الزعامات الاجتماعية بين العلم والإعلام
الزعامات الاجتماعية الوراثية أمر مألوف في مختلف المناطق والدول، وعند مختلف الجماعات والتجمعات، فجابر جاهز إذا غادر أبو جابر، والأرضية الاجتماعية قابلة لهذا الطرح الزعامي، بطريقة ما لا تحتاج معها للبحث عن مبررات، أو أن المبررات تكون محضّرة ومعدة بانتظار رؤية النور والمشافهة مع الناس فقط.
كان هذا مفتتح لا أرغب الإطالة فيه لأن وعي الناس وثقافة المجتمع قد تجاوزت بقدر معقول هذا النوع من الزعامات، وأصبح قبولها موضع شك وتندر، فبيوتات الزعامة ليست دارجة إلا في عقول أبنائها، أما المجتمع فيرى أن تغير الظروف وتبدل الأحوال، قد أفرز دماء جديدة من جواهر الرجال، ومن بقي زعامة من البيوت القديمة فلإمكاناته الذاتية وليس إرثا مكتسبا، وهو أمر يمكنه من المفاخرة والاعتزاز.
هناك أيضا زعامات اجتماعية أوصلها الثراء والمال، وجعلتها أعين الفقراء والمحتاجين في موقع الآمر والناهي، ففرض الفقر على الفقراء احتراما منقطع النظير لها، وأصبحت ذات مكانة اجتماعية بسبب غناها فقط، وليس بسبب كرمها أو عطائها أو بذل القليل من أملاكها وخيراتها.
فمجالسها ليست مقصدا للناس لبخلها، وأسماؤها لا تراها في سجلات المتبرعين التابعة للجمعيات والمؤسسات الخيرية، وإذا ما وجدت اسما بين الأسماء فتبرعه شبيه بتبرع أي مواطن بسيط الحال، ولكن للغنى مفاعيله وإن لم ينعكس على حياة الناس.
يكتب أحد الشعراء وقد ذهب إلى أحد الأطباء للعلاج، ورأى تعامله مع غني كان قبله، وكيف كانت عناية الطبيب به ومتابعته بالسماعة الطبية لضربات قلبه، ثم كيف عامله معاملة الفقير الذي لا يدار له بال ولا يمهل حتى يشتكي ما فيه من مرض، فيقول:
تالله إن شهادة طبية
صدرت بحقك كلها تزوير
قلب الغني تعيره سماعة
وتصم أذنك إن أتاك فقير
وعلى كل حال فقد تجاوزت أغلب شعوب العالم العربي والإسلامي هذين النوعين من الزعامات، والموجود منها لا يسيطر إلا على مساحة بسيطة ومحدودة جدا من البسطاء أو المنتفعين.
يرى البعض ورأيه مسموع كثيرا في أغلب المنتديات ومواقع النت أن في المنافسة الزعامية اليوم نوعين من الزعماء، النوع الأول يعتمد على الصناعة الإعلامية، فالمحطات الفضائية - وهي أكثر أثرا من وسائل الإعلام المقروءة- تلعب دورا مهما في الإظهار والإبراز والتلميع، وهي وسيلة مهمة الأثر والتأثير، ينعكس ما فيها على وعي المشاهد، ليأخذ سياقه في بُعد ما، فربما يكون- ضيف الفضائية- مقتدرا عليه وربما يكون متطفلا.
هذا الأمر هو الذي يفسر لنا- حسب رأي ذلك البعض- التفريخ والتكاثر السريع للفضائيات ذات التوجهات الدينية أو الأنماط الفكرية والمدرسية الخاصة، في فضاء العالم العربي والإسلامي، فمع إيجابياتها الحسنة التي ترقى عن التثمين بالذهب والألماس، يبقى الترميز همّاً حاضرا في دهاليزها، وهذا حق تمارسه، وحديثنا ليس عنها (الفضائيات) وإنما حول من اختارها واعتقدها طريقا للزعامة.
بكل تأكيد لا يقصد ذلك البعض تلك الإطلالات الفضائية المتجهة إلى موضوع معين (كبعض البرامج الاجتماعية والأخلاقية، والفتاوى الدينية) والتي يكون مقدموها محيطين بها معرفة وعلما، فهم قادرون على إدارتها وإفادة المشاهدين منها، وإن كانت بعض هذه البرامج ضعيفة جدا، بسبب عدم تروي مقدميها وعدم جدارتهم، ويمكن للقارئ الدخول إلى أي محرك بحث تحت عنوان (فتاوى الفضائيات) لينكشف له بعض المستور، لكنه حديث لا يرتبط بزعامة الفضائيات كما أظن.
يستطيع الإعلام أن يصنع حضورا للأشخاص لأن وجوههم تصبح مألوفة، أو لأن مادتهم التي تخصصوا في تقديمها مفيدة، لكنه لا يستطيع أن يبني زعامات حقيقية في وجدان الناس، ومؤثرة في معادلات المجتمع، ولعلي أدعي أن الإعلام يساعد أحيانا في كشف الإمكانات التي يمتلكها المتحدث (فالمرء مخبوء تحت لسانه)، فقد ينجح حضورا في أوساط الناس، وقد ينتكس لأن الصمت ستر يتحمل من رفعه تبعاته.
كما أن الواقع يكذب أن تكون قيادة أو زعامة في مجتمع ما قد صنعها الإعلام، فالقيادة الحقيقية هي مهام، وبرنامج، وقدرات خاصة يتعب القادة في تنميتها، وهذا يكشف لنا أن اتهام الإعلام بصناعة الزعماء، اتهام ظالم لتلك الشخصيات، ومحاولة فاشلة لسلبهم محاسنهم.
وكما هو خطأ أن نعتبر الإعلام صانعا للقادة، فإن الأكثر خطأ أن نعتقد أن العلم يصنع الزعماء والقادة، فالرتب الأكاديمية والعلمية والدينية لا تصنع قادة ولا زعماء، ولو كانت تفعل ذلك لملئت الأرض زعامات وقيادات لكثرة الألقاب العلمية والدينية، بينما الحال يكشف أن العلماء كثير والقادة قليل، وموعدنا الأسبوع المقبل لإكمال الموضوع إن شاء الله.