التقارب السني الشيعي بين حق الاختلاف ودعوى امتلاك الحقيقة
نص إجابات سماحة الشيخ الصفار على أسئلة الأستاذ وحيد تاجا من كتاب «التقارب السني الشيعي بين حق الاختلاف ودعوى امتلاك الحقيقة»:
بعد وفاة الرسول الأعظم انقسم المسلمون إلى مذاهب وطوائف. ما الأساس في هذا الانقسام، وكيف ننظر إلى مسألة المذهبية في الإسلام؟
الأساس في انقسام المسلمين هو الاختلاف على موضوع القيادة بعد رسول الله، فقد كان الرسول في حياته هو القائد السياسي للأمة وهو المرجعية الدينية لها. وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى شغرت هاتان المهمتان. فبادر جمع من الصحابة لمبايعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة كخليفة لرسول الله، ليملأ فراغ الزعامة السياسية، دون تحديد لجهة المرجعية الدينية، بل تركت لحالة التوافق بين الصحابة على معالجة أي مسالة شرعية طارئة مع دور محوري للخليفة في الترجيح عند اختلاف الآراء.
وهكذا بمرور الزمن وتوالي الخلفاء تبلورت مدرسة الخلافة التي تفصل بين القيادة السياسية والمرجعية الدينية، كما ترى أن اختيار القيادة شأن اجتماعي فبأي طريقة وصل بها أحد إلى موقع السلطة انعقدت له الولاية ووجبت له الطاعة. سواء كان وصوله عن طرق اختيار أهل الحل والعقد، أو انتخاب الجمهور العام، أو بعهد من الخليفة السابق، أو بالقوة أو بالتوارث كما في عهدي الأمويين والعباسيين. وظهرت ضمن هذه المدرسة المذاهب العقدية والفقهية لأهل السنة والجماعة.
في مقابل هذا الرأي لمدرسة الخلافة كما نسميها كان هناك رأي آخر لأهل البيت وفي طليعتهم الإمام علي بن أبي طالب، وفاطمة بضعة رسول الله، والعباس عم النبي، والحسنان سيدا شباب أهل الجنة، وبعض من الصحابة كسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأمثالهم، حيث يرون أولوية الإمام علي بخلافة رسول الله ، لنص الرسول عليه بذلك ولأفضليته على من سواه من الأصحاب، وأنه المؤهل للقيام بدور القيادة السياسية والمرجعية الدينية. وبعده الأئمة من ولده.
وتبلور هذا الرأي فيما بعد خاصة بعد استشهاد الإمام الحسين في كربلاء، وظهرت الاتجاهات الشيعية المختلفة. وأبرزها المذهب الجعفري الاثنا عشري والزيدية والإسماعيلية.
كما أن الاختلاف على قضية التحكيم في أوساط جيش الإمام علي في صفين كان أرضية انبثاق تيار الخوارج وما تفرع منه من توجهات.
ويمكن النظر إلى المسالة المذهبية في الإسلام أنها تمثل اختلاف الاجتهادات والرؤى في الفكر والتشريع الإسلامي.
تتفاوت النظرات إلى موضوع الانقسام المذهبي والطائفي في العالم الإسلامي. وفي حالات تاريخية كثيرة، أدى الانقسام إلى صراعات وخلافات. هل ما زال المسلمون بانقساماتهم أسرى الموروث في الانقسامات؟
في دين يرى المجتهد مأجوراً؛ إن أخطأ فإن له أجراً واحداً وإن أصاب فله أجران، كما هو مفاد حديث شريف يتناقله المسلمون بمختلف مذاهبهم.يفترض أن لا يؤدي اختلاف الاجتهادات في هذا الدين إلى صراعات وحروب، لكن العامل السياسي أو المصلحي بشكل عام هو الذي يحوّل اختلاف الرأي إلى مبرر للنزاع والاحتراب، حيث تنحاز السلطات إلى بعض الآراء وتسعى إلى فرضها على الناس، وتقمع الرأي الآخر، أو تستخدم بعض العلماء والفقهاء كواجهات لإضفاء الشرعية على حكمها، أو تستفيد من افتعال الخلافات الدينية لإشغال الأمة بها عن واقعها السياسي.
