الليلة الأولى: القيم والشعائر الدينية
قال الله العظيم في كتابه الحكيم: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ سورة الحج، 32.حديثنا هذه الليلة بعنوان: القيم والشعائر الدينية ويتضمن ثلاثة محاور:
المحور الأول: جوهرية القيم ورمزية الشعائر.
المحور الثاني: الشعائر بين الوسيلة والغاية.
المحور الثالث: فلسفة الشعائر الولائية والحسينية.
المحور الأول: جوهرية القيم ورمزية الشعائر
الدين في حقيقته مجموعة من القيم والمبادئ يؤمن بها الإنسان وينطوي عليها قلبه، هذه المبادئ هي التي تشكل رؤية الإنسان للحياة وهي التي تحدد له مواقفه وسلوكياته، مجموعة من القيم والمبادئ منها قيمة العبودية لله سبحانه وتعالى والإيمان برسله وشعائره، والإيمان بإقامة العدل والقسط والإحسان إلى الناس إلى الخلق، وبقية القيم التي يؤمن بها الإنسان المؤمن والتي تحدثت عنها آيات القرآن الحكيم: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ (البقرة، 285)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ﴾ (النحل، 90). وبقية الآيات الكريمة التي تحدثت عن المبادئ والقيم الأساسية في الدين. الإنسان لا يكون متدينا إلا حينما يؤمن بهذه القيم، وإذا اختل إيمانه بهذه القيم فإن كل سلوكياته الصالحة لا تعوض عن هذا الخلل، القرآن الكريم يؤكد أن الإيمان هو الأصل ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ (الرعد، 29)، لا بد من وجود إيمان بالقيم والمبادئ أولا، هذا الإيمان يشكل أرضية للعمل الصالح وينطلق منه الإنسان للعمل الصالح، أما إذا قام الإنسان بأعمال صالحة جيدة ولكن دون أن يكون منطلقا من منطلق إيماني فإنها لا قيمة لها عند الله، الله تعالى يقول:﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ (غافر، 40) وفي آية أخرى:﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ (الأنبياء، 94). إذن الأصل في التدين وفي الدين هو الإيمان بالمبادئ والقيم التي من خلالها ينظر الإنسان إلى الحياة ، يرى كل شيء من منظار هذه القيم والمبادئ، مواقفه وسلوكياته وأعماله ينطلق فيها من هذه الأرضية الإيمانية الصلبة الثابتة.
هذا هو الإيمان في حقيقته، كل إنسان في أعماله ومواقفه ينطلق من خلفية، أعمال الإنسان لا تأتي جزافا ولا تأتي ارتجالا ، كل إنسان في أي عمل وفي أي رأي لا بد وأن تكون له خلفية ينطلق منها قد تكون أرضية صالحة صحيحة كالأرضية الإيمانية وقد تكون أرضيته هي الأهواء والشهوات والتوجهات المنحرفة، لكن لا بد وأن ينطلق من أرضية، أنت ترى الإنسان يتكلم ترى لدى الإنسان أفكار وانطباعات وآراء له مواقف وسلوكيات لكن يجب أن تعرف أولا المنظار الذي ينظر من خلاله المنطلق الذي ينطلق منه ما هي خلفيته ما هي المبادئ والقيم التي انطلق منها، لا يوجد إنسان يتحرك دون أن يكون منطلقا من خلفية معينة، إما أن تكون خلفية صالحة أو تكون خلفية فاسدة ولذلك يقول القرآن الكريم:﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (الإسراء، 84)، كل إنسان أعماله تكون طبقا لشاكلته يعني لشخصيته الذاتية الداخلية لتركيبة نفسه وتوجهاته الداخلية يعمل انطلاقا منها، حتى المنحرفون الفاسدون هم ينطلقون من أرضية معينة، لهم مبادئ شهوانية ينطلقون منها ولذلك يقول القرآن الكريم:﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ (الجاثية، 23)، لديه إله يأمره فيخضع له، غاية ما هناك أن إلهه هو الهوى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ فكل إنسان له أرضية له مبادئ له قيم ينطلق منها، التدين والدين هو في حقيقته تلك المبادئ تلك القيم الصحيحة التي يؤمن بها وينطلق منها في حياته ومواقفه وسلوكه. لكن على اعتبار أن هذه القيم حالة ذهنية نفسية موجودة في داخل فكر الإنسان وعقله ووعيه ولا وعيه، والإنسان وهو يعيش في الحياة يستغرق في قضايا الحياة فيحتاج إلى ما يذكره بتلك القيم يحتاج إلى ما يؤكد في حياته تلك القيم، وإلا تبقى أفكار مجردة تبقى مشاعر وانطباعات ومبادئ في داخل نفسه، فلا بد له مما يذكره، لا بد من وجود أشياء تذكره بالقيم والمبادئ التي يؤمن بها.
