمر مثلا؟ فقال لي أبسط الأمور هو أن يذهب الرجل لدعوة في مكان يعتقد أن المشاركين فيه من العيار الثقيل (أثرياء) وأصحاب مواقع ومراكز راقية، وأضاف بعض الرجال اليوم لا يستأجرون السيارات فقط بل حتى المشالح التي يلبسونها في المناسبات.
أعتقد أن هناك سببين رئيسيين لنمو مثل هذه الظواهر:
الأول: صعود قيمة الأشياء وهبوط مكانة الإنسان أمامها، فعالم اليوم بزخمه الإعلامي الموجه أصبح عالما ماديا بحتا، صخبه وضجيجه وعروضه كلها قيم مادية، أما الإنسان المسكين فضاع في هذا العالم الجديد، لم تعد له قيمة إلا بما يملك وما يلبس وما يقتني من أشياء.
أثر هذا الصخب والضجيج في الإنسان نفسه فبدأ يفقد الثقة بقيمته وذاته وماهيته، وقبل لنفسه أن يكون أشياء ومقتنيات يصحبها إنسان، فحضوره للأفرح واستجابته للدعوات ليس حضورا لإنسانيته ذات القيمة المثمنة والمقدرة من قبله ومن الآخرين، بل هو حضور للأشياء والماديات التي يحب أن ينتسب إليها ويتزين بها وإن لم يكن مالكا لها.
ضاع الإنسان فهانت عليه نفسه وتلاشت شخصيته، وما لم يستعد الثقة بها من جديد فسيرهق في سبيل البحث عنها، وسيكلفه ذلك المزيد من البذل والإسراف والبذخ والمظاهر إلى أن يصل إلى العناء والتعب الذي لا يطاق، ليعرف أن نفسه هي أفضل وأحسن ما يعبر عن وجوده وحضوره، وعلى وجه الخصوص حين يعلم الناس أن أغلب مظاهر الآخرين كاذبة ومصطنعة ومستأجرة.
أما السبب الثاني فهو انسلاخ الإنسان التام عن مبدأ (القناعة) واستمراره في التطلع لما في أيدي الناس، بحيث يشغله مد البصر من هنا وهناك عن النظر لقدرته المادية واستطاعته الشرائية وخططه المستقبلية.
لقد قرأنا الحديث الشريف «القناعة كنز لا يفنى» ولم نلتفت إلى أن القناعة ليست كنزا للمال فقط، بل هي كنز لراحة الروح والضمير والرضا بواقع الحال مع تحمل المسؤولية تجاهه.
وقد ورد في الدعاء المأثور «اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيما آتيتني»، لن نتبارك بما أعطانا الله مهما كان عظيم عطائه لنا ما لم نعوّد أنفسنا على الشكر والقناعة، لأن الكل سيتطلع ولن تشبع عينه إلا بتراب الأرض، وتعب البال في الدنيا.
إن أغلب أسباب الفقر والقلق والتوتر هي من صنع الإنسان بنفسه، وقبوله أن يركض دون أن يضع حدا لهرولته، هذا القول لا يتناسى الواقع لكنه يحمل الإنسان قسطا مهما من المسؤولية.