سماحة الشيخ في الشرق الأوسط:
نحو علاقة أفضل بين السلفيين والشيعة
شهد تاريخنا الإسلامي الطويل الكثير من المعارك والنزاعات الفكرية والمذهبية التي أحدثت شروخاً في السلم المجتمعي، وأوجدت نوعاً من الاحتراب الأهلي، وكان العامل السياسي وراء قسم كبير منها، حيث كانت بعض القوى الداخلية والخارجية، تغذي هذه الصراعات وتدفع باتجاهها لإشغال جمهور الأمة عن قضاياهم الأساسية، ولاستنزاف قواهم فيما بينهم، حتى لا يتحدوا مقابل تلك القوى المهيمنة، أو الراغبة في التسلط.
وكان التعصب المذهبي، بما يعني من سعي لفرض الرأي، ورفض للرأي الآخر، هو الأرضية لتلك النزاعات والصراعات.
أما تعدد المذاهب، واختلاف الآراء، فتلك حالة طبيعية لا مناص منها، ولا ضير فيها، ما لم يصحبها التعصب البغيض، وممارسة الاستبداد والإرهاب الفكري.
وقد تعافت أمتنا الإسلامية من كثير من جراحات الخصام الفكري والمذهبي التي أصابت كيانها في غابر التاريخ، كالصراع بين الجبرية والقدرية، وبين المرجئة ومخالفيهم، وبين الأشاعرة والمعتزلة، وما نتج عنها من نزاع حول خلق القرآن أو قدمه، وكذلك النزاعات بين المذاهب الفقهية، كالخلاف بين الأحناف والشافعية، وبين الحنابلة والأحناف، وبين الشافعية والحنابلة.
هذه الصراعات التي كانت حادة في قرون سابقة، تجاوزتها الأمة، وأصبحت مجرد حوادث وذكريات في التاريخ، وآراء ومسائل في الكتب، لها بعض الآثار الفكرية والاجتماعية في الامتدادات الحاضرة لتلك المذاهب والمدارس، لكنها لا تشكل الآن فرزاً حاداً ولا خلافاً متشنجاً.
لقد بقي الخلاف السني الشيعي كأوسع ثغرة في جدار وحدة الأمة الإسلامية، تنفذ منه رياح الفتن، وتتسلل مطامع الأعداء ومؤامراتهم. وقد تحرك العلماء المصلحون من السنة والشيعة مطلع هذا القرن، لسدّ هذه الثغرة الخطيرة المتبقية من ثغرات الخلافات الكلامية والفقهية. وكان من مظاهر هذا التحرك الإصلاحي تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في الخمسينيات، وإنتاج خطاب وحدوي يؤكد القواسم المشتركة، ويحرر محل النزاع ضمن إطار الخلاف الاجتهادي عقدياً وفقهياً.
وبفضل ذلك التحرك المبارك، المشار اليه اعلاه، أمكن التخفيف من حدة الخلاف بين الفريقين بشكل عام، ونشأت علاقات إيجابية طيبة بين جهات واعية من الطرفين، بل حصل التعاون في مشاريع مشتركة لخدمة المصلحة العليا للأمة، مما عزز الأمل بإمكانية تجاوز الأمة لهذه المشكلة في هذا العصر، ليس على أساس تنازل أحد الطرفين عن شيء من قناعاته للآخر، وإنما على أساس الضوابط التالية:
* الإقرار بجامعية الإسلام للطرفين.
* الاحترام المتبادل.
* اعتماد نهج الحوار في قضايا الخلاف.
* تفعيل التعاون في خدمة المصلحة العامة للإسلام والمسلمين.
لكن بعض البؤر الساخنة على خط الخلاف السني الشيعي، أربكت هذه المسيرة، وأضعفت حركتها، وفي طليعة هذه البؤر: التشنج القائم في العلاقة بين السلفيين والشيعة.
فالمدرسة السلفية تمثل تياراً نشطاً في أوساط أهل السنة، وهو الأكثر امتلاكا لأدوات التأثير. ويمتاز هذا التيار غالباً بالصرامة في الموقف تجاه الرأي الآخر، لذلك كان معارضاً لدعوة التقارب والتقريب بين السنة والشيعة. وقد نشر الدكتور ناصر بن عبد الله القفاري أخيرا دراسة حول (مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة) تقع في مجلدين، طبعت أكثر من مرة، وانتهى فيها إلى أن «دعوة التقريب هي البدعة الكبرى التي أرادت أن تعطي الكفر والضلال والإلحاد صفة الشرعية واسم الإسلام، وقد سببت دعوة التقريب خسارة كبرى لأهل السنة، وضرراً كبيراً لا يتصوره إلا من وقف على عدد القبائل التي رفضت بجملتها، فضلاً عن الأفراد...».
