نحو اهتمامٍ أكبر بـ (فقه) حقوق الإنسان
المسافة البعيدة الفاصلة بين عظيم اهتمام الإسلام فكراً وتشريعاً بحقوق الإنسان، وبين ضعف اهتمام المسلمين وخاصة الإسلاميين منهم بقضاياها، تطرح تساؤلاً ملحاً عن الأسباب والعوامل الكامنة خلف هذا التباين.
ويأتي في طليعة تلك العوامل ـ كما يبدو لي ـ العامل الثقافي المعرفي، حيث ركزت الثقافة الدينية المتوارثة على محورية الدفاع عن حقوق الله تعالى على عباده في الجانب العقدي والعبادي، فاهتم علماء المسلمين ودعاتهم بتبيين العقائد الدينية، والفرائض العبادية فيما يرتبط بالعلاقة بين العبد وربه، وفيما ينقذه وينفعه في آخرته، أما حقوق الناس فيما بينهم وسبب نجاحهم في تنظيم حياتهم الدنيوية فلم تنل حظها من الاهتمام والتركيز.
من ناحية أخرى فإن بعض المفاهيم الأخلاقية، والتعاليم الدينية، حصل التباس في فهمها، وتشخيص موارد تطبيقها، فخلقت نوعاً من العزوف والتساهل في أذهان المتدينين تجاه المطالبة بالحقوق والدفاع عنها.
ومنها مفهوم الصبر، والذي هو في الأصل يعني الثبات والاستقامة أمام التحديات، لكنه أصبح يعني الاستسلام والخنوع، ومنها مفهوم الزهد وهو في الأصل التسامي على الأهواء والشهوات التزاماً بالمبادئ والقيم، فأصبح يعني اللامبالاة تجاه شؤون الحياة.
ويأتي في هذا السياق فهم بعض الأحاديث في التعامل مع الحاكمين، والتي يدل الصحيح منها على الحذر من انفلات النظام ووقوع الفتن، فأصبحت تعني القبول بكل التصرفات الصادرة عن الحاكم وإن كانت جائرة مخالفة للشرع.
لقد تم إغفال النصوص والمفاهيم الدينية التي تربي الإنسان المسلم على التمسك بحريته وكرامته وحقوقه، وتشجعه على الدفاع عنها، وعدم القبول بالظلم والعدوان والانتهاك لشيء من حقوقه المادية أو المعنوية.
إن الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، ويصف المؤمنين بأنهم يجاهدون لاستعادة حقوقهم، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾. وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: «ما ضاع حق خلفه مطالب». وفي دعاء مكارم الأخلاق الوارد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين جاءت الفقرات التالية: «واجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني» . ونقل النووي في شرحه لصحيح مسلم عن أبي علي الدقاق قوله: «من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس». فلا بد من الطرح المتوازن للمفاهيم، حتى لا يقع الالتباس والخلل في المعرفة والسلوك.
وهناك عامل سياسي يتعلق بتحاشي العلماء والمفكرين الاصطدام مع السلطات والحكومات في التاريخ الإسلامي، الذين مارسوا الاستبداد السياسي، وانتهكوا كثيراً من حقوق الإنسان، مما يجعل الحديث حول تلك الحقوق بمثابة اعتراض على تلك السلطات. وقد رصد أحد الباحثين المعاصرين بعض ما طفحت به سجلات التاريخ الإسلامي من انتهاكات حقوق الإنسان، فتكونت موسوعة ضخمة تحت عنوان (موسوعة العذاب) طبعت في سبعة مجلدات، تصل إلى حوالي 3000 صفحة. وفيها من ألوان الانتهاكات والتعدي على الحرمات والحقوق ما يندى له الجبين، ويوجب الدهشة والذهول.(عبود الشالجي، موسوعة العذاب، الطبعة الثانية 1999م، الدار العربية للموسوعات، بيروت).
صحيح أن الاستغراق في مشاكل التاريخ غير مجد، ومضر إذا ما استغل لتعميق الخلافات والانقسامات في الأمة، لكن إضفاء هالة التمجيد والتقديس تحرم الأمة من أخذ الدروس والعبر، وقد تمنح الشرعية والمقبولية لتلك الممارسات الإجرامية.
وثمة عامل اجتماعي يتمثل في قوة الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع والتي ضعف العلماء والإسلاميون عن مواجهة ما فيها من انتهاكات لحقوق الإنسان، وسكتوا عن تبيين رأي الشرع مراعاة للواقع الاجتماعي. كما هو الحال في بعض صور التعامل المسيء مع الزوجة والمرأة بشكل عام، وكذلك القسوة في التعامل مع الأولاد والتلاميذ والخدم.
