حقوق الإنسان
حول قضية حقوق الإنسان وانحسار الاهتمام الإسلامي والعربي بها كان موضوع كلمة الجمعة لسماحة الشيخ حسن الصفار التي ألقاها يوم الجمعة الموافق 28 محرم الحرام 1425هـ (19 مارس 2004م)، وفيما يلي نص المحاضرة التي ألقاها سماحته:قال الله العظيم في كتابه الحكيم: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، (الحديد، 25).
تتحدث الآية الكريمة عن هدفٍ أساس لبعثة الأنبياء والرسل: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ﴾.
البينة: هي الدليل الواضح. ﴿ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ﴾.
الكتاب: اسم جنس يشمل جميع الكتب السماوية.
جاء الأنبياء بكتبٍ من قبل الله سبحانه وتعالى فيها الشرائع الموجهة إلى الإنسان. واختلف المفسرون في المقصود من الميزان الذي أنزله الله تعالى مع الأنبياء، فقال بعضهم: إنه نفس الآلة المعروفة التي توزن بها الأشياء؛ وبداية هذه الآلة أن جبرئيل جاء بها إلى نبي الله نوح وما كان الناس يستخدمون هذه الآلة قبل ذلك الوقت. ولكن الرأي الأرجح أن الميزان هو المقياس والمعيار، بمعنى أن الله تعالى جعل للحق وللخير مقاييس ومعايير واضحة يهتدي إليها الإنسان بعقله، فتكون عوناً للأنبياء إلى جانب الكتاب في أداء مهمتهم ودورهم.
لماذا أرسل الله تعالى الأنبياء بالبينات؟ ولماذا أنزل معهم الكتب والشرائع؟ ولماذا منح الإنسان عقلاً ووجداناً يميز به بين الخير والشر والحق والباطل؟ يقول الله تعالى: ﴿ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾، أي ليقوم الناس بالعدل، فلا يعتدي أحدٌ منهم على حق الآخر. فهدف الرسالات والشرائع السماوية حفظ حقوق الناس من بعضهم البعض.
مسيرة حقوق الإنسان في العالم الغربي والإسلامي
هل أن حقوق الإنسان قضيةٌ سياسية أم هي قضيةٌ دينية؟ هل هو شأنٌ سياسي يهتم به السياسيون فقط أم أن المسألة مسألة دينية يجب أن يهتم بها المتدينون وأن يتحمل أعباءها كل من يجد نفسه مهتمٌ بأمر الدين؟
في العصور الماضية لم يكن هناك مفهمٌ وعنوانٌ مستقل يُتداول في عالم البشر بهذا العنوان: (حقوق الإنسان) وإنما هو عنوانٌ تبلور في هذا العصر؟ كانت هناك مصطلحات ومفاهيم مرادفة، ولكن أن يتبلور الموضوع في مصطلحٍ وعنوانٍ واضح باسم (حقوق الإنسان) لم يكن إلا في هذا العصر الحديث. في القرون الأخيرة بدأ هذا المصطلح وذلك بسبب ما عاناه الإنسان طول تاريخه من اعتداءات ومن ظلم ومن جرائم مع تراكم السنين والقرون والأجيال تبلورت عند الإنسانية مسألة وقضية حقوق الإنسان. وكان أول طرح لهذا المصطلح بعد استقلال أمريكا من الاحتلال البريطاني سنة 1776م، وأعلن فيها عن وثيقة حقوق الإنسان الأمريكي. وبعد انتصار الثورة الفرنسية 1789م طُرح قانون حقوق الإنسان الفرنسي. وبعد قيام الأمم المتحدة سنة 1948م صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحتوي على (30) مادة تضمن حقوق الإنسان المادية والمعنوية. وفي سنة 1966م أصبح هناك ملحقان لحقوق الإنسان:
الملحق الأول: حول حقوق الإنسان الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
الملحق الثاني: حول حقوق الإنسان السياسية والمدنية.
ماذا عن العالم الإسلامي؟ في العالم الإسلامي تأخر ظهور هذا المفهوم والمصطلح تأخراً كبيراً، وكان أول طرح له سنة 1981م، حيث أنتجت منظمة المؤتمر الإسلامي بعد اجتماعها في الرياض ما يشبه القانون حول حقوق الإنسان في الإسلام، حيث تخلف قليلاً عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ أنها تتضمن (25) مادة، وكان هذا القانون بحاجة لدراسة من قبل الخبراء والقانونيين المسلمين فلم تسلك طريقها إلى التطبيق، واستمر ذلك إلى سنة 1989م حيث أقرتها الدول الإسلامية. ومتى تُطبق؟ الله أعلم!
مفهوم (حقوق الإنسان) أصبح سائداً في الغرب، وأصبحت هناك منظمات ومؤسسات وجمعيات تهتم بحقوق الإنسان بشكلٍ عام، وبعضها تهتم ببعض الحقوق بشكلٍ خاص كمنظمة العفو الدولية.