وهناك عامل آخر هو التطرف الفكري، الذي يدفع بعض الجهات الدينية لمحاولة فرض آرائها ومحاربة الرأي الآخر بأساليب الإرهاب الفكري والتسقيط الاجتماعي، وأخيراً استخدام القوة والعنف.
هذا التطرف الذي يصوّر لأصحابه أنهم وحدهم المحقون وان ما عداهم على باطل وأهل عناد، وقد يصدرون في الآخرين فتاوى التكفير والتضليل والاتهام بالشرك والابتداع.
ونتيجة لهذين العاملين أصبح للأمة تاريخ من الصراعات الدينية المذهبية، وتراث من الجدل والمناكفات والتشويه المتبادل للصورة من كل طرف تجاه الآخر، وكذلك التحريض على الكراهية والتعبئة المتبادلة.
ومع الأسف الشديد فإن آثار ذلك التاريخ، وانعكاسات ذلك التراث لازالت مؤثرة في الجيل الحاضر من أبناء الأمة، مما يجعل ساحة الأمة أرضية خصبة للفتن، وأجواءها مهيأة للاستجابة للإثارات الطائفية.
خاصة مع حضور العامل السياسي الداخلي والخارجي الذي يوظف هذا الاستعداد لصالح مطامعه ومخططاته.
هل مشكلة المذهبية هي حكر على الصراع بين الشيعة والسنة؟ أو أن الأمر مستفحل بين مذاهب الفرقة الواحدة (ومنه ما شهده القرن الرابع والخامس الهجريين من اقتتال دامٍ بين أصحاب المذاهب الأربعة السنية، أو الصراع بين الإخباريين والأصوليين داخل المذهب الشيعي) والسؤال ولماذا انتهت الحروب بين مذاهب أهل السنة وتم اعتبار الاختلافات غنى للإسلام ولكنه لم يتم مع المذهب الجعفري أيضا؟
البعد الفكري للصراع المذهبي يتمثل في الموقف من وجود رأي آخر، فهناك من يرفض ذلك، ويرى أنه وحده له الحق في تكوين رأي وفي تفسير النص الشرعي، وفهم الدين، وعلى الآخرين أن يأخذوا برأيه ويذعنوا له، ولا يجوز لهم أن يخالفوه فيما رآه وذهب إليه، فإن فعلوا ذلك تصدى لهم بالمواجهة والإساءة والعداء.
صاحب هذه العقلية يصارع من يخالفه في الدين، ثم من يخالفه في المذهب، ثم من يخالفه في الرأي داخل المذهب.
لذا فإن معارك الصراعات لا تقتصر على حدود المذهب، وإنما تشتعل داخلها أيضاً.
ففي الساحة السنّية هناك معارك كما بين السلفية والصوفية، بل وجدنا أخيراً إحياءً للمعركة ضد الأشاعرة، بل هناك معارك داخل السلفيين أنفسهم.
وفي الساحة الشيعية هناك معارك بين التجديديين والمحافظين على المستوى الفكري، ومعارك بين بعض المرجعيات.
إن الساحة الدينية بمختلف مذاهبها بحاجة إلى إقرار مبدأ التعددية، والاعتراف بالرأي الآخر واحترامه، واعتماد نهج الحوار ومقارعة الحجة بالحجة دون إساءة أو عدوان، بل كما يأمر القرآن الكريم: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة النحل: الآية125].
ولاشك أن انتهاء الحروب -كما ذكرتم- بين مذاهب أهل السنة تطور ايجابي، ومكسب لوحدة الأمة، ونأمل أن يتمكن الجيل المعاصر من علماء الأمة من تجاوز الصراع بين السنة والشيعة، وبوادر الأمل والتفاؤل في تحقيق ذلك لائحة والحمد لله.
