مصادرة رأي الفتاة في الزواج
ألقى سماحة الشيخ حسن موسى الصفار كلمةً ظهر الجمعة 27 جمادى الأولى 1425هـ (15 يوليو 2004م) عقب الصلاة تحدث فيها عن العلاقة المتبادلة بين العائلة والأبناء، وكيفية جعل هذه العلاقة طبيعية مستمرة. وتحدث عن جانب فرض الشخصية التي تُمارسها بعض العوائل تجاه أبنائها، وتجاه البنات بشكلٍ خاص، واستعرض الرأي الفقهي لهذه المشكلة.وهذا نص الكلمة:
كل إنسان في هذه الحياة له شخصيته ورغباته ومصالحه، وحينما يُراد لعلاقةٍ أن تتم بين شخصين، فلكي تكون هذه العلاقة صحيحة ومستمرة يجب أن تتأسس على الاحترام المتبادل بين هذين الشخصين، أما إذا كانت العلاقة قائمةً على أساس تجاهل مصلحة أحد الطرفين، فهذه العلاقة لا تكون طبيعية، ولأنها غير طبيعية فهي غير قابلة للاستمرار بالشكل السليم. وهذا الكلام يتحقق بالنسبة للأفراد والجماعات على حدٍ سواء.
وحتى من لديهم وشائج طبيعية من العلاقة، كالعلاقة العائلية والعاطفية. فالأب يُحب ولده، ويعطف عليه، والولد يحترم أباه، وينشدُّ إليه، ولكن هذه العلاقة ينبغي أن تتأسس على أساس احترام كلٍّ منهما لشخصية الآخر ولرغباته ولمصالحه.
في فترة صغر الأولاد وقبل بلوغهم سن الرشد من الطبيعي أن يكون القرار للأب، فهو الولي وصاحب الرأي، وعلى الولد –ذكراً كان أم أنثى- أن يتقيد بآراء أبيه. وهذا الأمر معروفٌ وواضح من الناحية الشرعية والقانونية. ومع ذلك فإن هذا الأمر لا يُعطي الأب السلطة المطلقة بحيث يُمارس ما يُريد تجاه ولده، فلو أراد الإضرار بولده فإن الشرع لا يُجوّز له ذلك، ويقف القانون أمامه. وقد تكونت في بعض الدول المتقدمة مؤسسات لحماية الصغار من التصرفات السيئة للكبار، ومؤخراً تأسست في (جدة) هيئة للحماية الأسرية.
وإذا تجاوز الولد مرحلة الصغر، وأصبح بالغاً راشداً، فإن ولاية الأب وصلاحيته السابقة تنتهي، وبالتالي ينبغي أن تتأسس العلاقة على أساس الاحترام المتبادل. على الولد أن يحترم ويبر بوالديه، وفي المقابل ينبغي للوالد أن يُساعد الابن على أن يكون باراً به، كما هو مفاد الحديث الذي يرويه يونس بن رباب، قال: قال الإمام جعفر الصادق ، عن جده رسول الله أنه قال: «رحم الله من أعان ولده على بره. قلت: يا ابن رسول الله كيف يُعين ولده على بره؟ قال : يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره.»
فالولد له مصالحه ورغباته وعواطفه، ولا يحق للأب أن يفرض عواطفه ومشاعره وآرائه ومواقفه على ولده. فيجب أن تكون العلاقة واقعية بعيدة عن المثالية التي يتطلع إليها بعض الآباء من أبناءهم.
يرى الفقهاء أنه ليس للأب حق الطاعة المطلقة على ولده بعد البلوغ، وفي المقابل لا يجوز للولد أن يؤذي والديه، ويخدش مشاعرهما ولكن دون أن يكون ذلك في ضرره. أما إذا كان إرضاء الوالدين يُسبب مضرةً للولد فلا يجب على الولد أن يمتثل لرأيهما. وعلى الأب أن يُحاور ولده فيما يخص الولد ليقنعه برأيه لا أن يفرض عليه ذلك. وهذا الأمر يتحقق في كل الأمور سواء فيما يرتبط بمستقبل الولد الدراسي كاختيار التخصص الذي يُريد الولد الالتحاق به، أو المستقبل العائلي كاختيار الزوجة التي يُريد الولد الارتباط بها؛ في كل هذه الحالات لا يحق للأب أن يفرض رأيه على ولده، وليس أمامه سوى الحوار. يسأل ابن أبي يعقوب الإمام جعفر الصادق : يا ابن رسول الله أريد أن أتزوج امرأة، ولكن أبوي يريدان أن يُزوجاني غيرها، فهل أتزوج من هويت، أو من هوى أبواي؟ قال الإمام : تزوج من هويت أنت، ودع من هوى أبواك.
