وجاهة الخدمة والتواضع
فقدت قطيفنا الحبيبة يوم الثلاثاء المنصرم يدا بيضاء ناصعة، الحاج المرحوم عبد الغني بن أحمد السنان، الذي ربطتني به سنوات من التواصل والأحاديث التي لا تنسى.
امتدت علاقتي بهذا الرجل على مدى 12 عاما، فقد زرته في المرة الأولى لأني سمعت عنه ثناء وإطراء يطرب المرء ويشعره بالأمان لوجود هؤلاء الأخيار في مجتمعه، فكانت زيارتي زيارة تقدير واحترام.
أما المرة الثانية فقد دفعتني المصلحة لزيارته، فهو ذو قدرة مالية، وسخاء لا يوصف، وأنا يومها كنت أبحث عن المقتدرين، كنت للتو أستكمل مع أصدقائي تكوين مشروع لتيسير الزواج الخيري بالقطيف، وكان رصيدنا من المال عدما محضا.
وصلته وأنا في وضع نفسي صعب، لكثرة الوعود التي جاءتني من خُزّان المال، ولكنها لم تترجم بريال واحد للمشروع مع كل العرض والتوسل لهم، وبدأت مع الوجيه الحاج عبد الغني أحمد السنان متحدثا عن ظروف الشباب الفقراء في فترة العقد ومرحلة الزواج، ولست مبالغا إن قلت انه أطرق رأسه، وكانت عينه تمسك دموعها، لم يترك كلماتي لتبرد حتى انسحب من مجلسه إلى داخل المنزل، ثم عاد بورقة في يده، وسألني باسم من أكتب الشيك؟
واستمر صاحب العادة لا ينسى عادته، بل كان هو من يبادر للاتصال بي سنويا ليخجلني بكرم ضيافته، ويمتعني بحديثه في مجلسه، ثم يمد يده إلى جيبه مستخرجا الشيك وداعيا لي ولمن معي بالخير والسداد، وحين نشكره يبتسم قائلا: أنتم من فتحتم باب الخير لي وأنتم من يشكر، ثم يحمد الله ويتغنى بقوله (كيف أخشى الفقر قل لي وأنا عبد الغني).
لعل خوف الفقر الناتج من ضعف الثقة بالله هو الذي يمنع المقتدرين من العطاء، لكن الحس النابض في السنان هو الثقة الكبيرة بما عند الله سبحانه ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾.
من يقترب من الحاج السنان يحيره تواضعه الجم، وبساطته التي يعجز عنها اللسان، فمع المناصب والمواقع التي شغلها في زمن مبكر، كان يعز فيه الحصول على مثلها، وسأذكر منصبين فقط لأترك للقارئ المزيد من الشوق للتعرف على الرجل، فقد مثل المملكة العربية السعودية لمدة 15 عاما في وفود المملكة العربية السعودية الرسمية في مؤتمر العمل السنوي في جنيف سويسرا لدى منظمة العمل الدولي وهي احدى منظمات الأمم المتحدة، ومثل وفودها الرسمية في مؤتمرات العمل العربية لدى منظمة العمل العربي التابعة لجامعة الدول العربية.
ومع تسلمه الكثير من المواقع والمناصب لا تراه متصدرا للمجالس، ولا متكلفا في اللباس، ولا متثاقلا عن لقاء الفقراء الذين يقصدونه لحاجاتهم، فيجدونها في رقة قلبه وحنانه، بل إن مجموع العلاقات التي استطاع تكوينها أيام عمله بقيت حتى آخر أيام حياته رصيدا لا يتلكأ في استخدامه إذا احتاجه أحد من الناس، فكم أعان بعلاقاته؟ وكم خدم بتواصله؟ وكم أنقذ بماء وجهه؟
مثل هذا الرجل يمنح الوجاهة معنى آخر، معنى يتخذ من حب الناس وخدمتهم والإحساس بضعفهم وحسراتهم منطلقا شريفا وكريما ليبقى رقما صعبا يتحسر الناس على فراقه، وتبكي القلوب لأنها تشعر بمعروفه ولمساته، في زمن عزّ فيه من يعطي، وقل من يبذل دون ثمن، وندر من يقدم دون ضجيج ومدح.
لن يجد الحاج السنان عندنا سوى هذه الكلمات التي لا تساوي شيئا مما بذله من أجلنا، لكن المبتغى هو ثواب الله وإحسانه ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾، لكن دعائي أن يجد في ولديه وبناته الثلاث غرسا يانعا يواصل مسيرته ضمن التمكن والاستطاعة، فليس المال وحده هو محل حاجة الناس لبعضهم، بل قد تكون الإعانة بكلمة أو بنصيحة أو بعلاقة وإن كلفت بعض ماء الوجه وبعض السمعة التي لا مصرف لها إلا في الدنيا.
إن الكثير من الناس يملكون المكانة التي تخولهم للحديث مع هذا وذاك، لحل أزمة هنا، وفك عقدة هناك، لكنه البخل في إنفاق ماء الوجه، وطول الأمل في أن ينفعهم ذلك لحاجة أخرى تكون أهم في نظرهم، وأحيانا الأنانية التي قتلتنا ولم ترحم أحدا فينا.
إننا في زمن الأثرياء فيه كثيرون والوجهاء أكثر منهم، لكن من يتحسر الناس على فراقهم لا شك أنهم قلة، ومن تذكرهم بيوت المعدمين نوادر، ومن تعم بركات وجودهم للمحيطين بهم أعدادهم متواضعة، والله وحده نسأل أن يختم حياتنا بخير وأن يجعلها صدقة جارية لنا في الممات.