ما هي تلك الأشياء؟ الأشياء يطلق عليها شعائر، الشعائر دورها أنها تذكر الإنسان بالقيم التي يؤمن بها، تؤكد في نفسه تلك القيم التي يؤمن بها وتفعلها في حياته. إذن عندنا قيم ومبادئ يؤمن بها الإنسان وعندنا شعائر، أي ممارسات خارجية يقوم بها الإنسان، هذه الممارسات .. هذه الشعائر وظيفتها تأكيد القيم والتذكير بها وربط الإنسان بتلك المبادئ التي يؤمن بها ولذلك أطلق عليها شعائر، الشعائر جمع شعيرة وعي مشتقة من الشعار، الشعار هو العلامة ، وعند العرب: ما يتخذه الجيش في الحرب من علامة له يطلق عليه شعار، وإذا سافر قوم فوضعوا لهم علامة حتى يعرف أتباعهم أنهم يخيمون هنا وأنهم موجودون هناك هذه العلامة يقال لها شعار القوم، ولذلك أطلق على الهدي الذي يسوقه الإنسان من أجل أو يذبحه في نسك الحج أنه من الشعائر، لأنه يشعر بذلك الهدي، يجعل عليه علامة، يوجد شقا في سنامه أو يعلق شيئا في رقبته كعلامة، هذا الحيوان هدي مساق للكعبة، هديا بالغ الكعبة، هذا إشعار.
الشعائر جمع شعيرة والشعيرة هي العلامة من الشعار أي من العلامة، مجموعة من الممارسات والأنشطة والأعمال تمثل علامات ورموز، دورها تذكير الإنسان بتلك المبادئ والقيم التي يؤمن بها. هذا هو معنى الشعائر. لدينا قيم يؤمن بها الإنسان في نفسه وفي قلبه، وممارسات خارجية تذكره بتلك المبادئ والقيم التي يؤمن بها حتى لا ينساها أو يغفل عنها ولا ينحرف عن انعكاساتها في الحياة.هذه هي الشعائر.
هذا بالنسبة للمحور الأول (جوهرية القيم) الدين في جوهره تلك القيم والمبادئ هذا هو الدين هذا هو جوهر الدين (ورمزية الشعائر) الشعائر مجرد رموز ودلالات، مجرد علامات تذكر الإنسان وتشير إلى تلك التوجهات القيمية الإيمانية.
المحور الثاني: الشعائر بين الوسيلة والغاية.