في مجتمعاتنا واضحٌ أن للأبناء نوع من الاستقلالية في الشخصية، ولكن المشكلة ترتبط في كثيرٍ من الأحيان بموضوع البنات، إذ أن الحالة العامة في المجتمع أن البنت لا يُعترف لها بشخصيتها واستقلالها، وبالتالي يُطلب منها خضوع أكبر وقبول أكثر بأمر الأب، وهذا ليس من صلاحية الأب إلا في الحدود الشرعية، وأما فيما يرتبط بأمور الفتاة الشخصية فعلى الآباء أن يعرفوا أن هناك حدود لسلطتهم، وعليهم أن يتفهموا شخصية البنت. ويقع موضوع الزواج في الصدارة من بين المشاكل المرتبطة بفرض شخصية الأب أو العائلة على الفتاة. والقصص الاجتماعية في هذا الجانب كثيرة جداً، وهنا يجب التعرف على الرأي الفقهي في هذا الجانب.
وأهم الأقوال في المسألة ثلاثة آراء
الرأي الأول: القرار للولي
يرى جمع من فقهاء الإسلام أن قرار زواج الفتاة البكر وإن كانت بالغة راشدة هو بيد وليها وهو الأب والجد للأب بشكل كامل، وليس لها رأي أو اعتراض.
وبهذا الرأي قال الشيخ الطوسي في أكثر كتبه، والصدوق، وابن عقيل، والكاشاني وغيرهم واختار هذا الرأي ودافع عنه الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناضرة.
واستدلوا عليه بنصوص كثيرة صحيحة السند.
منها صحيحة فضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله الصادق قال: «لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أراد أبوها أن يزوجها، هو أنظر لها. وأما الثيّب فإنها تستأذن.»
وصحيحة الحلبي عن الإمام الصادق في الجارية يزوجها أبوها بغير رضاء منها، قال: «ليس لها مع أبيها أمر إذا أنكحها جاز نكاحه وإن كانت كارهة.»
وهذا هو رأي الشافعية والمالكية حيث قالوا: تثبت الولاية إجبارياً للأب وللجد عند عدمه، فللأب تزويج البكر صغيرة أو كبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها. ودليلهم خبر الدارقطني (الثيّب أحق بنفسها من وليها، والبكر يزوجها أبوها) ورواية مسلم (والبكر يستأمرها أبوها وإذنها سكوتها) حملت على الندب)
وجاء في متن المنهاج للنووي - من أعلام الشافعية- (للأب تزويج البكر الصغيرة أو الكبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها)
الرأي الثاني: القرار بيد الفتاة
وقد ذهب جمع آخر من الفقهاء إلى أن قرار زواج الفتاة بيدها ما دامت بالغة رشيدة.
وذلك لأن الأصل سلطة الإنسان على نفسه، وحريته في تصريف شؤون حياته، وأي استثناء من هذا الأصل يحتاج إلى دليل وإثبات.
وهذا الرأي يقتضيه من الأدلة العامة اطلاقات الآيات والنصوص الواردة في النكاح فإن العقد إنما هو الصيغة التي تقع بين الرجل والمرأة فيجب الوفاء به سواء رضي الأب أو الجد أو لم يرضيا بذلك، كما يقتضيه إطلاق قولـه تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ .
كما أن هناك نصوصاً خاصة استدل بها على استقلال البكر في أمرها.
كرواية زرارة عن الإمام الباقر قال: «إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي من مالها ما شاءت فإن أمرها جائز تزوج إن شاءت بغير إذن وليها، وإن لم يكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلا بأمر وليها.»
ورواية سعدان بن مسلم قال: قال أبو عبد الله : لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت بغير إذن أبيها.
وضمن هذا السياق نقل السيد الحكيم في المستمسك خبر ابن عباس: إن جارية بكراً جاءت إلى النبي فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخ له ليرفع خسيسته. وأنا له كارهة، فقال : أجيزي ما صنع أبوك. فقالت: لا رغبة لي فيما صنع أبي. فقال : فاذهبي فانكحي من شئت. فقالت: لا رغبة لي عما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء في أمور بناتهم شيء .
والخبر أورده ابن ماجه في سننه مروياً عن ابن بريدة.
بناء على هذه الأدلة ذهب إلى هذا الرأي كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين وأصبح هو الرأي المشهور، بل ادعى عليه الإجماع من قبل السيد المرتضى. وتبناه الشيخ النجفي في الجواهر، والشهيدان في اللمعة وشرحها، ومال إليه السيد الشيرازي، في بحثه الاستدلالي وتعليقته على العروة الوثقى، وإن كان قد قال في الفتوى بالاحتياط. جاء في الفقه: (والأقرب في النظر أن الولاية بيدها وحدها للأدلة التي تقدمت ولا تقاومها أدلة سائر الأقوال. إذ أدلة سائر الأقوال بالإضافة إلى منافاتها للأدلة العامة مثل الناس مسلطون ونحوه، لا بد وأن تحمل على نوع من الأدب مثل أنت ومالك لأبيك)
وهكذا حمل أصحاب هذا الرأي الروايات الصحيحة التي تجعل الأمر بيد الولي على الندب والاستحباب والتأكيد على مكانة الأب وأخذ رأيه واحترام مقامه.
