تداعيات الإعلام.. وتأثيراته
الشيخ الصفار لمجلة كل الناس الرمضانية: الإعلام العربي في معظمه يفقد الاستقلالية وتوجهه الأنظمة الحاكمة
التقت كل الناس الرمضانية التي تصدر فی مملكة البحرين بسماحة الشيخ حسن الصفار بمكتبه الكائن بالقطيف بالمملكة العربية السعودية وقد تناولت مجلة كل الناس مع سماحة الشيخ موضوع الاعلام وآثاره على المجتمعات لا سيما في الوقت الحاضر..
(كل الناس): لماذا أصبح دور الإعلام مهماً وضرورياً في وقتنا الحاضر؟
(الشيخ الصفار): تأتي أهمية دور الإعلام في الوقت الحاضر، لتقدم مستوى اهتمام الإنسان بالمعرفة، فقد انتشر التعليم، وارتفعت ثقة الناس بأنفسهم، وازداد فضولهم المعرفي، يريدون أن يلاحقوا الأخبار، ويتابعوا التطورات، ويطّلعوا على مختلف القضايا.
كما أن أحداث العالم أصبحت أكثر تداخلاً، فما يحصل في أي بلد يؤثر على كل أنحاء العالم، لذا يحرص الناس على متابعة ما يجري في كل مكان، لإدراكهم تأثيرات ذلك على أوضاعهم بشكل أو بآخر.
وتطور وسائل الإعلام والاتصالات لجهة الدقة والسرعة والتقنية المتطورة، كلها أسباب للجذب والاستقطاب، لوسائل الإعلام.
لقد أصبح الإعلام قوة مؤثرة في صنع السياسات وتوجيهها، وأصبح سلاحاً فعالاً في المنافسة والصراع الفكري والسياسي والاقتصادي، ففي المجتمعات الديمقراطية اخذ الإعلام مسمى السلطة الرابعة، وفي كل الدول والمجتمعات تستفيد الحكومات من الإعلام لتبرير سياستها، وتستفيد المعارضة لتعزيز قوتها.
(كل الناس): هل لعب الإعلام دوراً في قلب الحقائق على مر التاريخ؟
(الشيخ الصفار): بالتأكيد فإن الحكام المستبدين عبر التاريخ، والتوجهات الفئوية، مارست دور الوضع والكذب والافتراء، لتبرير السياسات الظالمة، وخداع الناس وتضليلهم.
كما جرى التعتيم على سيرة وعطاء القيادات الصالحة، من الأئمة والأولياء، والثائرين والمصلحين.
وما نعانيه في تاريخنا من تناقض وغبش واضطراب في نقل الأحداث والوقائع، إنما هو بسبب ذلك الدور السيئ لإعلاميي تلك العصور.
(كل الناس): كيف تنظر إلى الإعلام العربي؟
(الشيخ الصفار): الإعلام العربي في معظمه يفقد الاستقلالية، وتوجهه الأنظمة الحاكمة، وقلّ أن تتوفر فرص الإعلام الحرّ، وبعض الإعلام العربي يخدم توجهات طائفية أو فئوية، كما أن المساحة الأوسع من البث الفضائي تستهلك في البرامج العاطفية، وتعرض الأفلام الهابطة.
وهناك منابر إعلامية عربية هادفة مفيدة، تواجه التحديات، وتصارع الضغوط، لتكون وفيّة لقضايا الأمة، وملتزمة خدمة القيم الفاضلة والأخلاق النبيلة.
(كل الناس): هل كان للإعلام دوراً في تفسخ الشعوب أم في ارتقائها؟
التقدم والتطور الإعلامي نعمة كبيرة لصالح البشرية، لكنها كسائر النعم التي انعم الله تعالى بها على الإنسان، يمكن أن تكون وسيلة للخير، أو أداة للشر، حيث تختلف الشعوب في مدى استفادتها من الإعلام أو تضررها منه، باختلاف مستوى وعي التعامل مع هذه القوة الرهيبة المؤثرة وهي الإعلام.
