العلاقة مع الآخر من الثقافة إلى المبادرة
منذ أكثر من عقد من الزمن حين عرض سماحة الشيخ حسن الصفار مشروعه في العلاقة مع الآخر كانت التساؤلات والإشكالات عاتية وضخمة.
فالجرأة التي عرض الصفار بها مشروعه، والمواقف الصلبة التي اتخذها للدفاع عن آرائه، والمكنة الإعلامية التي تلقفت تلك التصورات، كلها كان من شأنها أن ترسم علامات استفهام كبيرة عند البعض، وأن تثير الإشكالات والهواجس عند البعض الآخر، وأن تدفع بعض المتنافسين للغيظ والحنق، في أجواء مريضة وموبوءة، لتبدأ العديد من الأطراف القذف والاتهام لمشروع الصفار.
وحين أقول أنه مشروع الصفار فذلك للتماهي مع الغمز الذي كان سائدا في الساحة كي يبدو الصفار وكأنه فردا لا ناصر له ولا معين، لكن واقع الأمر هو أوسع من شخص فهو مشروع لثلة ناشطة وحكيمة لا زالت تتقاسم مع الصفار الهموم العامة والتطلعات التي تخدم الوطن بكل مكوناته، ولعل أسماءها وأشخاصها معروفة وحاضرة في ميادين العمل المتعددة، كما أن مساحة واسعة من ذوي الرأي في المجتمع تتبنى هذا الخيار، وتسعى جاهدة لأجله.
لقد نال الصفار ونال تلك الثلة ما تحتفظ به صحائف يوم الحساب من قذع وإهانة واستخفاف واستهتار وتسقيط، لكن الرجل ومن معه كانوا يرون أنه مشروع الوطن ككل وأنه من صلب تعاليم الدين، وأن كل جديد لا بد له من رجال يتحملون عبأ حمله والنهوض به، حتى إذا ما استوى على سوقه، فسيعجب الزراع نباته، وستؤازره أيد حريصة على خير الأمة واستقرار الوطن.
لكي ننصف عقدا كاملا من الزمن لا بد من الإشارة إلى أن الضفة الأخرى(السنة) كان فيها من يحمل هذا الهم، ويتفكر فيه، ويسعى لأجله ، فتعاليم الدين وحب الوطن كلها تدفع الأوفياء والشرفاء لجعل المسلمين كبشر وأوطانهم كأرض في منعة وقوة عن كل من يريد بهم سوءا.
كانت هناك زيارات متبادلة وجلسات دعى لها الكثير من إخواننا السنة، سواء في المنطقة الشرقية أو في الرياض أو في جدة أو غيرها من مناطق المملكة، وكان همها البحث عن التعايش بين مكونات هذا المجتمع وعلى وجه الخصوص بين السنة والشيعة.
لم يبق العمل في موضوع التعايش والتقارب بين الطرفين مقتصرا على المقالات والخطب والبيانات بل أخذ منحا تصاعديا، تمثل في عرض تلك الأفكار والآمال كمبادرات جادة، وفي سياق هذه الجدية تأتي كتب الصفار وأطروحاته ككتاب (السلفيون والشيعة نحو علاقة أفضل) والذي أشاد به العديد من علماء ومثقفي السنة في السعودية وخارجها كما يعرف كل متابع.
وكتاب (المشكل الطائفي والمسؤولية الوطنية)والذي يتحدث في المسؤوليات المباشرة على المواطنين الشيعة وعلى النخبة الوطنية الواعية، وعلى الدولة، محملا كل جهة قسطا من الحل.
وهناك العديد من الأطروحات يمكن للقارئ أن يطلع عليها في كتاب( الحوار والانفتاح على الآخر) وكتاب (التنوع والتعايش)، وكتاب (الحوار المذهبي والمسار الصحيح)، وكتاب (المذهب والوطن) ناهيك عن ما بث في الفضائيات وما كتب في الجرائد من طرف الصفار عن ذات الموضوع.
ولو لا خوف الإطالة لاستدعيت الكثير من الكلمات الطيبة التي خطتها أنامل الأستاذ المفكر محمد المحفوظ والأستاذ المفكر زكي الميلاد في كتبهما، بالإضافة لما تحويه أغلب أعداد مجلتي الكلمة والواحة.
التطور الأهم الذي أثمرته تلك الجهود هو الحديث الدائر حول وثيقة للتعايش بين السنة والشيعة والتي عكفت لفترة طويلة على مسودات متعددة لصياغة البنود التي تضمنتها الوثيقة.
وكان الشيخ الصفار والقاضي بالمحكمة الجعفرية في القطيف الشيخ علي المحسن يمثلان الجانب الشيعي، فيما مثل الجانب السني الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار في الديوان الملكي السعودي بمشاركة أمراء من الجيل الثاني.