ومن أهل السنة ذهب الأحناف إلى أن قرار الزواج هو بيد الفتاة، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: ينفذ نكاح حرة مكلفة بلا رضا ولي، ودليلهم أولاً: حديث (الأيم أحق بنفسها من وليها) والأيم التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، فدل على أن للمرأة الحق في تولي العقد. ثانياً: للمرأة أهلية كاملة في ممارسة جميع التصرفات المالية من بيع وإيجار ورهن وغيرها، فتكون أهلاً لمباشرة زواجها بنفسها، لأن التصرف حق خاص لها .
الرأي الثالث: الاشتراك في القرار
ولأن النصوص التي تدل على أن القرار بيد الولي صحيحة وصريحة، وفي ذات الوقت فإن في النصوص الدالة على استقلال الفتاة بالقرار ما هو صحيح ويقويه الشهرة وعمل الفقهاء ويوافق ما يقتضيه الأصل والأدلة العامة، فقد استصعب عدد من الفقهاء الجمع بين الفريقين من الأدلة بحمل أحدهما على الندب والاستحباب، ورأوا أن المتعين القول بالاشتراك في القرار، فلا يمضي قرار الأب في زواج ابنته البكر دون رضاها، ولا قرار البنت وحدها دون رضا الولي.
جاء في العروة الوثقى: ((تشريك بمعنى اعتبار إذنهما معاً والمسألة مشكلة, فلا يترك مراعاة الاحتياط بالاستئذان منهما، ولو تزوجت من دون إذن الأب أو زوجها الأب من دون إذنها وجب إما إجازة الآخر أو الفراق بالطلاق))
ويرى السيد الخوئي أن الاشتراك في القرار هو المتعين في المقام لما فيه من الجمع بين النصوص الواردة، ولخصوص ظهور قوله في معتبرة صفوان: (فإن لها في نفسها نصيباً) أو (فإن لها في نفسها حظاً) فإنهما ظاهران في عدم استقلالها وكون بعض الأمر خاصة لها.
«فعن صفوان قال: استشار عبد الرحمن موسى بن جعفر في تزويج ابنته لابن أخيه، فقال: افعل ويكون ذلك برضاها، فإن لها في نفسها نصيباً. قال: واستشار خالد بن داود موسى بن جعفر في تزويج ابنته علي بن جعفر، فقال: افعل ويكون ذلك برضاها فإن لها في نفسها حظاً.»
وهذا هو رأي الحنابلة أنه يزوجها وليها بإذنها سواء كانت بكراً أم ثيباً .
الخلاصة
انقسم الفقهاء في قرار زواج الفتاة البالغة الرشيدة إلى ثلاثة آراء، الرأي الأول: أن القرار بيد ولي البنت ويستحب له استئذانها، ويراه بعض فقهاء الشيعة والشافعية والمالكية من السنة. والرأي الثاني: أن القرار بيد الفتاة ويستحب لها أن تستأذن أباها، ويذهب إليه المشهور من علماء الشيعة، ويوافقهم الأحناف من السنة. والرأي الثالث: الاشتراك في القرار بيد الولي والفتاة، وهو رأي أغلب فقهاء الشيعة المعاصرين، والحنابلة من أهل السنة.
ويشكل الرأي الثالث ضمانة لمستقبل الفتاة، فإنها لكونها بكراً لا خبرة لها في الحياة الزوجية قد تتسرع في اتخاذ قرار الزواج من منطلق عاطفي، وإذا ما اتخذ الولد قرار الزواج ثم وجده خاطئاً فقرار الطلاق بيده، لكن الفتاة إذا ما ارتبطت بزواج غير مناسب فإن انسحابها منه ليس أمراً سهلاً. لذلك تأتي أهمية التأني من قبلها في اتخاذ القرار وأن ينضم رأي وليها إلى رأيها.
الواقع الاجتماعي يتحدث عن المشكلة
والواقع الاجتماعي يُحدثنا عن قصصٍ كثيرة تقف فيها العائلة حائلاً دون الموافقة على زواج البنت بمن ترغب لمبررات سطحية، وتحصل نتيجةً لذلك مضاعفات كبيرة، منها:
1- لجوء بعض الفتيات إلى الانتحار.
2- نشوء علاقة محرمة والعياذ بالله، خصوصاً مع التقدم الاجتماعي ووسائل الاتصال المختلفة، تحول دون السيطرة على هذا الأمر.
3- تتعقد الفتاة نتيجة الضغوط التي تمر بها، ويلحق بالفتاة ظلم وأذى دون مبرر صحيح.
4- توسع ظاهرة العنوسة.
فعلى الآباء أن يتقو الله في هذا الأمر، فنحن لا نعيش العصر السابق بحيث أن الفتاة تقبل برأي الأب والعائلة دون ممانعة أو حصول مضاعفات، فالخيارات المعاصرة كثيرة وواسعة والفرض لا يُحقق إلا النتائج السلبية. وشخصية الإنسان –ذكراً كان أو أنثى- أصبحت أقوى وأكثر إصراراً على رغباتها من السابق.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.
وبإمكانك الاستماع إلى الكلمة من خلال الوصلة التالية:
media/ent_friday/1425/14250527.asf