يقوم عدد من الأنظمة السياسية على أساس ديني/ مذهبي، هل يعزز ذلك حدة الصراعات الدينية والمذهبية في العالم الإسلامي وكيف تنظرون إلى علاقة الشيعة العرب مع إيران؟
لا مانع من أن تتبنى الدولة مذهبا معيناً كمرجعية دينية إذا كان يمثل توجه الأكثرية من أبناء شعبها، لكن مع احترام حرية مواطنيها من أتباع المذاهب الأخرى.
ولا يعتبر ذلك تعزيزاً لحدة الصراع المذهبي، إذا لم يتضمن إساءة للمذاهب الأخرى، أو نيلاً من حقوق أتباعها.
أما فيما يخص مسالة المرجعية وعلاقة الشيعة العرب بإيران، فمن المتفق عليه والمعمول به بين المسلمين سنة وشيعة أخذ الأحكام الشرعية من العلماء المجتهدين الذين يمتلكون القدرة على استنباط ومعرفة الحكم الشرعي من مصادره المقررة.
ويستخدم أهل السنة مصطلح الإفتاء ويطلقون على من يأخذون منه الأحكام الشرعية اسم (المفتي) بينما يستخدم الشيعة مصطلح المرجعية والمتصدي لها يسمى مرجعاً دينياً.
لكن هذه الحالة أخذت منحى رسمياً عند أهل السنة حيث يعيّن المفتي من قبل الدولة ويكون الإفتاء على شكل مؤسسة رسمية. وبالتالي ضمن إطار الدولة.
بينما بقيت عند الشيعة كحالة أهلية شعبية لا دخل للدولة فيها، فالناس يختارون المرجع الذي يثقون في نزاهته وكفاءته العلمية ويرتبطون به مباشرة أو عبر وكلائه وممثليه، بما يتجاوز الحدود القطرية، وخاصة مع اشتراط أن يكون الأعلم بين الفقهاء، ففي أي بلد يقيم فيه هذا المجتهد الأعلم يقلده ويرجع إليه في الفتاوى المقتنعون بأعلميته.
وعادةً ما يكون المرجع في وسط الحوزة العلمية في النجف أو في قم. ولا تنحصر المرجعية في مرجع واحد، ففي الوقت الحاضر هناك حوالي عشرة مراجع مشهورين بين العراق وإيران ولبنان.
واختيار المرجع يعود إلى ثقة الأفراد واطمئنانهم بتوفر الشرائط المطلوبة دون دخل للجانب السياسي أو القومي أو الوطني، لأنها قضية شرعية ترتبط بالتعرف على الأحكام الشرعية من مصدر يطمئن إليه.
أما عن كيفية علاقة الشيعة العرب بإيران، فهم يرتبطون بها دينياً كبلد إسلامي لها إسهام بارز في حضارة الإسلام وتاريخ المسلمين، ولها دور هام في واقع المنطقة والأمة، كما أن فيها بعض المراقد لأهل البيت ، كمرقد الإمام علي بن موسى الرضا ثامن الأئمة عند الشيعة في مشهد، حيث يتوافد الشيعة على زيارته.
وفي إيران حوزة علمية عريقة في مدينة قم تحتضن عدداً كبيراً من الفقهاء والعلماء، وتستقبل طلاب العلوم الدينية من العرب وغيرهم.
هذه بعض أوجه العلاقة والارتباط بين الشيعة العرب وإيران، أما إذا كان السؤال عن الجانب السياسي فان الشيعة العرب في مختلف مناطقهم يعيشون ضمن محيطهم الوطني، ويمحضون أوطانهم ومجتمعاتهم كل الولاء.
لفت نظر الشارع السني وجود قبر لـ أبو لؤلؤة قاتل سيدنا عمر بن الخطاب في إيران. ما هو شعوركم إزاء هذا الأمر؟
لا يوجد أي مستند تاريخي لهذا القبر فقاتل الخليفة الثاني انتحر أو قتل في المدينة ودفن هناك، فمن أين جاءوا بهذا القبر؟ إنه مبني على الأوهام والخرافات وعلى القيادة السياسية و الدينية في إيران أن تأخذ الإجراء المناسب تجاه هذا الأمر الخرافي المسيء حفظاً للوحدة الإسلامية ورعاية لمشاعر أهل السنة.
