هنيئاً لأصحاب الوجهين والخطابين!
نهايات الأسبوع المنصرم تفاعل الإعلام اللبناني كثيرا مع ما أبداه النائب وليد جنبلاط من وجهة نظر جرحت الموارنة في الصميم أثناء جلسة خاصة كان يتجاذب الحديث فيها مع أهل الدار والفكر والمدرسة والتوجه المشترك، حيث وصف الموارنة أمامهم بالجنس العاطل.
لا أود الدخول في تفاصيل الحدث وسياقات الكلام، ولكني أود الاتفاق -في الجملة- مع ما كتبه الأستاذ خالد صاغية تحت عنوان (جنبلاط وجنس الطائفية العاطل):
«من المستغرَب أن يُستغرَب كلام النائب وليد جنبلاط الذي طلع إلى العلن في شريط وضع على «يوتيوب»، وبثّته قناة «الجديد».
من المستغرَب أن يُستغرَب الحديث عن «جنس عاطل» لدى تناول إحدى الطوائف اللبنانية على لسان زعيم طائفة أخرى، وخصوصاً أنّ الزعيم كان يتحدّث إلى مشايخ طائفته في جلسة خاصّة.
فماذا يخال اللبنانيون زعماء طوائفهم يتحدثون في مجالسهم الخاصّة؟ كيف يتحدّث أيّ زعيم للمسيحيين عن الدروز أو السنّة أو الشيعة، وأيّ زعيم سنّي أو شيعيّ عن سائر الطوائف، حين يكون على سجيّته، يجلس على أريكة ويحتسي الشاي أو المتّة أو القهوة. أتراه يبشّر بحوار الأديان أو بالعيش المشترك؟» (صحيفة الأخبار اللبنانية 22/ 4/ 2009).
التعود على خطابين أصبح أمرا ملحا يتعاطاه الزعماء ورؤوس التوجهات وأصحاب الرأي، وقد يُقرّعون من يتغافل عن هذه الضرورة ويقدم النقد لهم، ويصفونه بقلة الحكمة والنباهة والمعرفة بأمزجة المجتمعات والشعوب والتوجهات والمدارس وحركة الموج واتجاهاته في لا وعي الناس ضمن هذا الظرف أو ذاك.
خطاب الداخل المختلف عن خطاب الخارج يؤمن المزيد من الرضا الخارجي والانسجام مع المحيط العام، وفي الوقت ذاته لا يُحمل صاحبه أي تبعات داخلية -بين أهله وقومه- تزايد أو تتهجم أو تتهم أو تشكك.
فمع أي تلاق يأخذ كل طرف الآخر بالأحضان، وتلتقط أجمل الصور وتلقى أعذب الكلمات، وربما يغازل كل طرف الآخر، وإذا خلا بعضهم إلى بعض تتكشف السوآت، ويزاح الستار عن المغطى، وكما يقول الشاميون (يذوب الثلج ويبان المرج).
لا يتوقف استخدام الخطابين عند سقف معين، ولا اتجاه مُختَلِفٍ ما، بل يتدحرج ويهبط بحسب الحاجة ليصل إلى أضيق المساحات والدوائر، ففي كل دائرة هناك الخاص وهناك العام، بدءا من المختلف دينيا إلى المختلف مذهبيا وبعده فكريا يليه المختلف في التوجه ثم المغاير في العمل وعلى الأرض، والدوائر تتعدد بتعدد لحظاتها وزاوية النظر لها.
في زمن القرية الواحدة لم يعد هناك خطاب يمكن أن يُحاصر ويُخفى ويستعصي على الظهور والبروز، فحتى الجلسات الخاصة وضمن الدوائر الضيقة جدا، قد تراها بعد دقائق معدودة على الشبكة العنكبوتية وفي الفضائيات العابرة للقارات، يسمعها القاصي والداني.
في الخطابات المتعددة الألوان ستفقد الثقة تدريجيا بين أبناء المجتمع ضمن قوالبهم الكبيرة، وستفقد الثقة ضمن القالب الواحد في دوائره الصغيرة، وستتلاشى بين تكتلات تلك الدائرة الصغيرة، وستحكم العلاقات ضمن قاعدة (خطوة للأمام وخطوتان للخلف)، لأن بديل الثقة هو التوجس والريبة والانتظار، وهذا لا يساعد على الخطوات المتجهة للأمام.
لن أغفل الإشارة إلى أن الجزء الأكبر من المسئولية يقع على رجال الخطاب، والمباشرين له، وهم واجهة المجتمع ومحل توجيهه، فهل ستضغطهم ساحاتهم بضيقها لتجبرهم على هذا التلون؟
وهل سيقبلون جرهم لمبدأ قُلْ ما شئت أمام الآخرين، وقل لنا ما نحب وما يطربنا؟ وحينها يصبح العقلاء مأسورين ومقودين لرضا ساحاتهم عنهم، بدل أن يقودوها بوعيهم وقناعاتهم، هل انقشع الخوف عن قلوب الكبار منا لتحسب الأمور بالمصالح العامة، ويراعى في الخطابات صونها وسلامتها، بدل أن توزن قضايا الناس الكبرى بمصالح ضيقة لا تتعدى صاحب الخطاب أو حزبه، أو الخوف من انفضاض الملتفين حوله؟
كان يفترض أن تعلمنا قيم ديننا الصدق في الخطاب والنصيحة به، ليكون واحدا لا لبس فيه ولا تقلب، لكننا الآن ومع عدم حصول ذلك في الكثير من حركة واقعنا، فالأمل شديد بأن يجبرنا الزمان بتطوره وقدرته على الكشف عن كل شيء، فيردعنا قليلا عن هذا الخلق المقيت، وإذا لم يحصل هذا أيضا، واستمر نهج «إنا معكم إنما نحن مستهزئون»، فلن تتكاتف الأيدي ولن يلم الشمل، وهنيئا لصاحب الوجهين والخطابين.