الشعائر وظيفتها تذكير الإنسان بالقيم، فهي وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، وهذا ينطبق على جميع العبادات والفرائض الإسلامية، القرآن الكريم يتحدث عن العبادات المفروضة على الإنسان باعتبارها وسائل يراد منها تذكير الإنسان بتلك المبادئ. مثلا:حينما يتحدث القرآن الكريم عن الصوم، لماذا فرض الله الصيام على الإنسان؟ 12 إلى 16 ساعة الإنسان يمسك عن الطعام وعن الشراب وعن لذاته الجنسية وعن مجموعة من الأشياء المباحة له بشكل طبيعي فيما عدا فترة الصوم، لماذا يمسك عنها، ما الهدف من الصوم؟ القرآن الكريم يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة، 183). إذن الصيام وسيلة لتحقيق هدف آخر ما هو الهدف؟ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، تحصيل التقوى. الصلاة هذه العبادة التي يجب على الإنسان المسلم أن يؤديها خمس مرات في اليوم والليلة، لماذا يؤدي الإنسان هذه الصلاة؟ هل هي مجرد حركات؟ هذه الحركات إنما هي رمز للالتزام بمبادئ للالتزام بقيم ولذلك يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ (العنكبوت، 45) الصلاة وسيلة من أجل تحقيق هدف، توجد عند الإنسان اندفاعا للخير وتوجد عنده عزوفا عن الفحشاء، عن الشر، هذا هو الهدف من الصلاة.وحينما يتحدث القرآن الحكيم عن الحج وعن مناسك الحج ومن مناسك الحج الهدي حينما يذبح الإنسان هديه الله تعالى يقول:﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ (الحج، 37)، لحم الهدي لا يصل إلى الله، دم الهدي لا يصل إلى الله وإنما يناله التقوى، فهي مجرد وسائل، هذه المناسك .. هذه الشعائر وسائل لتحقيق غاية، ولذلك جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: (ألا وإن للإسلام غايات فانتهوا به إلى غاياته).
وهنا يجب أن تتضح جدلية العلاقة بين الوسيلة والغاية، بعض الناس ينشغلون بالوسيلة عن الغاية، ينشغل بالصلاة .. أعمال الصلاة، طريقة الصلاة وكأن الصلاة مقصودة لذاتها فقط، ولا يهتم بالغاية التي شرعت الصلاة لأجلها، يصلي ولكن لا يندفع إلى المعروف ولا يجتنب عن المنكر، إذن ما قيمة هذه الصلاة؟! يصلي ولكن صلاته لا قيمة لها! وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم:﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ﴾ (الماعون، 4)، يصفهم بأنهم مصلون ولكن يقول ويل لهم!﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ﴾ كيف مصلين ولهم الويل؟! يقول نعم ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ (الماعون، 5)، هم يصلون ولكنهم ساهون عن صلاتهم ، ماذا يعني يصلي وهو ساه عن صلاته؟ المعنى ليس ساه عن أداء صلاتها، لو كان لا يؤديها لما وصف بأنه مصل، يقول مصلين، ويل للمصلين، يعني هم لا يسهون عن صلاتهم بمعنى يسهون عن أداء الصلاة، إنهم لا يسهون عن أداء الصلاة إنهم مصلون ولكن لهم الويل لأنهم ساهون عن الصلاة أي ساهون عن هدف الصلاة .. ساهون عن غاية الصلاة.
قبل أسبوعين نشرت الصحف عن مصل من المسلمين في أحد الدول الغربية، صلى صلاة الصبح في المسجد، وبعد أن انتهى من صلاته مال إلى شخصين معه في المسجد يصليان صلاة الصبح أخرج سكينا وذبحهما في المسجد، هذا شخص مسلم ينتهي من صلاته ويعتدي ويسفك دما حرام في مسجد!!!
