رجل السماحة
مساء يوم الأربعاء المنصرم 27/1/1431هـ، كانت رسائل الهاتف النقال تزف لنا الحزن والحسرة، فهي في تتال وتتابع تحمل الخبر عينه (انتقال رجل السماحة العلامة الشيخ علي بن العلامة الشيخ منصور المرهون إلى الرفيق الأعلى عن عمر ناهز الـ 97 عاما).
لتسمح لي أيها القارئ الكريم أن أعود معك سويا إلى مساء 24/9/1425هـ حيث أكثر من ألفي شخص يحتشدون في إحدى ساحات القطيف (الشويكة) لينتظموا في حفل أقيم تحت عنوان «رجل السماحة».
المكرم في هذا الحفل هو رجل السماحة المرهون, الذي ارتأت القطيف له لقبا إنسانياً وأخلاقيا يليق بأخلاقه وتواضعه وعطائه, ومع أن الكثير من الألقاب العلمية لا تعز عليه لكن الفخر للإنسان هي أخلاقه وقيمه ومبادئه، وقد وصف الله سبحانه رسوله بقوله : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
السنوات التي قضاها من عمره في العلم والتعلم, ليتعقل هذا المعنى ويدرك ذلك اللحاظ, ويطلع على دقائق الأمور العلمية وفك طلاسم عباراتها وغوامض أسرارها لم تنسه نفسه فعمل على معرفتها وإصلاحها وتأديبها وتزكيتها فحق له أن يكون رجل السماحة ورفيقها وقرينها.
وهنا كلمات قليلة في حقه
لعل أحد الأسباب التي ربطت رجل السماحة بجنوب القطيف، (حي الدبابية وحي الشويكة وغيرهما) وهم فلاحون ومزارعون يسكن أغلبهم الأكواخ يومها، هو كون القادم لهم من قرية أيضا، وهي قرية أم الحمام (إحدى بلدات القطيف) فرأوا فيه كما رأى فيهم الأهل والأحبة والجيرة والأسرة الواحدة، وبدأ الارتباط بينه وبينهم يشتد ويقوى، فأحبهم وكان أبا حانيا على فقرائهم، أنشأ الصندوق الخيري بالدبابية لمساعدة فقراء القطيف، وكان بمثابة القاعدة التي أسست عليها جمعية القطيف الخيرية، وانطلق يتعاطى ويقصد من فقراء المنطقة كلها.
لم يحبس نفسه في برج عاجي، ولا يحتاج لقاؤه إلى عنوة ومزيد مؤنة، بابه مفتوح يوميا لمسائل الناس وحاجاتهم وحل مشاكلهم، ومسجده عامر بحضوره الدائم في كل الصلوات اليومية، ومشاركته للناس حجهم وعمرتهم لبيت الله من الثوابت التي لم تغيرها إلا ضرورات الكبر والمرض.
هو مع الناس في أتراحهم وأفراحهم، وهو معهم في مجلسه وفي بيوتهم، ولعل البكاء والوجوم الذي خيم على وجوه مشيعيه أكبر دليل على ذلك الحضور.
لم يشتم أحدا، ولم يعاد أحدا، ولم يتقول على أحد، لا بالمباشرة ولا باللمز والغمز في مجالسه أو على منبره، أو في محاضراته أو في خطبه، لقد كان عفيف اللسان، وطاهر السمع فقد نقل الكثير من الآباء الذين عاشروه من قرب أنه كان يرفض غيبة أي أحد من الناس ومن أهل العلم على وجه الخصوص في أي مكان أو مجلس يكون فيه، ويقول اذكروا الناس بخير أو أسكتوا.
حين رأى رجل السماحة حاجة الناس إلى العلماء، حاول أن يوجد أجواء تساعد على طلب العلم ودراسة المسائل التي يحتاجها الناس، وسعى سعيه لذلك، لكن الظروف لم تساعده على إنجاز مهمته.
كما شارك رجل السماحة في الوفد الذي ذهب للملك سعود معزيا بوفاة المرحوم الملك عبدالعزيز آل سعود.
كتب لي والدي (رحمه الله) قصيدة تأبينية لأحد العلماء وطلب مني إلقاءها في حفل سيقام بالمناسبة في المسجد الذي يصلي فيه رجل السماحة (بحي المسعودية)، كان عمري 8 سنوات، جلست على الكرسي وكنت مرتبكا وأنا أمسك الورقة التي كان اهتزازها يهز كل بدني، وكان الشيخ يجلس على الأرض على يميني، لم أصدق أنني سأنهي المهمة لارتباكي، لكنه بادرني بكلمات تشجيعية جميلة أتمها بخمسة ريالات وضعها في جيبي. ليت كل الناس مثلك في التشجيع والتحفيز.