بينما تعاني الدول الإسلامية من مشكلتين:
الأولى: عملية
إذ أصبح العالم الإسلامي مسرحاً لانتهاكات حقوق الإنسان، ولذا نجد أن البلاد الإسلامية لها الحظ الأوفر من أغلب التقارير التي تصدر دولياً في كل عام عن انتهاكات حقوق الإنسان، وهذا لا ينفي وجود انتهاكات في الدول الغربية.
الثانية: ثقافية نظرية.
لماذا نجد اهتمام الجهات الدينية بحقوق الإنسان محدوداً وضعيفاً، أو منعدماً؟ مع أننا إذا قرأنا الإسلام وتأملناه نجد أن حقوق الإنسان أصلٌ وأساسٌ في الإسلام. وما جاء الإسلام والرسالات السماوية إلا من أجل حقوق الإنسان وليس من أجل الدفاع عن مصلحة الله وهو القائل: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ (إبراهيم، 8)، وفي حديثٍ قدسي يقول تعالى: «يا عبادي، وعزتي وجلالي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، وعزتي وجلالي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم، لما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أسوأ قلب رجل فاجر منكم لما أنقص ذلك في ملكي شيئاً». ولذلك الآية الكريمة تقول: ﴿ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾.
وإذا كان الدين يُشدد على موضوع ما فليس هناك شيء يُشدد عليه الدين أكثر من ظلم الآخرين والاعتداء على حقوقهم، يقول الإمام علي : «إن الظلم ثلاثة: ظلمٌ لا يُغفر، وظلمٌ مغفورٌ لا يُطلب، وظلمٌ لا يُترك أبداً، فأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك بالله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ﴾ (النساء، 48)، وأما الظلم الذي لا يُطلب ظلم العباد لبعضهم عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يُترك ظلم العباد بعضهم بعضاً»، ثم قال : «إن القصاص هناك شديد». وورد في حديثٍ قدسي عن الله تعالى: «وعزتي وجلالي لأنتقمن لكل مظلومٍ من ظالمه».
فإذا كان الإسلام هكذا، جاء من أجل حقوق الناس، ويُحذر من الظلم، فلماذا نجد اهتمام الإسلاميين والجهات الدينية بموضوع حقوق الإنسان اهتماماً ضعيفاً؟
هناك عدة أسباب:
أولاً- سادت تاريخ الإسلام عهود الاستبداد والظلم. كما كان في عصر الأمويين والعباسيين. وكان من الصعب على الفقهاء والعلماء أن يتحدثوا حول حقوق الإنسان، لأن ذلك كان يعني المعارضة والمقاومة لتوجه تلك السلطات المستبدة والظالمة فاضطروا للسكوت، وشيئاً فشيئاً أصبح السكوت عن موضوع حقوق الإنسان هو النهج المستمر.
ثانياً- السبب الثقافي، حيث أن بعض الجهات الدينية ركزت على بعض المفاهيم الإسلامية وأغفلت مفاهيم أخرى؛ وبذلك لم يكن هناك توازنٌ في الطرح. فمثلاً، أعطى التركيز على موضوع الصبر فهماً خطئاً له، حيث فُهم أنه يعني: السكوت على ضياع الحقوق، وهناك روايات فهمت بهذا المعنى، كالحديث المروي عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله أنه قال: «سيتولى عليكم أمراء لا يهتدون بهديي ولا يعملون بسنتي قلوبهم قلوب الشياطين في أجسام الإنس»، قلت: فما نصنع يا رسول الله؟ فأجابه رسول الله : «أطع أميرك وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك». وفي رواية أخرى أن الرسول قال: «من تولى عليكم فاسمعوا له وأطيعوا، فإن عمل بكتاب الله أثيب وأثبتم، وإن خالف كتاب الله عوقب وأجرتم»، فإذا كان فهم مثل هذه الأحاديث النهي عن الإخلال بالنظام فهو فهمٌ مقبول، أما أنها يعني سكوت الإنسان عن حقه فهذا الأمر فيه إشكال.
هذا التوسع في موضوعٍ معين وإهمال الموضوع الآخر أخلّ بالتوازن. إذ أننا نجد أن هناك نصوصاً تأمر الإنسان أن يطالب بحقه، يقول تعالى واصفاً المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ (الشورى، 39)، وفي آية أخرى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ (الشورى، 40)، ﴿ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ (البقرة، 194). وفي دعاء مكارم الأخلاق للإمام علي بن الحسين يقول: واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرةً على من اضطهدني، وأيضاً ورد: «الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس»، وأيضاً: «ما ضاع حقٌ خلفه مطالب»، ويقول أمير المؤمنين : «لنا حقٌ إن أعطيناه وإلا ركبنا له أعجاز الإبل وإن طال السرى.»
فثقافة الإسلام لا تشجع الإنسان على السكوت عن انتهاكات حقوقه من أي جهةٍ كانت، مع ضرورة التوازن في طرح المفاهيم الإسلامية الأخرى.
فإغفال هذا الأمر جعل من الحديث حول موضوع حقوق الإنسان حديثاً ضعيفاً عند الجهات الإسلامية.
مظاهر التقصير في موضوع حقوق الإنسان.