وهذا كلام غريب يكشف عن أن سبب معارضة التقارب هو الخوف من تأثير الشيعة على جمهور أهل السنة، ولماذا لا يحصل العكس؟! فالأقليات هي التي تخشى عادة من الذوبان في محيط الأكثرية إن لم تحصّن نفسها بأسوار العزلة والانغلاق.
في المقابل هناك ردّ فعل شيعي عنيف، تمثل في صدور عدد من الكتب والمطبوعات، التي تهاجم الاتجاه السلفي تحت عنوان (الوهابية) وهي تسمية لا يرتضيها السلفيون لأنفسهم.
لا شك أن هناك وضعاً خطيراً تواجهه الأمة الإسلامية في هذا المقطع الزمني، لا نظير له فيما سبق من تاريخها، والتيار السلفي هو في قلب دائرة هذا الوضع الخطير، باعتباره جزءاً من الأمة، ولأن بعض الممارسات والمواقف المنسوبة إليه، هي التي أنتجت هذه التداعيات الخطيرة، مما جعله في طليعة المستهدفين، دولياً وإقليمياً.
هذه المعادلة ألا تستدعي من هذا التيار إعادة النظر في علاقاته ومواقفه من سائر الأطراف والجهات في ساحة الأمة؟
إن مما لا يشك فيه عاقل أن حال التشنج والنزاع داخل الأمة، يضعف قدرتها على مواجهة التحديات العاصفة، كما يتيح الفرصة للأعداء كي يلعبوا بأوراق هذا النزاع، لذلك فإن مدّ يد التعاون والتحالف من قبل السلفيين للأطراف الإسلامية الأخرى، هو من أوليات ما يدعو إليه العقل والشرع.
أليس من المثير للدهشة والاستغراب أن نرى تسارع خطوات التقارب والتنسيق بين اليهود والمسيحيين، وهم أهل ديانتين متناقضتين متصارعتين، بينهم خلاف عقدي عميق، وصراع تاريخي طويل، لكنهم يتجاوزون كل ذلك، ويتعاونون تجاه ما يرونه خطراً مشتركا، بينما نعجز نحن المسلمين عن تجاوز خلافاتنا، والاقتراب من بعضنا، ونحن أهل دين واحد، ونبي واحد، وبيننا هذا القدر الكبير من الجوامع والقواسم المشتركة، ونواجه التحديات والأخطار العاصفة؟!
بغض النظر عن الجانب السياسي، والمصلحة (التكتيكية) التي يقتضيها الظرف القائم، فإن مسألة الموقف من الرأي الآخر، قضية تستحق إعادة النظر والمراجعة، من قبل الإخوة السلفيين، حكماً وموضوعاً.
فالمرجعية الثابتة هي الكتاب والسنة، أما آراء فقهاء السلف فهي مع الاحترام لهم، اجتهادات قابلة للأخذ والردّ، ولعل المراجعة المباشرة لنصوص الكتاب والسنة، من قبل العلماء والفضلاء السلفيين المعاصرين، تفتح أفقاً جديداً في تغيير وتعديل هذا الموقف الصارم من الرأي الآخر. هذا على مستوى الحكم.
أ
ما على مستوى الموضوع، فبناء على أن الحكم على شيء فرع لتصوره، فإن أحكام العلماء السلفيين السابقين على الطوائف والاتجاهات الأخرى، ومن بينها الشيعة، جاءت نتيجة تصوراتهم وتقويماتهم، لواقع تلك الطوائف، واحتمال الخلل في تلك التصورات والتقويمات أمر وارد، إما لعدم الدقة في معرفة الطرف الآخر، أو للالتباس في فهم آرائه، أو للأخذ ببعض الآراء وتعميمها على الجميع، وقد تكون هناك آراء وتوجهات سائدة لديهم في تلك العصور لكنها تطورت وتغيرت فيما بعد، كل هذه الاحتمالات ينبغي أن تدفع المعاصرين من السلفيين، لقراءة واقع الشيعة القائم اليوم في آرائهم وتوجهاتهم.
فمثلاً كانت المدرسة السائدة عند علماء الشيعة في عصور سابقة: هي المدرسة الإخبارية التي يرى أقطابها صحة ما ورد من أحاديث وروايات في الكتب الأربعة (الكافي للكليني ت 329هـ، من لا يحضره الفقيه للصدوق ت 381هـ، التهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي ت 460هـ) لكن المدرسة الإخبارية قد انقرضت أو تقلصت إلى حد كبير، وأصبح الاتجاه السائد منذ ثلاثة قرون تقريباً هو المدرسة الأصولية التي لا ترى قطعية صدور كل ما ورد في الكتب الأربعة، بل تخضع مروياتها للدراسة والنقد.