ومن العوامل المستجدة التي سببت عزوف الإسلاميين عن الاهتمام بقضية حقوق الإنسان، الخلل في مصداقية طرح الدول الغربية لحقوق الإنسان، إضافة إلى بعض التحفظات على بعض موادّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لمخالفتها لأحكام شرعية منصوصة، كحرية الارتداد عن الدين، والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في مثل الإرث وحق الطلاق..
فمن الواضح أن بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية هي المثال الأبرز، تمارس الازدواجية وتستغل شعارات حقوق الإنسان لخدمة مصالحها وأغراضها، فتغض الطرف عن أبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان من قبل الأنظمة الحليفة لها، بينما تملأ الدنيا ضجيجاً ضد المتمردين على هيمنتها. وما السكوت على الاحتلال الإسرائيلي وممارساته الإجرامية المستمرة تجاه الشعب الفلسطيني، بل دعمه والدفاع عنه إلا دليل سافر على خلل المصداقية، وسوء الاستغلال لقضية حقوق الإنسان.
وكرد فعل على هذه السياسات أخذت بعض الجهات الإسلامية تنظر بشك وريبة لطرح موضوع حقوق الإنسان، وكأنه ورقة مشبوهة، وكلمة حق يراد بها باطل.
مهما كانت وجاهة بعض هذه المبررات، وحجم بعض تلك العوامل والأسباب، إلا أنه لا يصح أن تحجبنا عن حقيقتين عظيمتين:
الأولى: موقعية حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، والتأكيد الخطير على رعايتها وحمايتها، فلم تحذر النصوص الدينية من شيء كتحذيرها من جريمة الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، كما أن إقامة العدل بين الناس هو الهدف الأساس للشرائع الإلهية ولابتعاث الأنبياء، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
مما يعني أن التساهل تجاه هذه القضية يعني إضاعة هدف أساس للدين، والتنكر لأهم شرائعه ومقاصده.
الثانية: الارتباط العميق بين رعاية حقوق الإنسان ومستوى التقدم الحضاري في الأمة، حيث لا يمكن لأمة أن تتقدم، وأن تحقق الاستقرار والتنمية، وخاصة في هذا العصر، إذا لم توّفر الكرامة لأبنائها، فالإنسان المقهور المسحوق لا ينجز تقدما حقيقياً، ولا ينتج عطاءً، كما أن عالم اليوم لن يحترم أمة تتجاهل حقوق الإنسان.
وعلينا أن نعترف بمدى التخلف الذي تعيشه الكثير من المجتمعات الإسلامية على صعيد رعاية حقوق الإنسان. فما تتناقله التقارير الصادرة عن المؤسسات المعنية بهذا الشأن عن الواقع السيئ لحقوق الإنسان في بلاد المسلمين ليس كله حملات مغرضة، وإن كان هنالك غرض في توظيفه من قبل بعض الجهات، لكن ما يحصل من انتهاكات قد يكون أكثر مما تستعرض تلك التقارير.
هاتان الحقيقتان تفرضان على الإسلاميين الواعين أن يبدوا الاهتمام اللازم بقضية حقوق الإنسان، وأن يتصدوا للدفاع عنها، بنشر رؤية الإسلام وثقافته الحقوقية، عبر مناهج التدريس، ووسائل الإعلام والتخاطب مع الجمهور، وبتشكيل المؤسسات والجمعيات التي تتبنى قضايا حقوق الإنسان، وممارسة مختلف الوسائل والأساليب المشروعة.
إن إنشاء الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية يمثل خطوة استجابة لهذا التحدي الكبير، حيث بادرت نخبة واعية من أبناء المملكة العربية السعودية لتشكيل هذه الجمعية من أجل العمل على حماية حقوق الإنسان، والوقوف ضد الظلم والتعسف وعدم التسامح، وللتعاون مع المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، حسبما ورد في النظام الأساسي للجمعية. انها تجربة رائدة نتطلع إلى نموها وتطويرها، لتساعد على تلافي القصور والتقصير الذي تعاني منه الساحة الإسلامية في مجال الاهتمام بحقوق الإنسان.
ونجاح هذا المشروع فيه خير للوطن والمواطنين والدولة، فالوطن الذي تحترم فيه حقوق الإنسان يتعمق ولاؤه في نفوس أبنائه أكثر، ويستفيد من تفعيل طاقاتهم وقدراتهم في التنمية والبناء بأقصى حد ممكن، والمواطن الذي يتمتع بكامل حقوقه الإنسانية، يصبح أكثر سعادة وعطاءً وإخلاصاً لوطنه وأمته. والدولة التي ترعى وتحمي حقوق مواطنيها تستحق كل الولاء والالتفاف الشعبي داخلياً، وتحظى بالاحترام والتقدير عالمياً.
ولن يتحقق هذا النجاح إلا إذا بذل الإخوة الكرام أعضاء الجمعية جهودهم المباركة، وتعاونت معهم أجهزة الدولة، وأحاطهم المواطنون بالدعم والمساندة.