غناء عند إشارة المرور
كان صوت الغناء في السيارة التي تسير خلفي عاليا، وكانت الأغنية تصل إلى مسامعي بكل تفاصيلها وكلماتها، مع أن نوافذ السيارة مغلقة، واستمر الحال إلى أن وصلنا إلى إشارة المرور. كنت أول الواقفين عندها، ثم جاءت سيارة الغناء لتقف إلى يميني.
ما أن التفت الشاب إلي حتى أوقف الغناء، فتحت بدوري النافذة ورحت أشير بيدي للشاب وهو يحول أن يتجاهل رؤيتي، لكني كنت أشير إليه بشكل لا يستطيع معه التجاهل، التفت إلي فسلمت عليه وشكرته على احترامه وقلت له: أنت أصيل وطينتك طيبة.
ابتسم وقال: سامحنا يا شيخ (إحنا نتسلى) نحن نتسلى، قلت له: ولا يهمك حصل خير، دردشت معه بكلمات خفيفة على المعدة، ثم مددت يدي إلى جيبي وأعطيته بطاقة (كرت) العنوان، وأضاءت الإشارة أخضرها فقلت له: رافقتك السلامة، اعتن بنفسك.
كان شابا قوي البنية، مفتول العضلات، أشك في أنه وصل الى العشرين من العمر، والمفاجأة كانت في اتصاله ليلا ليتأكد من الرقم وليعتذر مني، ثم سألني بعض الأسئلة وراح يفضفض عن بعض همومه.
أمثال هذا الشاب الطيب في مجتمعنا كثير، بعضهم يشعر بوجوده وحضوره بفعل ما فعله هذا الشاب، والبعض الآخر طريقه للإحساس بذاته هو التفحيط، وثالث بالتهور والسرعة بالدراجات النارية، وبعضهم تراه على الكورنيش وأمام العوائل والنساء يقوم بحركات استعراضية، والأمثلة لا تنتهي.
الفرق كبير وشاسع بين هؤلاء وبين المجتمع الجاهلي الذي بعث فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم)، من حيث قسوة القلب، وفعل المحرمات، وسيطرة قيم الجاهلية بكل معانيها، لكن ذلك المجتمع رُزق برسول، يتواجد معهم في كل مكان ﴿يأكل الطعام ويمشي في الأسواق﴾ ﴿وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق﴾. فمع أن الآيات في سياق بيان إنسانية الرسول وبشريته، لكن الإشارة إلى بشريته بالمشي في الأسواق ربما تكون لها دلالة أخرى، وإلا لأشار القرآن الكريم إلى نومه أو ما شابه.
ومن صفات ذلك الرسول أنه أحب من بُعث إليهم، حتى كادت نفسه تزهق حزنا عليهم، لأنه أحب من أعماقه هدايتهم ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا﴾، والبخوع والبخع القتل والإهلاك.
لم يكتف الرسول بإسقاط الواجب، وإلقاء كلمة هنا ومحاضرة هناك، براتب أو هدية، ويعود قرير العين، يحوطه المدح والثناء من كل حدب وصوب، بل كان يتفاعل بأحاسيسه ووجدانه من أجل هداية مجتمعه.
ويكفينا قوله تعالى ﴿طه * ما أنزلنا عليك القران لتشقى﴾، والمعنى كما يشير المفسرون: ما أنزلنا القرآن الكريم لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلف في حمل الناس عليه.
ومن صفاته التي تحدثت عنها آيات القرآن الكريم ﴿ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾. فقد كان يحبب الناس فيه بغية أن تنفتح قلوبهم لنصحه وعقولهم لإرشاده، ويتحمل كل ما يصدر عنهم من شطط القول وانحراف السلوك، وتعامل الجهل.
لو قيض لشبابنا اليوم الذين ننعتهم بأبشع الألفاظ، بعض الموجهين الذين يجعلون من نبينا الأكرم قدوة لهم في النصح والتوجيه والإرشاد، لأعدنا كل هؤلاء الشباب إلى قيم دينهم وإلى حضن مجتمعهم، ولاستفدنا من طاقاتهم وإمكاناتهم، لكننا وللأسف استعديناهم وكرهناهم، فأوجدنا بيننا وبينهم حاجزا معنويا، منع الكثير منهم أن يقبلوا علينا.
إن الآلاف من الشباب يحتاجون إلى من يتوجه إليهم بقلبه ويقبل عليهم بروحه، ليرى منهم وقودا وطاقة لكل خير وصلاح.
والأولى، أن نأخذ بأيدي هؤلاء الشباب إلى الطرق السليمة، فإن لم نفعل فلنندب أنفسنا حين نشاهد حركاتهم البهلوانية في الشوارع، واستفزازهم الناس، ولندعو لهم بالهداية، ونطلب من الله أن يغفر لنا تقصيرنا في حقهم.