فكلما اتسعت رقعة الوعي في الشعوب، كانت الاستفادة الايجابية من الإعلام أكبر، حيث تظهر من خلاله الكفاءات والطاقات، ويكون تبادل للآراء والأفكار، وتدوير للمعلومات والأخبار، وتقدم في الحراك السياسي والثقافي.
أما حين ينخفض مستوى الوعي، يأخذ الإعلام منحى آخر، هو التضليل والتمييع ومسخ الهويّة القيمية.
(كل الناس): الإعلام سلاح ذو حدين ما المقصود بهذه العبارة؟
(الشيخ الصفار): الإعلام وسيلة مهمة جداً في هذا العصر، فهو الذي يصنع الرأي العام، ويؤثر في أفكار الناس وتوجهاتهم، وينشر المعارف والثقافات، وهو أداة للتواصل بين الأمم والحضارات.
إنه يمكن الاستفادة من الإعلام ايجابياً، بالتبشير بالقيم الفاضلة، وخدمة توجهات التنمية، والمصلحة الإسلامية والوطنية، والرقي بالمستوى المعرفي والثقافي لأبناء المجتمع.
وباتجاه الأمم الأخرى يمكن أن نوصل لهم عبر الإعلام رسالة الإسلام، ونعرفهم على مبادئه الإنسانية الداعية إلى السلم والسلام، في مقابل التشويه والإساءات التي توجهها الجهات المعادية لديننا الحنيف ولنبينا العظيم صلى الله عليه وآله.
وهذا هو الحدّ الايجابي لسلاح الإعلام، الذي يتمثل في إمكان استفادتنا منه لصالح ديننا ومجتمعاتنا وأوطاننا، أما الحدّ الآخر السلبي، فهو ما نشكو منه من استغلال الأعداء للإعلام ضدنا، ومن تسخير الأنظمة الاستبدادية للإعلام من أجل مصالحها، ومن التوجهات المنافية للأخلاق التي تروج لها وسائل الإعلام.
(كل الناس): جيل الشباب وجيل الأطفال هل صار ضحية الإعلام؟ ولماذا؟
(الشيخ الصفار): لا شك أن أكثر المتأثرين سلبياً بالإعلام السيئ هم جيل الأطفال وجيل الشباب، والإعلام يستهدف هذين الجيلين بالدرجة الأولى.
لقد أصبح الإعلام جسراً لنقل ونشر السلوكيات المنحرفة لأبنائنا وشبابنا، ومن أبرزها ممارسات العنف والابتذال الأخلاقي.
كان أبناؤنا يرثون سلوكيات آبائهم وعوائلهم المنبعثة من الالتزام الديني، وعادات وتقاليد الاحترام والتكافل الاجتماعي، فمجتمعنا محافظ وخاصة في مجال العلاقة بين الجنسين.
لكن وسائل الإعلام والاتصال نقلت لأبنائنا سلوكيات التمرد، وممارسة العنف بدءاً من أفلام الكرتون الموجهة للأطفال.
كما أن البرامج المبتذلة والأفلام الهابطة، شجعت الشباب على تكوين العلاقات العاطفية بين الجنسين، والتواصل عبر الشبكة العنكبوتية.
ومما ساعد على نجاح الإعلام في اختراق سلوكيات أبنائنا، ضعف الاهتمام العائلي بالأبناء، بسبب انشغال الوالدين وترك الأبناء بلا احتضان ولا توجيه، فأصبحوا هدفاً سهلاً لتأثيرات الإعلام السيئة.
(كل الناس): في نظرك من يقف وراء الإعلام الهابط؟
(الشيخ الصفار): تقف وراء الإعلام الهابط جهات مصلحية يهمها الكسب المادي، لأن البرامج الشهوانية، تستقطب أكثرية الناس، كما يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾.
وتشير الإحصائيات إلى الأرقام الضخمة التي يجنيها مروجو المخدرات، ومنتجو الأفلام الإباحية، ومديروا شبكات الدعارة والمتاجرة بالبشر....
كما أن هناك جهات سياسية دولية ومحلية، قد تسعى لنشر الميوعة والفساد في المجتمعات التي تريد الهيمنة عليها.
