نقاشات الخطاب الديني في مرحلة تحولات حذرة
المملكة العربية السعودية تعتبر نفسها في حال حرب مع الإرهاب. هكذا قال وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز قبل أسبوع واحد فقط من مرور سنة على أول عملية انتحارية في السعودية هزت الرياض.يرى الكثيرون تصريح الوزير السعودي هذا إلى جانب تعهدات ولي العهد الأمير عبدالله " بملاحقة الارهابيين... ثلاثين عاماً لو استدعى الأمر ذلك" كافية لبلورة مدى التحول في أولويات الحقبة الراهنة للمملكة التي عاشت طويلاً - ولا تزال - تزدهر بأمنٍ فريد بات واحداً من سماتها بين سائر بلدان العالم.
وإن بدت تلك السمة مهددةً بفعل الفئة المتطرفة, التي انكشف أخيراً عزمها العصف بأي مكتسبٍ إذا ما رأت فيه عائقاً أمام إرساء قيمها الأيدلوجية البائسة... التي تحاول فرضها على المجتمع, مهما غلا الثمن.
ما يعتبره المراقبون في ظل هذا التهديد أكثر بثاً لروح الطمأنينة من أي شيء آخر في الشارع السعودي هو: إجماع القيادات السياسية على أن "السعودية قادرة على هزيمة الارهابيين... وعازمة على ذلك", مهما اختلف الآخرون في تقدير حجم الظاهرة الإرهابية.
لكن ما يثير الجدل بين التيارات الفكرية هو مدى تصميم الدولة على هزيمة شقي الظاهرة الأمني والفكري, إذ تكاد تجمع على أن هذا الأخير إن حظى بالاهتمام يظل دون القدر الكافي, وهناك من يرى أن مهمة الدولة في الحل الأمني والتشجيع على الفكري. فيما يتولى المجتمع بفعالياته المتعددة التصدي للجانب الفكري, وكانت خطوة الحكومة السعودية في إنشاء مركز للحوار الوطني محل تنويه محلي وعالمي في هذا الإطار.
وأياً كان فإن أولويات المملكة أمس قد اختلفت عن اليوم... وبعد استهداف مبنى المرور في شارع الوشم الشهر الماضي شهد الموقف الشعبي والرسمي تحولاً جديداً داخل إطار التحول العام, وبدت كل الأوساط مستيقنة أن جميع من على الأرض السعودية مستهدف.
ويعد الخطاب الديني واحداً من أبرز سمات التحول الذي شهدته الساحة السعودية أخيراً بعد عام من أول عملية انتحارية في السعودية, فعلى رغم أن غالبية مشايخ السعودية دانوا أحداث 11 أيلول (سبتمبر) إلا أن خطابات الإدانة والتحريم والشجب تطورت مع تطور الأحداث حتى شهدت أعلى ذروة لها بعد عملية "الوشم" حتى أنّ خطيباً ذا جماهير غفيرة في العاصمة كالدكتور سعد البريك قد صارح جماهيره بأن تفجير الوشم "أسقط ورقة التوت الأخيرة, وكشف معها الغشاوة عن أعين من كان يعتقد أنه خارج معادلة الاستهداف".
مفتي السعودية وهو أعلى شخصية دينية في السعودية هو الآخر على رغم مواقفه من العمليات الاستشهادية في فلسطين قبل أن تكون السعودية هدفاً استشهادياً, اعتبر "رجال الأمن مجاهدين, ومن يقتلهم يدخل دائرة الكفر". وهو أعلى وسام يمكن أن يمنح للمجاهدين, وأخطر عملية سحب المشروعية تحت بساط "الفئة الضالة" بعد أن تكبدوا خسائر أفدح عندما فقدوا أقطابهم المشرعين لأفعالهم رمضان الماضي "الخضير والفهد والخالدي".
وما يمكن تسجيله مفارقة في الحرب الفكرية بين التيار الديني المعتدل من جهة وبين "الفئة الضالة" من جهة أخرى هو تجاهل الأول بعض ذرائع وحجج الآخير في الإقدام على الأعمال الإرهابية, فاكتفاء العلماء الشرعيين بحرمة سفك الدماء وقتل المعاهدين, تظل تنظيراً انتقائياً أمام الأدلة والاستنباطات التي يبثها التكفيريون وزعماؤهم عبر قنوات خمس نجوم, ومواقع الشبكة الالكترونية التي تشهد رواجاً واسعاً في الوسط السعودي بخاصة بين فئات الشباب التي تتعرض لغسيل الأدمغة من جانب "القاعدة ومنسوبيها".
