شباب في النار ولا يحترقون
التقيت بعشرات الشباب خلال سفراتي لخارج الوطن الإسلامي الكبير، رافقتهم وصادقتهم وسمعت منهم، وتحسست معاناتهم، واستوعبت نظريا مختلف الضغوط التي تؤرقهم، لكني كنت أكبر صدقهم وتدينهم وحبهم لخالقهم ولكتابه العزيز.
كنت أحيانا أسأل نفسي أهؤلاء هم المتدينون حقا أم نحن؟
كلهم تقريبا ولدوا في المهجر وتربوا في بلاد لا يدين أهلها بالإسلام، ولا يعرفون عنه شيئا، وأغلب المحرمات بل كلها غالبا لا تخضع عند تلك الشعوب للمعايير التي وضعها ديننا الحنيف، ومعيارهم الوحيد هو الرغبة والراحة واللذة والاستمتاع، فلك الحرية، ويمكنك فعل ما شئت دون أن يتدخل أحد في خصوصيتك، إلا بمقدار ضئيل تكون رعاية النظام هي الداعية له وليس الدين أو الضوابط الروحية.
كما أن أغلبهم بل كلهم لا يسمعون صوت الأذان لأن مناطقهم تخلو من المساجد، ولا يدركون أن وقت الصلاة قد حان فالأسواق والدكاكين مفتوحة على مصراعيها، وهي عامرة بمن لا صلاة له كصلاتنا، ومن لا دين له في الأصل، ومع ذلك يقيمون صلاتهم على أكمل وجه، ويحاولون أيام الجمع أن يصلوا للمساجد البعيدة عنهم، أو أن يدعوا بعضهم ليلتقوا في مكان ما، ويقيمون الصلاة جماعة ليجددوا روحهم وروحيتهم، وارتباطهم بدينهم.
هم في نار الدنيا لكثرة ما يحيط بهم من ضغوط وشهوات ومثيرات، لكنهم لا يحترقون بها، وعندهم الثقة التامة أن أرواحهم عصية عن الارتماء في مستنقع الرذيلة، والسبب كما ناجاني به أغلبهم هو أنهم لا يكترثون بما حولهم، بعدما رفضته فطرتهم التي ساعد على نقائها صفاء أجواءهم العائلية، التي تصنعها أمهاتهم – في المركز الأول – وآباؤهم، مع أن كلا الوالدين لا يمتلك سوى اليسير من تعاليم الدين وأحكامه.
في الضفة الأخرى تلحظ أمورا مهمة - تلفت نظرك- في حياتهم:
1/ سمو قيمة العلم في حياتهم: فهم منشغلون بدراستهم، جادون في تحصيلهم، ومتيقنون أن الحياة لن تقبل عليهم بدون علم ومعرفة، ولذلك يسعون للشهادات وللدرجات العالية باعتبارهما الطريق المختصر -مع صعوبته- لحياة أفضل.
لقد لاحظت أن أغلبهم يقتني أو يستعير الكثير من الكتب التي تصب في تخصصه الجامعي، ويؤكدون أن المنهج بمفرده لا يصنع عقلا مبدعا، وأن هذه هي نصائح المعلمين لهم، كما أنهم جذروا قيمة المعرفة والإطلاع من الطريقة التي اعتادتها تلك المجتمعات التي لا تترك الكتاب أينما حلت وارتحلت.
2/ الانخراط في الكثير من النشاطات والأعمال التطوعية والأهلية التي تزيدهم خبرة ومعرفة بالحياة، وتجعلهم في سلامة من أوقات الفراغ التي تفسد الشباب. فاللجان والمؤسسات والمنظمات والأحزاب، وكل عنوان آخر يمكنه أن يجمع وينسق ويستفيد من طاقات الشباب وغيرهم تراه ممكنا ومتاحا للشباب ليقضوا فيه وفي نشاطاته أوقاتا تعود عليهم وعلى مجتمعهم بالخير.
3/ الأمل والتطلع للمستقبل بنفس صافية وروح عالية الحماس والتوثب، فهم بعيدون عن الإحباط، ولا يشعرون بانسداد الطرق أمامهم، ويرون الحياة فرصا متاحة للجميع، وأن السابق إليها هو الأكفأ والأصلح.
هذا الأمل جعلهم يتمسكون بالحياة ويتشبثون بالأرض لاستعمارها وإصلاحها، فأبعدوا أنفسهم عن المخدرات والمسكرات والخرافات، لأنها لا تنتشر إلا في أجواء الإحباط وانسداد الطرق وضعف الدين.
إذا كان طلابنا المسلمون في تلك البقاع وبين تلك المجتمعات التي يعيشون فيها على شفا جرف من المنكرات والمفاسد، يرتقون بأنفسهم وهمهم، مستمدين الجزء الأكبر من صمودهم وتمسكهم بدينهم من تعليمات بسيطة تقدمها أسرهم مع بساطة معرفتها ودرايتها بأمور الدين، فما حسبك بطلابنا وشبابنا في دولهم الإسلامية والعربية.
هؤلاء الذين يترعرعون بين جدران المساجد ويزعجهم الأذان أحيانا لقرب المساجد من بيوتهم – ولله الحمد – ويدرسون القرآن الكريم وإلى جانبه العديد من المناهج الدينية، ويحضرون المواعظ وخطب الجمعة ويعيشون في مجتمعات محافظة نسبيا، فماذا تتوقع منهم؟
إننا بحاجة إلى إعادة قراءة جادة للواقع الذي لا يمنحنا النتائج المرجوة منهم، فمع تمسكنا بحذافير ما في ديننا من قيم وتعاليم، نتوق لوقفة تأمل وتساؤل: ترى هل تكفينا الخطب والمنابر والمساجد ومؤسسات القرآن الكريم، لحفظ شبابنا عن التسيب والرذيلة والإهمال أم أن الشباب - معها - بحاجة لأمور أخرى؟
كم هو الفارق كبير بين شباب قرروا ألا يحترقوا بالنار المحيطة بهم، وشباب تدفعهم الميوعة والاستهتار للسفر بحثا عن نيران يحترقون بها، أفلا نعقل؟