أيضاً اخذ موضوع التشييع يبرز مؤخراً في عدد من الدول العربية، كما برز موضوع التسنن في عدد من الدول الأخرى، كيف تنظرون إلى موضوع (التبشير) المتبادل بين السنة والشيعة؟
لا أشعر بحساسية كبيرة في موضوع التمذهب بأي مذهب إسلامي يقتنع به الإنسان المسلم، فتحول الشيعي إلى مذهب السنة أو السني إلى مذهب الشيعة ليس جرماً. وأرى أن المذاهب أشبه بالغرف في البيت الواحد وانتقال الإنسان في منزله من غرفة إلى أخرى لبعض المرجحات التي يراها لا غضاضة فيه. المهم أن يكون الإنسان ضمن بيت الإسلام ولا يخرج منه.
ومن الصعوبة بمكان ومن غير المقبول حظر نشر الأفكار والتبادل الثقافي، لكني شخصياً ضد التبشير المذهبي المنظم الذي تتبناه أي دولة سنية أو شيعية.
مسألة شتم الصحابة.. وبرغم وجود فتوى من الإمام الخميني والسيد خامنئي والسيد محمد حسين فضل الله بعدم جواز شتم الصحابة إلا أن الأمر لم يتوقف.. كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟ وما المطلوب برأيكم من أئمة وعلماء المذهب الشيعي لإيقاف هذه التصرفات؟
شتم الصحابة هو من تركات ومخلفات تاريخ الصراع وتراث النزاع المذهبي، وموقفنا منه هو المنع والتحريم، وإيقاف ما تبقى من رواسب هذه الحالة يكون بتطبيع العلاقة بين الشيعة والسنة ورفض التمييز الطائفي، وتجريم التحريض على الكراهية، ونشر ثقافة التسامح.
عاد الحديث من جديد حول مصحف فاطمة.. إلا أن عدد من علماء وأئمة الشيعة نفوا تماماً وجوده أي مصحف آخر غير القرآن الكريم الموجود بين أيدي الجميع ما ردكم على هذا؟
لا وجود لشيء بين يدي الشيعة بعنوان مصحف فاطمة وإنما هو مجرد نقل تاريخي مفاده أن فاطمة الزهراء بضعة رسول الله أملت ما حفظته وسمعته من أبيها رسول الله حول تفسير بعض آيات القرآن أو الأحكام الشرعية أو أنباء بعض الملاحم والفتن، أطلق على هذا المجموع مصحف فاطمة بالمعنى اللغوي للمصحف أي ما يجمع صحائف بين جلدتيه. ولا يدعي أحد من الشيعة توفّر هذا الكتاب. وهو ليس بقرآن والقرآن المتداول عند الشيعة هو ذات القرآن الكريم المتداول بين المسلمين دون زيادة حرف أو نقصان حرف.
هل ترون أن ثمة أثراً للسياسات المحلية في الدول العربية والإسلامية على الصراعات المذهبية؟
السياسات المحلية تغذي الصراعات المذهبية إذا شابها التمييز الطائفي بين المواطنين، وفي غير هذه الحالة فإن استياء المواطنين من أي سياسة لحكومتهم سيأخذ طابعا وطنياً لا ربط له بالانتماء المذهبي.
ما تأثير التدخلات الخارجية في الصراعات المذهبية والطائفية في العالم الإسلامي؟
من الطبيعي أن تسعى القوى الخارجية الطامعة في الهيمنة على المنطقة إلى الاستفادة من الصراعات الداخلية، فتثيرها وتؤججها لإضعاف المجتمعات، وإخضاع الدول لإرادتها، ولصرف اهتمام شعوب المنطقة عن قضاياهم المصيرية.