ويبدوا أن بنود الوثيقة شملت العديد من النواحي الإشكالية والمهمة فضمن أول بنود الوثيقة الإقرار بجامعية الإسلام لكل أبنائه فلا يحق لأحد أن يكفر أحداً، ولا يشكك أحد في إسلام الآخر فكلنا مسلمون نتوجه إلى قبلة واحدة، ولنا قرآن واحد، وبالتالي يدان أي كلام تكفيري يشكك في دين الآخر.
وتحدث البند الثاني عن تعزيز الاحترام المتبادل بين الطرفين وإدانة وتجريم أي إساءة من أي طرف للطرف الآخر.
فيما ركز البند الثالث على تعزيز المساواة والعدل بين المواطنين ومواجهة حالات التمييز على أساس مذهبي وطائفي.
أما البند الرابع فتناول التعاون في سبيل خدمة المصالح المشتركة لأمن البلاد ووحدة الأمة.
لا زالت تلك الوثيقة في طور الاقتراح، فهي لم ترى النور بعد، لكن الحديث العلني من الطرفين عنها.
جدير أن أشير إلى أن هنالك جهدا قد بذل مع مجموعة أخرى من السلفيين عبر الدكتور عبد الرحمن المحرج لدراسة وثيقة مماثلة، كما أن هناك وثيقة للتسامح مع العالم والقاضي السلفي الشيخ محمد الدحيم، وهناك حديث عن وثيقة مع عالم وداعية سلفي بارز هو الدكتور عايض القرني، وكلها تدور في نفس الإطار.
تتسع اليوم دائرة الحديث عن ضرورة الوحدة والتعايش بين السنة والشيعة في السعودية، فبعد تصريحات العريفي تدفقت عشرات المقالات المنصفة في مختلف جرائد المملكة تدين هذا النوع من السوء والتهجم، وتدعو للتعاطي مع الطوائف الأخرى بصدق وعدل واحترام، كما دعت تلك المقالات إلى ضرورة طمر الهوة بين هذين المكونين المهمين حفاظا على الوطن وأهله.
وفي الجانب الشيعي كان أبرز تناغم مع تلك الكتابات هو بيان الوحدة الذي وقعه خمسون من رجال الحوزات العلمية, بمناسبة ذكرى مولد الرسول لهذا العام 1431هـ.
لم يحمل البيان جديداً في محتواه, فالوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة كما أسلفت موضوع أشبع تأليفاً ولقاءات وحوارات, الجديد فيه فقط هو أن الوحدة الإسلامية أصبحت مشروعاً تحمله كافة الأيدي المخلصة في المملكة العربية السعودية, وهذه الايجابية ستساعد لا محالة في تثبيت قناعة طالما بقيت محل تجاذب وتنازع بين المشتغلين بقضية الوحدة منذ أكثر من عقد وبين تيارات كانت ترى فيها عيباً وتنازلا وانبطاحا وهرولة وراء الآخر دون جدوى.
من يقترب من قضية الوحدة تطبيقاً لقوله تعالى ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾, ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ سيكون أمام معضلة الإساءة للطرف الآخر واحترام رموزه وشعاراته وشعائره.فلا يمكن لأي سني أن يقبل التعايش مع شيعي يسب ويلعن رموزه دون احترام لمشاعره ومقدساته, كما لا يمكن لشيعي أن يقبل التعايش مع سني يكفره ويخرجه من الإسلام.
إن دعوة الشيعي للوحدة مع السني هي دعوة كاذبة ما لم تكن جاهزة لاحترام رموز السنة, أما القول للسنة: يا إخواننا تعالوا نتحد ونضع أيدينا في أيد بعض ولعن الله فلاناً وفلانا, فهذا ضحك على الذقون ولعب على شعار الوحدة، والعكس أيضا صحيح، فتكفير الآخر لا ينسجم والدعوة للوحدة والتعايش معه.
وقد أكدت صياغة البيان على ذلك في موقعين الأول (يجب الحذر من كل ما من شأنه تفتيت عرى المحبة والمودة بين المسلمين قولا أو فعلا) والثاني طلب سن قانون يجرم ويعاقب كل طرف يسيء للآخر (سن القانون الذي يدين ويجرم الإساءة لمعتقده وأعلام مذهبه).
مثلما في كلمات الشيخ الصفار التي جاءت في كتاب "السلفيون والشيعة نحو علاقة أفضل" (ولكنني أشعر بدرجة من الأمل والتفاؤل على هذا الصعيد، فهناك تطور فكري ثقافي ملحوظ عند مختلف الأطراف الإسلامية يجعلها أقرب إلى القبول بوجود الرأي الآخر والتعامل معه، مهما كانت درجة الاختلاف والتباين، مع التزام كل طرف بثوابته وقناعاته).