ونقلوا في تاريخ بغداد عن أحد الحاكمين أو عن أحد القضاة في الزمن الماضي في بغداد، يقولون كان هذا القاضي ظالم يسفك الدماء بدون حق، في ليلة من الليالي كان يتعبد، لديه أوراد يصلي صلاة الليل فجاءه أحد الكتاب أو العاملين عنده، دخل عليه وهو يصلي، ثم دخل عليه مرة ثانية، انفتل من صلاته وقال: مالك؟! أكثرت الدخول علي تشغلني عن أورادي، قال: أسألك عن المتهم فلان عندنا سجين متهم، قال: أعدموه ولا تشغلني بموضوعه عن أورادي، صلاة الليل بالنسبة له مهمة، يهتم بها ولا يريد أحدا يشغله عنها، لكن ذاك المتهم (اقتلوه) ليس له قيمة عنده!!،
هل هناك قيمة لهذه الصلاة؟! هذه صلاة لا قيمة لها، ولذلك يقول تعالى:﴿ فويل للمصلين﴾، نموذج شريحة من المصلين هم يصلون ولكن لهم الويل، ﴿الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾ يؤدون الصلاة ولكنهم ساهون عن الصلاة، ليسوا ساهين عن أداء الصلاة، ولكنهم ساهون عن أهداف الصلاة. وهذا جاء في سياق آيات في هذه السورة الكريمة سورة الماعون: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم*أرأيت الذي يكذب الدين* فذلك الذي يدع اليتيم* ولا يحض على طعام المسكين*فويل للمصلين﴾ إنسان مصلي ويرى إلى جانبه حالات الجوع والفقر ولا يهتم بذلك، ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ وجود حالات جوع وفقر هذا منكر كيف تسكت عن هذا المنكر؟! لماذا لا تقوم بواجبك في مساعدة هؤلاء الجياع هؤلاء الفقراء؟ إذن تدينك كاذب ليس تدينا صادقا، التدين الصادق هو الذي يوصل الإنسان إلى أهداف الدين، إلى غايات الدين، ﴿أرأيت الذي يكذب بالدين﴾ من هو الذي يكذب بالدين؟ لم يقل فذلك الذي لم يصل، لم يقل فذلك الذي لم يصم، لأن الكلام هنا عن أهداف الصلاة والصوم ﴿فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين* فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون* الذين هم يراؤون﴾ يؤدون الصلاة كنوع من العمل الظاهري يتكيفون به مع البيئة التي يعيشون فيها، عادة تعودوها ﴿ويمنعون الماعون﴾ يمنعون مساعدة الناس، المعونة البسيطة، لا يساعدون المحتاجين هؤلاء لا قيمة لصلاتهم، وعندنا نصوص وروايات كثيرة تتحدث عن المظاهر والعبادات والشعائر إذا لم يصل بها الإنسان إلى أهدافها وغاياتها ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:«كم من صائم صائم ليس له من صومه إلا الجوع والظمأ وكم من قائم قائم ليس له من قيامه إلا التعب والعناء»، هو يصلي لكن لا قيمة لصلاته، لأن صلاته لا تؤدي دورها في شخصيته وسلوكه، فإذن هذا تفريط أن يصلي الإنسان دون أن يهتم بأهداف الصلاة، يمارس المظاهر الدينية دون أن يصل إلى حقيقة التدين.
من جانب آخر بعض الناس أيضا يتصورون أنه ما دامت الأهداف والقيم هي الأساس فإذن لا قيمة لهذه الوسائل، نحن نهتم بالقيم فلا داعي لأن نهتم بهذه الوسائل، القيم: القيم الإيمانية الأساسية: حب الناس مساعدة الناس، الإيمان بالله تعالى، إذا كانت في قلبي هذه القيم موجودة وأنا مهتم بها فالصلاة ليست أمرا مهماً!!! وبعضهم يفهم الآية الكريمة﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ (الحجر، 99)، بهذا الشكل: أن الإنسان يتعبد ويصلي إلى أن يصل إلى مستوى يتمكن اليقين في قلبه، الإيمان والقيم والمبادئ تتمكن في قلبه وبعد ذلك لن يكون محتاجا إلى الصلاة والصوم، بالطبع هذا فهٌ خاطئ، يأتيك اليقين: اليقين هو الموت، أي أن الإنسان ينبغي أن يعبد الله وأن يبقى خاضعا لله تعالى إلى آخر لحظة من لحظات حياته هذا الفهم الخاطئ أن الهدف أن يكون الدين في قلب الإنسان، البعض يقول الدين في القلب، الإيمان في القلب، هذه المظاهر ليست أمرا مهما، هذا خطأ وإفراط، (لا إفراط ولا تفريط)، ليس صحيحا أن نقف عند حدود مظاهر التدين وشعائر التدين ونغفل عن أهداف الدين وغاياته وأيضا ليس صحيحا أن نستهين بهذه الوسائل.
التتمة فيما بعد