فمثلاً حين تحتل القوات الأمريكية والبريطانية العراق فإنها تتوقع رفضاً ومعارضة من الشعب العراقي لوجودها على أراضيه ومصادرتها لسيادته، فمن الطبيعي أن تخطط لتفجير الصراعات والتناقضات داخل الشعب العراقي، لتمنعه من التوحد لمقاومتها، ولتوفر مبررات استمرار تواجدها، وهذا ما نراه بالفعل حيث يعاني الشعب العراقي حالة مؤسفة من الصراع والاحتراب ذي الطابع الطائفي.
وحين تجد أمريكا وإسرائيل تعاطفاً كاسحاً من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه مع المقاومة الإسلامية في لبنان، أثناء تصديها للعدوان الإسرائيلي في تموز 2006م، فلا بد وأن تسعى إلى تفكيك هذا التلاحم والتضامن بتحريك المشاعر الطائفية والصراعات المذهبية.
وهكذا فإن التدخلات الخارجية تستثمر إمكانية متاحة وفرصة قائمة.
تتوالى منذ سنوات طويلة الأحاديث عن التقريب بين المذاهب الإسلامية. ما المقصود بشعار التقريب؟ هل هو دمج المذاهب؟ أو توحيد بعض القضايا الفقهية والعقائدية؟ أو إشاعة روح التسامح في العلاقة بين المختلفين ضمن قواعد الإسلام الخلقية؟ أيّ من هذه المفاهيم أقرب للتطبيق. وهل نريد تقريباً بين المذاهب أو بين أهل المذاهب؟
أرى أن عنوان التقريب بين المذاهب الإسلامية ليس عنواناً دقيقاً وفيه شيء من التسامح.
أولاً: لأن المذاهب هي في واقعها متقاربة لوحدة مرجعيتها وهي الكتاب والسنة، ولاشتراكها في الأصول والمعالم الأساسية للدين. والتباعد الحاصل هو بين أبنائها وأتباعها وليس بين المذاهب كمدارس وتوجهات.
ثانيا: لا اعتقد أن من المطلوب السعي للتنازلات المتبادلة عن القناعات المذهبية، وهو ما قد يوحي به عنوان التقريب بين المذاهب، فلكل مذهب قواعده ومنظومة أفكاره وتوجهاته.
إنما المطلوب حسن العلاقة والتعايش بين أتباع المذاهب، والتعاون في خدمة الجوامع المشتركة والمصالح العامة.وذلك عن طريق إشاعة روح التسامح، وثقافة التعددية، والتزام أخلاقيات الحوار العلمي والاختلاف المشروع.
أين نقف في هذا من الحديث عن إسلام بلا مذاهب وفق شعار مصطفى الشكعة؟
المذاهب هي مناهج ومدارس لفهم الإسلام، وبالتالي لا يمكن التخلي عنها، وهي ليست شيئا إضافياً خارجياً ادخل إلى الإسلام، وإنما هي طريقة للمعرفة والفهم لنصوص الإسلام، ولا يمكن فهم الإسلام بدون منهج ما، إن هناك من يقول بالتخلي عن المذاهب بالعودة إلى الكتاب والسنة مباشرة، لكن هذا الطرح ليس علمياً ولا موضوعياً، لأننا بحاجة إلى منهج نفهم من خلاله نصوص الكتاب والسنة، أما هو من ضمن المناهج القائمة، أو أن نضع منهجاً جديداً فيكون مذهباً جديداً.
نعم يجب أن يكون الإسلام هو العنوان الأساس لأبناء الأمة، فوق العناوين المذهبية، وأن تكون أصول الإسلام وأركانه المتفق عليها هي محور الالتزام والالتفاف.
رغم مرور قرابة 60 عاماً على محاولات التقريب إثر إنشاء دار التقريب في مصر وفتوى الشيخ شلتوت بجواز التعبد بالمذهب الخامس (الجعفري) لكن النتائج العملية كانت محدودة جداً؟ ما الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج؟ وفي ضوء ما يحدث الآن في العراق وفي لبنان هل يمكن القول: أن أطروحة التقريب بين المذاهب قد فشلت؟
إن أهم مكتسبات فعاليات التقريب والوحدة الإسلامية في هذا العصر ما يلي:
أولاً: التأصيل الشرعي للقضية بعد حقبة من رسوخ العصبية المذهبية السلبية التي تنفي أتباع المذهب الآخر من حظيرة الدين، وتسلبهم حقوق الأخوة الإسلامية، وتفتي بالتقرب إلى الله بمعاداتهم والإساءة إليهم.