أولاً- العطاء الفكري والثقافي حول حقوق الإنسان غائباً أو منعدماً. وعلى العكس من ذلك جانب العقائد والتاريخ والقضايا الدينية المختلفة.
ثانياً- إلى الآن لم تتحول قضية حقوق الإنسان إلى مادة دراسية سواءً في الحوزات العلمية أو المعاهد الدينية أو كليات الشريعة في العالم الإسلامي، بينما على المستوى المعرفي العالمي نجد أن قضية حقوق الإنسان أخذت موقعها وتُدرس حتى إلى طلاب المدارس الابتدائية.
وعلى المستوى الفقهي ينبغي أن تحتوي الرسائل العلمية للفقهاء على باب يُعالج قضية حقوق الإنسان، إذ أن تبويبها متطوراً ولم يكن على هذا التبويب في العصور السابقة. والحاجة ماسة جداً لوجود باب متخصص لهذه القضية (حقوق الإنسان).
ثالثاً- عدم التصدي من قبل الجهات الدينية لهذا الموضوع. ولو أنك قرأت عن منظمات حقوق الإنسان في الدول العربية والإسلامية فإنك قلَّ تجد أن هناك علماء أو شخصيات إسلامية تتبني الموضوع. ومع الأسف تُرك الموضوع للآخرين: الليبراليين، الفئات اليسارية.
رابعاً- اهتمام الغرب بقضية حقوق الإنسان، ويعلم الجميع أن الغرب عندما يرفع شعار حقوق الإنسان –وخاصةً بالنسبة للمسلمين- قد لا يكون ذلك إخلاصاً منه لواقع المسلمين ولحقوق الإنسان، وإنما المسألة في كثيرٍ من الأحيان استغلال إعلامي وسياسي. وتتضح هذه الحقيقة بسكوت الغرب عن الانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وكذلك سكوت الغرب عن الجرائم التي ترتكبها أنظمة محمية من قبلهم كالنظام العراقي البائد المتمثل في صدام حسين.
ومع صحة هذه الحقيقة، إلى أنه ينبغي أن لا تكون مبرراً إلى عدم الاهتمام بقضية حقوق الإنسان، بل ينبغي على الإسلاميين أن يهتموا بهذه القضية بحجم اهتمام الإسلام بها.
وحينما نتحدث عن قضية حقوق الإنسان فهي قضية شاملة، ليس فقط في تعاطيه مع الحكومات، وإنما حتى مع تعامل الناس مع بعضهم البعض: في الأسرة، مع الموظفين، وفي مختلف المجالات ينبغي مراعاة حقوق الإنسان المادية والمعنوية بشكلٍ شامل.
الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بالمملكة
وفي المملكة أعلن مؤخراً عن الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وهي خطوة متقدمة، وقد لا يكون مجرد الإعلان عن الجمعية يحل كل المشاكل، ويُعالج كل المواضيع ولكنها خطوة جيدة على الطريق.
على المواطنين أن يهتموا بهذا الأمر، وأن لا يسكت صاحب حقٍ عن حقه، وأن يكون هناك تعاونٌ مع هذه الجهة ومع سائر الجهات التي تساعد في هذا الأمر من أجل أن يُصبح هذا الإعلان حقيقة ماثلةٌ على أرض الواقع.
ونحن نعلم أن أنظمة كثيرة تضعها الدولة، ولكن المسألة ليست مسألة النظام، وإنما المسألة في التطبيق. وقد تكون هناك جهات ليس من مصلحتها أن تطبق هذه الأنظمة، أو أن تراعى حقوق الإنسان، وعلى المواطنين تجاه ذلك أن يتعاونوا مع مختلف الجهات المتفهمة والمهتمة بالأمر لوضع حدٍ أمام ما قد يكون من انتهاكات لحقوق الإنسان.
بالطبع الطريق طويل، وليس من أول يوم تعالج القضايا والأمور، ولا يصح أبداً أن يكون هناك إحباط، أو يكون هناك يأسٌ، إذ أن ذلك يكون مبرراً للكسل وللتواكل، ومهما جرى أو حصل من القضايا ينبغي أن يكون هناك عزيمةٌ وإصرار للمضي قدماً في طريق الدفاع عن حقوق الإنسان.
ونحن نواجه قضية التواكل والكسل في كثيرٍ من الأمور، فالناس بمجرد أن يكون هناك مشروعٌ ما فإنهم يتوقعون أن يكون هناك حلولاً سحريةً، وكمثال على ذلك (الحوار الوطني) إذ يتوقع الناس أن يحل جميع القضايا بينما هو وسيلة وقناة وعلى المصلحين والواعين سلوك هذا الطريق لمعالجة ما يُمكن معالجته. وكذلك بالنسبة لجمعية حقوق الإنسان ينبغي أن يكون هناك تعاونٌ معها حتى مع وجود انتهاكات وقضايا مختلفة، لأن الأمور والمشاكل لن تُحل بين عشيةٍ و ضحاها، وإنما تحتاج إلى إصرار، وإلى استقامة، وإلى أن يتشبث المواطنون بحقوقهم، ويتعاونوا مع الجهات المعنية، وبالأسلوب الممكن يُطالبون بحقوقهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.