دماء وأرزاق ..من المسؤول؟
أنتم يا من رميتم الكرة في ملعب الناس، وحملتموهم أكثر مما يطيقون، اتهمتم عقولهم ونفسياتهم، وبرأتم ساحتكم، كأنكم لستم على صلة بالكم الغزير من الدماء التي تسيل على الطرقات. كلما حصل حادث راح ضحيته شاب في مقتبل العمر، أو عائلة بكاملها، أو أصيب من أصيب بعاهة دائمة، أو جرح في نفسه وقلوب المحيطين به، قلتم إن هذا من تهور السائقين، وطيش الشباب، وعدم الالتزام بقواعد المرور، والسرعة التي تتعدى المسموح، ووسيلة النقل القديمة، والإطارات غير الصالحة، وأحيانا ترمون السبب على سوء الأحوال الجوية والأرضية والبحرية إلى آخر المعزوفة المعروفة.
إن كل من يسير في شوارعنا يعرف أن المواصلات تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية بسبب الطرقات السيئة، والتحويلات المربكة، والصيانة الغائبة، والغفلة التامة بكل معانيها عن ملايين الناس والأرواح التي لا تنقطع ليلا ونهارا عن تلك الشوارع والطرق كي تصل إلى مقاصدها بسلام. إن التفسير المكرور والمستهلك لكثرة الحوادث والضحايا والدماء على الطرقات لم يعد مقبولا، فالشباب موجودون في كل دول العالم، وطيشهم وعجلتهم وتهورهم يحصل في كل مكان، وهو أمر مسلم به، لكن كثرة الحوادث في بلادنا وارتفاع ضحاياها عن الدول الأخرى، وعن دول الخليج المجاورة لنا، لا يمكن تفسيره بعيدا عن المواصلات. ولعل كل من سافر برا إلى إحدى الدول الخليجية القريبة منا (والتي تشاركنا في المناخ والتضاريس) يشعر الفرق في الطرقات، من ناحية التخطيط والعناية ووضوح المسارات، وحتى طريقة التعبيد للطريق والمواد الخام التي استخدمت في التعبيد، والصدق في الشركات التي نفذت تلك الطرق، تحت إشراف وزارة المواصلات في دول الجوار تلك، ويكتشف في أعماق نفسه سببا رئيسا منسيا لكثرة الحوادث في بلادنا.
أما الطرق الداخلية التي تتكفل بها البلديات فقد أبهظت الناس في أرزاقهم بسبب البطء القاتل في التنفيذ، فكما تتفنن المواصلات في أعذارها عن ضحايا الطرقات، تتقن البلديات اللعبة لترمي الكرة على المقاول المنفذ في كل ما تسببه من خسائر لأصحاب المحلات، ومن أذى للمنازل المطلة على تلك الطرقات، وللناس المحتاجين لاستعمالها. كل المواطنين يتساءلون عن إصلاحات لا يتعدى طولها الكيلو متر الواحد، ومع ذلك تمر عليها الأشهر وأحيانا تتجاوز السنة بسبب ترميم سطحي لا يستقيم إلا قليلا، وتعود إلى حالها السابق، لكنها تكلف أصحاب المحلات التجارية المستأجرة مبالغ باهظة، فهم يدفعون الايجارات ورواتب العمال، ويخسرون في السلع، وينقطعون عن الزبائن، دون أن تكترث البلديات بحالهم، وكأن لسان الحال يقول: ليمتد الشهر عاما كاملا، فما الضير؟!!! لقد أصبح الناس لا يستبشرون السعادة، ولا تغمرهم الفرحة حين يسمعون عن صيانة طريق داخلي أو خارجي، لأنهم يخافون عامل الزمن السائب والمفتوح، الذي يمتد خارج نظام الرقابة والسيطرة، ويبعد كثيرا عن ضوابط الإتقان ليعود بعد زمن يسير لحالته السابقة. لابد من القول هنا أن التأخير ليس لضرورات العمل في أغلب الأحيان، بل لأن الطريق المطلوب إصلاحه خال من العمال المنفذين في أغلب الأيام، أو أن عدد العمال قليل جدا، وكأنهم للتسلية ولذر الرماد في العيون.
أليس غريبا أن تحصل في دول العالم كوارث طبيعية، وحروب مدمرة، تقطع أوصالها، وتقلب طرقاتها ومبانيها رأسا على عقب، ومع ذلك تتعافى بناها، وتعود شبكات مواصلاتها أحسن مما كانت، وفي أوقات قياسية، ونحن هنا في بلد القدرة والإمكانات والخير نقضي الأشهر والسنوات من أجل جسر هنا أو نفق هناك، أو ترميم شارع مساحته مخجلة إذا ما قيست بدمار تلك الدول. أليس المسؤول بحاجة لأن يكون مسؤولا واقعيا، دون أن يرمي الكرة على الناس والضحايا الذين لا حول لهم ولا قوة.