لقد أنتجت فعاليات التقريب والوحدة الإسلامية ثقافة ايجابية بناءة، تؤكد مركزية الوحدة في قيم الإسلام ومبادئه، وتدعو للالتفاف حول أصول الإسلام وأركانه الأساسية، والتي هي موضع وفاق بين كل مذاهب المسلمين، وتشيع ثقافة التسامح ومبدأ الحوار.
مع التأصيل لهذه الثقافة وتقعيدها على أساس الفهم الواعي لكتاب الله وسنة رسوله.
ثانياً: بروز جيل جديد من دعاة الوحدة والتقريب في أوساط علماء الدين، ورجالات الحركة الإسلامية، ومفكري الأمة ومثقفيها، من مختلف المناطق الإسلامية من مصر وإيران والعراق وسوريا وباكستان والمغرب وغيرها.
ثالثاً: فتح أبواب التواصل والحوار بين المراكز العلمية والقيادات الدينية لمختلف المذاهب، بين الجامع الأزهر في مصر والحوزة العلمية في النجف الأشرف، والحوزة العلمية في قم المقدسة، والمؤسسات الدينية والثقافية في سوريا ولبنان والأردن واليمن وسلطنة عمان وأمثالها.
رابعاً: إنشاء مؤسسات تعنى بموضوع الوحدة والتقريب كدار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران، وجامعة التقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران، وهيئة علماء المسلمين في لبنان، ومجلس التنسيق بين الحركات الإسلامية في باكستان.
واعتقد أن هذه مكاسب كبيرة، لكن هناك في المقابل عوائق كبيرة، وعوامل مضادة، من أخطرها العامل السياسي الداخلي والخارجي الذي يستفيد من حالة الصراع والتباعد بين فئات الأمة، وكذلك وجود تيار رافض لفكرة التقريب وهو التيار السلفي، وابتعاداً عن التعميم نقول أن غالبيته كذلك فقد يكون ضمنه بعض الشخصيات أو الجهات غير المناوئة للتقريب، وهو تيار يمتلك نفوذاً وإمكانيات ضخمة، وممانعته لمشروع التقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية، أخرت هذه المسيرة كثيراً.
أما ما يجري الآن في العراق ولبنان فهو صراع سياسي مكشوف، يتخذ البعض له من المذهبية غطاء، وهو يشكل انتكاسة وصدمة للتقريبيين الوحدويين. ولكني اعتقد أن موجة هذه الصدمة قد بدأت في الانكسار، وأن مسيرة الوحدة والتقريب ستتجاوز آثارها إنشاء الله.
بالتالي ما هي ـ برأيكم ـ الطريقة العلمية والعملية للتقريب بين المذاهب بحيث تصبح.. صحيحة وواقعية؟
التقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية مهمة مرحلية اقتضتها حالة مرضية، هي التباعد والتنافر بين أتباع المذاهب، ومن أجل تجاوز هذه الحالة المرضية نحن بحاجة إلى ما يلي:
أولاً: نشر ثقافة التسامح والتعددية وقبول الرأي الآخر، والتركيز على أسس الدين الجامعة والمشتركات التي توحّد بين أبناء الأمة.
ثانياً: تشجيع أجواء التواصل بين علماء المذاهب الإسلامية ونخبها المثقفة والفاعلة، لتوفير فرص التعارف المباشر على الصعيد الفكري والعلمي.
ثالثاً: قيام مشاريع مشتركة لخدمة المصالح العامة للدين والأمة.
وهذه الأمور تتم عبر وجود مؤسسات تتبناها، وعبر سياسات معتمدة من قبل الحكومات المهتمة بالأمر، والمرجعيات الدينية والحوزات العلمية.