إذا أردنا مثالاً على ذلك, فإن الحديث الذي يعد عمدة التكفيريين في القيام بأعمالهم لا يزال تفسيره غير متفق عليه بين علماء الدين في السعودية... (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب). ومع ما لبعض هؤلاء العلماء من تفسيرات ليست في مصلحة الواقع الأمني الذي تعيشه المملكة في الوقت الراهن إلا أنهم لا يزالون متشبثين بها... أو على الأقل لم يبينوا وجهة نظر مخالفة لتلك التي أثبتوها في كتبهم... ما يعني أنهم لا يزالون على ما كانوا عليه.
هذا التناقض طرح على إثره التيار الليبرالي المناوئ لكل التيارات الإسلامية في السعودية تساؤلات عدة عن حقيقة مواقف علماء الدعوة (الصحويين) بالذات حول ما يجري من عنف ضد المدنيين في السعودية.
وهناك اتهامات صريحة بأن إدانات الصحويين على وجه الخصوص كانت مواقف تكتيكية!!. وإن كان هذا الأخير مستبعداً إلا أنه قد يفهم كرد فعل طبيعي من جانب التيار الليبرالي نحو الاسلامي الذي دائماً يحاول ربط الإدانة للإرهاب بإدانة ما يطلقون عليه (الحرب على الفضائل) وعلى القيم الاسلامية. وهم بالطبع يعنون نداءات التيار الليبرالي ومطالباته.
الشيء الجميل في كل هذا السجال أنه هذه المرة لم يعد تحت الطاولات, ولا في منتديات أتباع كل فريق ضد الفريق الآخر: بل إنه طفا على السطح فتحول إلى مقالات وبيانات وسجالات بين يدي أكابر المسؤولين في الدولة. فضلاً عن الصحف والقنوات والمواقع الحوارية في الانترنت, التي كان لها دور كبير لا ينكر في إثراء هذا النوع من السجال.
إذا كانت قاعدة (ليس هناك شر محض) تصدق على شيء فإنها تكون ها هنا أكثر حضوراً وصدقية, فمع إجماع سائر التوجهات الفكرية والشعبية على إدانة الأعمال الإرهابية ورفضها - على الأقل علناً - فإنها عززت بكل تأكيد تلاحم الشعب السعودي مع حكومته من جهة... وبين سائر التوجهات والطوائف والمذاهب في السعودية من جهة أخرى... ويكاد القارئ والمتابع يمل من ترديد جملة (نحن في سفينة واحدة إن غرقت غرقنا جميعاً وإن نجت نجونا) وإن كان يطرب لمضمونها الرائع.
وكي لا يكون ذلك حكماً شخصياً فإن الدكتور عائض القرني الداعية الاسلامي الشهير الذي لعب دوراً مهماً في محاورة أقطاب الفكر التكفيري وتسجيل مراجعاتهم قد أجاب عما إذا كانت الأحداث الارهابية عززت الوحدة الوطنية في السعودية أم العكس فقال: "أنا أرى صراحة أنها زادت من الوحدة الوطنية, لأن الخطاب الآن أصبح هدفه واحداً, ورأيت أن الناس كلهم مجمعين على ضرورة الوحدة الوطنية, لأن الجميع شعر بالخطر... ما أوجد تكاتفاً وتضامناً نعتقد أنه ضروري في هذه الحقبة الحاسمة.
والشيخ حسن الصفار المفكر السعودي الشيعي اعتبر أهمية هذا المحور تتمثل في خلقه أجواء أكثر ملاءمة للتحاور... وقال لـ"الحياة": "الوعي بأهمية الحوار وأهمية التعايش أصبح الآن أنضج وأكثر من أي فترة سابقة", مضيفاً أن الظروف أصبحت "مشجعة أكثر ومساعدة أكثر (لإثمار الحوار). يشعر الجميع الآن بمدى الضغوط والأزمات التي نعيشها في أوطاننا وفي بلداننا. هذا الشعور يدفعنا إلى أن نتجاوز مشكلاتنا الداخلية, ونتفرغ للتحديات الكبرى التي تواجهنا, كما أن ما يطرحه العالم من إشكالات على الحريات وعلى حقوق الإنسان في داخل أوطاننا بدت لها صدقية, وإن كان الغرب يريد أن يستفيد من ذلك كورقة لمصلحة استهدافاته.. ولكن.. الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أين وجدها. أعتقد أن الوعي بأهمية الحوار وأهمية التعايش أصبح الآن أنضج وأكثر من أي فترة سابقة.