(كل الناس): هل مستوى الإعلام الإسلامي يلبي حاجة الشعوب وارتقائها؟
(الشيخ الصفار): إن من أهم حاجات شعوبنا:
أولاً: الفهم الصحيح للدين، حيث يسود فهم قشري تقليدي على مساحات واسعة من مجتمعات الأمة، يتحول الدين بموجبه إلى مجرد طقوس وتقاليد، أما قيم الدين الحقيقية كالحرية والعدالة وحقوق الإنسان والمعرفة والتنمية والعمل الصالح، فهي غائبة ولا تحظى بأهمية الطقوس والشعائر الظاهرية.
ثانياً: التنمية الشاملة، فشعوبنا في آخر القائمة في جميع كشوف التنمية، كمستوى الجامعات، ومستوى الإنتاج، ومعدل العمر، والمشاركة السياسية، ومشاركة المرأة، وحركة المعرفة وغيرها، والقوائم الوحيدة التي نأخذ فيها الأرقام الأولى هي الحروب والنزاعات الداخلية، وانتهاكات حقوق الإنسان ومستوى الأمية... وأمثالها.
ثالثاً: ثقافة التسامح، فالتنوع العرقي والقومي والديني والمذهبي في مجتمعاتنا، بدل أن يكون دافعاً للتعارف، كما هو توجيه القرآن الكريم ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ أصبح سبباً للقطيعة والتباعد، وبدل أن يكون مصدراً للإثراء كما هو الحال في واقع المجتمعات الأخرى، صار سببا للاحتراب والصراع والنزاع.
إن على الإعلام الإسلامي أن يجتهد في خدمة هذه الحاجات الأساسية للشعوب الإسلامية في هذا العصر، وهو لا زال يعاني من قصور كبير في الاستجابة لهذه التحديات، بل إن بعضه يقوم بدور سلبي وتضليلي، يعزّز حالة التخلف، ويمارس الخداع السياسي لصالح أنظمة الاستبداد، ويزيّف اهتمامات الناس بإثارة الغرائز والشهوات.
(كل الناس): كيف تنظر إلى فضائياتنا الإسلامية؟ وبماذا تنصحهم؟
(الشيخ الصفار): فضائياتنا الإسلامية حديثة ناشئة، لا تتوفر لها الإمكانات التي تملكها الفضائيات المتقدمة، ولا مستوى الخبرة والتجربة.
وأكثر هذه الفضائيات يسودها خطاب تقليدي، فهي تنقل خطب المساجد والحسينيات، بما لا يناسب الفضاء المفتوح، كما تخدم في الغالب الاهتمامات الجزئية القشرية، كمسائل الخلاف المذهبي، وبعضها يمارس دور الشحن والتعبئة الطائفية، من الجانب السني والشيعي.
لكن عدداً قليلاً من الفضائيات الإسلامية قد شقت طريقها بنجاح، وفي طليعتها قناة المنار الفضائية، وهي أنموذج للإعلام العصري الأصيل، حيث تبث قيم الدين، بلغة عصرية منفتحة، كما تستنهض أبناء الأمة لخدمة قضاياهم المصيرية كمقاومة العدوان الصهيوني، والهيمنة الأجنبية وتعزيز الوحدة الإسلامية.
(كل الناس): ماذا تقول إلى الذين يملكون الإعلام والقائمين عليه؟
(الشيخ الصفار): أقول لمالكي وسائل الإعلام والقائمين عليها في مجتمعاتنا الإسلامية، عليهم أن يتحملوا مسؤوليتهم أمام الله وأمام أوطانهم ومجتمعاتهم، فهم يملكون أهم فرص التأثير على عقول الناس ونفوسهم، ولهم الدور الأساس في المشاركة في صناعة الرأي العام في شعوبهم.
فعليهم أن ينطلقوا من خدمة المصالح العامة للناس، وأن لا يقدموا عليها مصالحهم الذاتية، المتمثلة في الكسب المادي، وخدمة التوجهات السياسية.