كيف تقوّمون جهود مؤسسات التقريب سواء القديمة في القاهرة أو الحديثة في إيران؟ ومن هم الذين يجب أن يقوموا بمهمة التقريب، هل هم العلماء أو المؤسسات أو الأنظمة؟
وحدة الأمة مبدأ قرآني لقوله تعالى: ﴿إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [سورة الأنبياء:الآية92] وقوله تعالى: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [سورة آل عمران: الآية103] وقوله تعالى: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [سورة الأنفال: الآية46]، والعلماء ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ مسئولون بالدرجة الأولى عن تبليغ هذا المبدأ القرآني وتبيينه للأمة والدعوة إلى تجسيده وتطبيقه.
وبالدرجة الثانية فإن المؤسسات الأهلية أو ما يطلق عليه مؤسسات المجتمع المدني، عليها أن تقوم بدور فاعل على هذا الصعيد.
إننا نجد في الغرب مؤسسات كثيرة تتبنى مشاريع لخدمة السلم المجتمعي على مستوى العالم، مثل (معهد كارينجي للسلام الدولي) وهو مؤسسة أبحاث سياسية مرموقة في واشنطن تأسس سنة 1910م على يد (اندرو كارينجي) أحد أهم رواد صناعة الفولاذ في تلك الحقبة، وقد جنى ثروة كبيرة فكرسها لإنشاء هذه المؤسسة.
فلماذا لا نجد في عالمنا الإسلامي مثل هذه المبادرات، بإنشاء مؤسسات أهلية تعنى بتعزيز العلاقات الداخلية بين شرائح الأمة وفئات المجتمع.
من الواضح أن المذهبية لدينا سياسية، أي المحرك الرئيسي لها هو العامل السياسي، كيف يمكن لعلماء وفقهاء المذاهب الحيلولة دون استثمار الخلافات في تأجيج المذهبية المرتكزة على قضايا الصراع السياسي؟
العامل السياسي يستثمر أرضية مهيأة للصراع المذهبي، تتمثل في وجود ثقافة مذهبية تعبوية عند كل طرف تجاه الآخر، وتتمثل في واقع التباعد وفتور العلاقات.
وبإمكان العلماء وفقهاء المذاهب وضع حد لثقافة التعبئة المذهبية، واستبدالها بثقافة التسامح والوحدة والتقريب، وبإمكانهم أن يدفعوا باتجاه خلق واقع التواصل والتداخل والتعاون بين أبناء الأمة، مما يمنع أو يحدّ من قدرة العامل السياسي على تأجيج الصراعات المذهبية.
وقبل ذلك والأهم من ذلك أن يتورع العلماء من خدمة الأجندة السياسية وان لا يصبحوا أدوات يستفيد منها العامل السياسي في تنفيذ خطط الصراعات الطائفية.
وقد رأينا بوضوح كيف أن بعض الجهات الدينية وكأن العامل السياسي هو الذي يوقت لها حماسها المذهبي واندفاعها الطائفي، فعلى وقع الحرب العراقية الإيرانية، كانت تتوالى الفتاوى والخطب والمطبوعات الطائفية التحريضية، وعندما توقفت الحرب خمدت تلك الأصوات وخاصة بعد الاحتلال العراقي للكويت.
وفي هذه الأيام نرى انبعاثاً جديداً لهذه الأصوات الطائفية على ضوء أحداث العراق وتفاعلات الملف النووي الإيراني.
يذهب بعض المثقفين إلى أن الحل هو إقامة النظام الديمقراطي القائم على المساواة في المواطنة والحقوق بعيداً عن التقسيم المذهبي والطائفي، ما رأيكم؟
هذا الكلام صحيح فإن خلاص مجتمعاتنا من كثير من مشاكلها يتوقف على حل المشكل السياسي، بتحقق المشاركة الشعبية في الحكم، والتداول السلمي للسلطة، وسيادة النظام والقانون، وتجسيد مفهوم المواطنة، بأن يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات بعيداً عن أي تصنيف عرقي أو قومي أو ديني أو مذهبي أو قبلي.