السؤال الذي يبقى محيراً في الذكرى الأولى لـ12 ايا (مايو) والذي لم يجد حتى الآن جواباً مقنعاً - أو مرضياً على الأقل - يظل: ماذا يريد هؤلاء؟ فلم تعد التفسيرات الماضية شافية من كونهم يريدون إخراج المشركين من جزيرة العرب, كما لم يقدم من رأوا أنهم يريدون (طلبنة) الدولة دليلاً يقنع معارضيهم, فيما لم تزل التفسيرات تتساءل عن كيف كان هؤلاء دمى تحركها القوى الصهيونية من وراء الحدود. وهو التفسير الأكثر تخويفاً... بعد أن صارح به ولي العهد السعودي الأمير عبدالله الرأي العام الذي لم يملك سوى القول: "معقول"؟! عجباً من وصول قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة" إلى الحد الذي يجعل "مجاهدي أمس" عملاء للصهاينة في نهاية المطاف: إذاً لا بد من أن ولي العهد لديه حقائق... الرأي العام في شوق إلى معرفتها.
وإلى أن يتم الكشف عنها يبدي رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الملك سعود خيبة أمله في قدرة التحليل الصحافي على أهميته على تقديم تصور فكري لما يريد أو يقوم به الارهابيون.. ويقول: "لا أعتقد أن التحليل الصحافي, على أهميته الكبرى, يكفي لقراءة الأحداث أو يقدم لنا تصوراً فكرياً لما يقوم به هؤلاء أو الأسباب التي أدت إلى نشوء مثل هذه الظاهرة التي باتت تهددنا جميعاً في أمننا وأرزاقنا وراحتنا".
وتابع " ما نسمعه كله محاولة لتأكيد أن ما يقوم به الإرهابيون خطأ. وأنا على يقين أن معظم أفراد المجتمع واثقون أنه خطأ ولكن لماذا لا نسعى إلى تطوير فكر مواجهة من طريق التحليل العميق للأسباب التي جعلت هؤلاء يتبنون مثل هذا المنهج. لا أعتقد أن المسألة تقتصر على مجرد فتوى تخولهم للقيام بمثل هذه الأعمال. وإذا سلمنا بهذا الأمر وقلنا ان هؤلاء "مغيبون" وأنهم يتبعون الفتوى من دون مساءلتها والتأكد من صحتها, فإن هذا يثير الكثير من علامات الاستفهام حول التعليم وما بعد التعليم. فالتعليم من ناحية لا يصنع أفراداً قادرين على التحليل والتقويم وتحديد الصح من الخطأ, فهو تعليم "تلقيني" يؤدي مع الوقت لاضمحلال خاصية "التفكير النقدي "لدى أبنائنا وبالتالي أي فتوى ولو كانت غير منطقية تلقى ترحيباً".
ويكمل "ولو حاولنا أن نقيم تجربة التغيير التي تنادي بها في عملية التعليم نجد أن التركيز كله على المناهج دون فلسفة التعليم ذاته... مشيراً إلى أن المشكلة من وجهة نظره الشخصية ليست في المناهج, بل في هدف التعليم وآلياته البالية وفلسفته التي لا تدفع إلى مساحات ابداعية وتثير لدى أبنائنا الأسئلة والمقدرة على التأمل ووزن الأمور. كما أنها مشكلة المعلمين غير المؤهلين (على نطاق واسع إلا من رحم ربي) كونهم معلمين "دجنوا" وسلبت إرادتهم من طريق إدارات التعليم البيروقراطية التي لا تسعى إلا لتطبيق المنهج بأسلوب حرفي لا يسمح بأقل القليل من المرونة".
ومع ذلك لم ينكر أن الهدف وراء الأفعال الإرهابية هو "محاولة الارهابيين فرض وجهة نظرهم الراديكالية على الدولة والمجتمع في الحياة والعلاقات الدولية... وسوى ذلك".