ومثال آخر يرتبط بما يأخذه السنة والسلفيون على الشيعة من الإساءة إلى الخلفاء الثلاثة، فإذا كان ذلك موجوداً في بعض كتب الشيعة وماضيهم وتراثهم، فإنه قد يكون ناتجاً عن الظروف التي كانوا يعيشونها آنذاك من القمع والاضطهاد، لكن الواقع الفعلي للشيعة بعيد عن مثل هذه الأمور، فالشيعة الإيرانيون مثلاً وقد أصبحت السلطة بيد علمائهم منذ ربع قرن، ودولتهم من أقوى دول المنطقة، إلا أن وسائل إعلامهم، وخطب جمعهم التي تبث على الهواء، وأحاديث قياداتهم، لم يحصل فيها شيء من هذا القبيل، حتى أيام الحرب العراقية الإيرانية.
وكذلك الحال بالنسبة للشيعة في لبنان، وهم القوة الأبرز هناك، ومع النصر العظيم الذي حققوه على العدو الصهيوني، إلا أن وسائل إعلامهم، مثل فضائية «المنار»، لم يرصد عليها شيء من الإساءة إلى الخلفاء، وأجلاء الصحابة، وأمهات المؤمنين.
إن في ذلك دلالة واضحة على تجاوز واقع الشيعة المعاصر لمؤاخذات كانت تحسب على بعضهم في أزمنة غابرة. وقد يكون هناك أفراد منهم متأثرين ببعض الآراء والمواقف السابقة، لكنهم لا يشكلون حالة عامة تبرر التنميط والتعميم. كل هذه الحيثيات وأمثالها، تتطلب من فضلاء المدرسة السلفية المعاصرة، إعادة النظر والمراجعة في الموقف تجاه الشيعة، وسائر الطوائف الإسلامية، وتجاوز حالة الغلو والتشدد تجاه الرأي الآخر، بما يخدم وحدة الأمة، ويتناسب مع سماحة الإسلام، وتحذيره من التكفير والظلم وسوء الظن في أحد من أهل القبلة.
مهما كانت إشكاليات السلفيين على الشيعة، وإشكاليات الشيعة على السلفيين، فإن الجميع يعيشون في منطقة واحدة، ولا يستطيع أحد الطرفين إبادة الآخر، ولا أظن أنه يفكر في ذلك، وهم جميعاً أهل هذه الأرض، وأبناء ترابها، لا يحق لأحدهما المزايدة على الآخر في الأصالة وعمق الانتماء.
أما المراهنة على تغيير المعتقدات والقناعات بالترغيب أو الترهيب، فقد ثبت فشلها.
إن بقاء حال التشنج والقطيعة، ما عادت تحتمله ظروف البلاد، وقد صرح بذلك كبار المسؤولين في القيادة السياسية، وفي طليعتهم ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز الذي بادر للدعوة إلى الحوار الوطني بين مختلف المذاهب والأطياف. وجاءت توصيات اللقاء الوطني الأول والثاني لتؤكد هذه الحقيقة، وتدعو الجميع إلى الانصهار في بوتقة الوطن مع الإقرار بالتنوع المذهبي والفكري.
فالتعايش هو الخيار المنطقي الصحيح، ولا بديل عنه إلا التفريط بمصلحة الوطن، وتمزيق وحدة الأمة، ومساعدة الأعداء على نيل أطماعهم ومآربهم.
والتعايش لا يتحقق إلا بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص، من دون تمييز أو تصنيف، وبالاحترام المتبادل بالتوقف عن التعبئة والتحريض من كل جهة تجاه الأخرى. إنني أدعو نفسي وأبناء مجتمعي من الشيعة إلى ضبط الانفعالات، ومراعاة مشاعر إخوانهم من أهل السنة بمنع أي إساءة لأحد من الخلفاء وأجلاء الصحابة قد تصدر من جاهل أو مغرض منهم، وبأن ينفتحوا أكثر على الآخرين، ويتجاوزوا بعض حالات الانكفاء والانغلاق. كما أدعو إخواني من العلماء والدعاة السلفيين، وكل الواعين والمخلصين منهم، إلى إعادة النظر في موقفهم المتشدد تجاه إخوانهم الشيعة، والذين لا يقلون عنهم حرصاً على العقيدة، والتزاماً بالدين، وولاءً للوطن، وإن اختلفوا معهم في بعض التفاصيل العقدية والفقهية، لأدلة يقتنعون بها، ولاجتهاد قادهم إليها، يرونه حجة فيما بينهم وبين الله تعالى.
ينبغي الكف عن فتاوى التكفير، وخطابات التحريض التي قد تصدر من البعض، واستبدالها بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى في محكم كتابه.