إن مجتمعاتنا مهددة اليوم في أمنها الاجتماعي وقيمها الأخلاقية، والإحصائيات المتصاعدة لحوادث الإجرام، وانتهاك الأعراض، وانتشار المخدرات، واستعمال العنف، والمشاكل الأسرية، هي مؤشرات خطيرة لمضاعفات التحولات التي تمرّ بها مجتمعاتنا، فعلى وسائل الإعلام أن لا تكون معاول هدم لمنظومة القيم الأخلاقية بإثارة الشهوات وتحريض الغرائز.
كما أن أوطاننا في حاجة ماسة لتحريك عجلة التنمية التي تأخرت وتعثرت كثيراً. مما وسّع رقعة الفقر، وزاد مستوى البطالة، واضعف واقع الإنتاج.
فعلى وسائل الإعلام أن تدفع نحو الفاعلية، وتسهم في معالجة المشاكل القائمة التي تعوّق التنمية.
وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي، يجب الابتعاد عما يثير الفتنة والفرقة، والتأكيد على مفهوم المواطنة والمشاركة السياسية، لتحقيق الديمقراطية والتقدم.
(كل الناس): بماذا تنصح الأسر والشباب والشعوب في تلقيه الإعلام؟
(الشيخ الصفار): أنصح كل إنسان بأن يتلقى الإعلام بعقل يقظ، وإرادة واعية، فيفكر فيما يسمع ويقرأ ويشاهد، ولا يكون مستسلماً لما يتلقى، فمعظم الإعلام يخاطب العواطف، ويستغفل العقل، ليوجه المتلقي في الاتجاه الذي يريده منتج المادة الإعلامية، في مختلف المجالات.
إن القرآن الحكيم في عدد من آياته الكريمة، حين يذكر حاستي السمع والبصر كنافذتين للإنسان على معلومات الحياة يردف ذكرهما بذكر العقل، ليكون المرجعية للحكم على ما يمر عبر السمع والبصر. ومن دون ذلك يقع الإنسان في مهاوي الضلال.
جاء ذلك في خمس موارد من القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [سورة النحل، الآية: 78].
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾[سورة المؤمنون، الآية: 78].
وكذلك الآية رقم 9 من سورة السجدة، والآية 26 من سورة الأحقاف، والآية 23 من سورة الملك.
كما أنصح العوائل بأن تلفت أنظار أبنائها إلى طرق التعامل السليم مع الإعلام، وذلك عبر الوسائل التالية:
أولاً: أن يكون الوالدان قدوة لأبنائهم في اختيار القنوات الإعلامية، وفي التعاطي معها، مثلاً:
إن إدمان بعض الآباء والأمهات على متابعة الأفلام والمسلسلات العاطفية، يدفع بأبنائهم إلى ذات الحالة، مع فارق المرحلة من العمر حيث يكون الأبناء في مرحلة التنشئة أو المراهقة، ما يجعل الضرر عليهم كبيراً.
كذلك فإن استجابة الوالدين للدعايات الإعلامية عن المنتجات والسلع، يكرّس في ذهنية الأبناء حالة الثقة بما تعرضه وسائل الإعلام من الدعايات التسويقية، وهو تسويق تجاري، كما هو معلوم.
ثانياً: ينبغي الحديث مع الأبناء عن طبيعة الوضع الإعلامي، وعن تصنيف القنوات والمصادر الإعلامية، وتوعيتهم بتوجهاتها وأهدافها، وإرشادهم لكيفية الاستفادة منها، وتجنب مضارها.
إن توفير الأجهزة الإعلامية والمعلوماتية للأبناء يجب أن يصحبه توجيه كاف للنهج السليم في التعامل معها.
ثالثاً: من المهم جداً مشاركة أفراد الأسرة في برامج المتابعات الإعلامية والمعلوماتية، فيشاهدون مع بعضهم نشرة الأخبار مثلاً، ويكون هناك مناقشة وتعليق، وكذلك الحال في مشاهدة برامج الحوارات أو الأفلام، والدخول على مواقع الانترنت، ولو في بعض الأحيان، ليتدرب الأبناء على التفكير فيما يسمعون ويشاهدون، ولينتبهوا إلى أساليب تمرير الأفكار والمعلومات والسلوكيات غير الصحيحة.