ويقول في خطبة الجمعة المنقولة على موقعه في 17/4/2008 تحت عنوان (دعاة التقريب وإشكالات المتحفظين) "وأن الوحدة والتقريب لا تعني تحوّل أتباع مذهب إلى مذهب آخر، ولا تلفيق مذهب ثالث بين المذهبين، ولا طلب التنازل من أحد عن معتقداته وآرائه التي يدين الله بها. فأمور العقيدة والدين لا تقبل المساومة، وهي شأن قلبي يستعصي على الإخضاع، كما يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾".
كما خص الصفار ليلة الثامن من شهر محرم لعام 1431 هـ، للحديث عن (الوحدة والخصوصيات المذهبية)، أدعو الجميع لسماعها لأنها بكاملها في هذا السياق.
أعود لأقول مثلما في كلمات الصفار من معالجة لهوس التنازل، كقوله أن الوحدة لا تعني التنازل، وأن خصائص كل مذهب لا تنازل عنها، وخوفه من شبهات قد تثار عليه باعتباره من المدافعين عن الوحدة والتعايش مع الآخر، جاءت صياغة بيان علماء المنطقة بمناسبة المولد النبوي الشريف حاملة لهذا الهاجس فقد جاء فيه "وأن ما ورثناه - نحن الشيعة - من العلم أو العمل بطريقٍ معتبرٍ عن النبيِّ وآلِهِ (عليه وعليهم السلام) ليس مما يقبل التنازلَ عن قيد أنملة منه، ولا يصح جعلُ التخلي عنه أو إغماض النظر عن الحقائق التاريخية بأي شكل من الأشكال شرطاً للوحدة أو التعايش، كما أننا في الوقت نفسه لن نتخلى عن مبدأ احترام الآخر الذي أكَّد أهلُ البيتِ على جعله إطاراً للتعامل مع الناس أجمعين فضلاً عن شركائنا في الدين".
قبل كل شيء أرى نفسي حائرا، فإذا كان الإنسان يسعى للوحدة والتعايش مع الآخر على قاعدة هذا أنا ولن أتنازل عن مبادئي قيد أنملة، وكان الآخر ينطلق من نفس المنطلق فهوس إرضاء الآخر عند الطرفين بلا مبرر ولا مسوغ لذكره أبدا.
نعم هناك مبرر واحد وهو خوف الاتهام بالتنازل ومحاباة الآخرين والانبطاح لهم، وتمييع القيم والثوابت الدينية، وهذه المقولات هي التي يشيعها جو التشدد المعاكس للوحدة والتعايش مع الآخر.
لقد تكررت على مسمعي صراحة وغمزا ولمزا في مجالس كثيرة للمهرجين والفارغين، وأرى ضرورة أن لا تتحول إلى فزاعة في عملنا وتوجهنا نحو التعايش، وأن لا نبقي أنفسنا في دائرة الدفاع عن اتهام مفترض ووهمي وهو أنكم تبحثون عن إرضاء الآخر.
لقد كانت نقطة بحد ذاتها في بيان علماء المنطقة (خامساً: في الوقت الذي نؤكد فيه على مبدأ الوحدة الإسلامية ووجوب السعي في تحقيقها على أرض الواقع، ونشيد بأي جهدٍ مخلصٍ وصادقٍ يُبذل في هذا الاتجاه، نلفت الأنظار إلى أن الوحدة التي نؤمن بها لا تعني أبداً أن يتخلى المسلم عن بعض ما يتبنَّاه في المعارف أو العقائد أو الشعائر والشعارات أو ما ينطلق منه من مرتكزات، إرضاءً لأطراف أخرى، بل إن الوحدة تعني، في الدرجة الأولى، أن يسعى الجميعُ إلى توفير أجواء المحبة والمودة؛ عبر التركيزِ على ما يجمع ويوحد، والاحتفاظِ بخصوصيات كلِّ طرف لنفسه، وتكريس مبدأ التعايش بين المذاهب الإسلامية).
وسبق للصفار أن قال في المكاشفات التي جرت معه في (الرسالة) وهي ملحق لجريدة المدينة السعودية (وأننا لا يصح أن نتنازل عن شعائرنا إرضاء للآخرين عنا).
لقد قرأت الكثير من المقالات التي كتبت على النت والتي تتهم السنة المنفتحين على الشيعة بالانبطاح والتنازل للمبتدعة، والدفاع عن الروافض والأنس بهم والضحك معهم، إلى آخر ما نسمعه في ساحتنا ولكن من ساحتهم، وضد وحدويهم.
ختاما: ليس لنا موقع على خارطة بلدنا إلا بالتعايش مع غيرنا، ولن يحصل التعايش ونحن سجناء الرعب والتخويف والاتهام، كما لن يمد الآخرون أيديهم ما دمنا ندور في فلك الكلام الإجمالي الذي تفصيله في قلب الشاعر فقط، بل لا بد من مساهمات واضحة ومبادرات يخضع أي لبس فيها للمعالجة، وهذا من الطرفين وليس من طرف واحد فقط.